صحيفة المثقف
  • مدخل
  • الاولى
  • مقالات
    • أقلام حرة
    • آراء
    • أقلام ثقافية
    • قضايا
    • أقلام فكرية
    • شهادات ومذكرات
    • كتب واصدارات
    • علوم
    • دراسات وبحوث
    • ثقافة صحية
    • تنوير واصلاح
  • أدب
    • نصوص
    • ترجمات
    • هايكو
    • روافد
    • قراءات نقدية
  • حوارات
    • حوارات عامة
    • مدارات حوارية
    • نص وحوار
    • مرايا حوارية
    • حوار مفتوح
  • تقارير
    • تقارير وتحقيقات
    • أوركسترا
    • يوتيوب المثقف
    • اخبار ثقافية
  • استفهامات
    • مواربات
    • استطلاع
  • فنون
    • مقاربات فنية وحضارية
    • لوحات فنية
    • معارض تشكيلية
  • ملفات
    • المرأة في أسر العبودية
    • المرأة والسياسة
    • مستقبل الديمقراطية
    • المثقف والانتخابات
    • ملف: المثقف 10 سنوات عطاء زاخر
    • ملفات سابقة
  • تكريم
    • يحيى السماوي
    • وفاء عبد الرزاق
    • عبد الرضا علي
    • شوكت الربيعي
    • فرج ياسين
  • المؤسسة
    • رئيس التحرير
    • إصدارات المثقف
    • كتب ماجد الغرباوي
    • نشاطات المثقف
    • مناسبات المثقف
    • جوائز وشهادات
    • جائزة الابداع
    • ملتقى المثقف
    • ساهم معنا
  • كتّاب مشاركون
  • اتصل بنا

المثقف في حوار مفتوح مع ماجد الغرباوي (209): القداسة الذاتية والأخلاق

التفاصيل
كتب بواسطة: صحيفة المثقف

majed algharbawi11خاص بالمثقف: الحلقة التاسعة بعد المئتين، من الحوار المفتوح مع ماجد الغرباوي، حيث يواصل حديثه عن الأخلاق:

قداسة الرموز

ماجد الغرباوي: يمثل البعد المثيولوجي مقوما أساسا لمفهوم قداسة الرموز بالمعنى المتداول، لا فرق بين الرموز الدينية وغيرها، بهذا يصدق أن الأسطرة التي ربما تكون مجرد خرافة قاسم مشترك "مشكك" بين مصاديقها، فيكون تفاوت انطباق المفهوم على مصاديقه قدرها، وهذا يعود لمنشأ القداسة، وكيفية تجلي الرمز في وعي المتلقي، باعتبارها وليدة مخيال شعبي، وأوهام شخصية، يتحكم بها مستوى وعي الناس وثقافتهم وقدرتهم على إدراك الحقائق، وكيفية تفسير الظواهر الغريبة. لذا يتفاوت تقديس الرمز الواحد من بيئة إلى أخرى. فبعضهم تجده خاشعا وجلا وهو يطوف من حول  ضريح من الأضرحة المقدسة، لكنه غير مكترث بين يدي ربه وهو يصلي. أو يحلف بالله كاذبا، بينما يرتبك عندما يقسم بمقدساته وأوثانه المحلية. وقد حدث مرة في مدينتنا: أنْ ترافع إثنان للحاكم حول سرقة بقرة، وكاد الحاكم يحكم ببراءة المتهم لعدم كفاية الأدلة وبعد يمينه وقسمه بالله وكتابه المبين (البينة على من ادعى واليمين على من أنكر). غير أن المدعي إلتمس الحاكم أن يحلف المتهم بـ(فختاية)، وهي إحدى مقدساتهم، يعتقد أهل القرية أن الله قد حباها بكرامة، وقد دلت الآثار التكوينية على ثبوت كرامتها، ولما طلب منه الحاكم ذلك، قال: (أنْ أحلف بفختاية كاذبا فلا.. تعال وخذ بقرتك)؟!!!. فكيف يرتبك أمام مقدس شعبي لا حقيقة له سوى أوهام الحقيقة، ويكذب بالله الخالق كذبا؟. كيف وقع هذا الفارق الهائل في تقديره؟ هنا يلعب الوعي والحكايات وما يروى من شواهد دورا أساسا في ولادة المقدس، ومن ثم تكريسه مع كل حكاية جديدة، عن معجزاته، والآثار التكوينية المترتبة على الإيمان وعدم الإيمان به وبـ (شارته / حوبته) حسب اعتقادهم. لا فرق بين شخص وغيره، ما لم يتداركه الوعي، ويكف عن التفسيرات الغيبية لبعض الظواهر، خاصة البسيطة. إن قليلا من الوعي يسلب الرمز أسطوريته عبر تقديم تفسيرات علمية للظواهر الطبيعية. وهذا يؤكد أن البعد المثيولوجي للمقدس رغم قوته وإلهامه وهيمنته لكنه يبقى نتاجا للمخيال الشعبي، محكوما بظرفه الزماني والثقافي ومستوى الوعي. فانحسار العلم يقابله طغيان المثيولوجية، والعكس صحيح عندما يفتح العلم آفاقا كبيرة لتفسير الظواهر الطبيعية. وكلما تقدم العلم انحسرت الحاجة للمقدس / للغيب بل وحتى للدين؟

وبالتالي تتهاوى قداسة الرمز مع تلاشي مثيولوجيته. وتُبطلُ سحرَهُ وتوهجهَ كلُ محاولة لاكتشاف بشريته وعدم أسطوريته. فرمزية المقدس تتقوم  بإبهامه وغموضه وما يشاع حوله، وصدى إيحاءاته وهيمنته اللا شعورية، وهي هيمنة نسبية، تتحكم بها خصوبة مخيلة الفرد، وقدرته على التحليق في أفق الخيال. والعكس صحيح، وهذا أحد أسباب استماتت الخطاب الطائفي لتفادي كل تفسير بشري يسلب الرموز التاريخية والدينية قدسيتها. وهو موقف انفعالي تثيره القراءات النقدية، حيث تنتاب الطائفي نوبة قلق وارتباك لا يجد سوى الخروج عن اللياقات الأدبية والأخلاقية جوابا، بينما العقل المنفتح والروح العصية على العبودية، تتفاعل مع القراءات النقدية بحثا عن الحقيقة. وأما السبب الثاني لهستريا الردود الطائفية هي دفاعا عن المعنى الذي كان يضفيه الرمز المقدس على حياته ويعقد عليه آماله وخلاصه، ثم فجأة تتداعى آماله، فهي موقف نفسي لا شعوري يائس. إن نقد قداسة الرموز التاريخية والدينية خطوة مهمة لاستعادة العقل المخدّر وتحرير النفس من روح العبودية. إذاً، فالترحل جميع اليقينيات الصلبة لتفادي خطورتها على الحقيقة والوعي، إنها نتاج عقل مثيولوجي، مسكون برهاب القداسة. إن نقد القداسة ليس أكثر من اكتشاف بشرية الرمز المقدس، وتفسير الظواهر تفسيرا علميا لا غيبيا. وهذا ما ترفضه القراءات الرسمية للأديان، والمؤسسات الدينية التي يمنحها المقدّس شرعية وجودها، وتمارس صلاحياته المفترضة وكالة!!. إن نقد القداسة يستعيد مكانة الرموز الدينية بعيدا عن الإسفاف والغلو والمبالغة والتهويل. والحيلولة دون استغلال قدسيته ومكانته لأغراض سياسية وطائفية، وهذا هو الأخطر.

إذاً، يمكن تحديد خصائص المقدس أو العناصر المشتركة وفقا للرأي المتداول، وهي خصائص مشتركة، رغم نسبيتها وتفاوتها، بدءا من أبسط تمظهراتها، وهذا يمهّد لدراسة المقدسات وتفكيكها، للتعرف على مدى حقيقتها وبشريتها:

أولاً- الإبهام: وهي صفة مشتركة بين المقدسات، بشكل يكون المفهوم عصيا على الفهم والإدراك سوى صورة هلامية، مبهمة، غامضة، تبعث على الحيرة وتثير التكهنات، تلين له النفس وتخشع، تحسّبا لمفاجأته. وبشكل أدق، المقدس في وعي الناس لغز، لا يعطي نفسه بسهولة. مغرٍ يثير الدهشة. سرّ قوته في غموضه، وهيمنته، وقدرته على إثارة الخيال. حداً يتماهى القلب، يخشع في حضرته، يترقب، وجميعها إيحاءات نفسية لا صدقية لها سوى ما يجول في خياله من انطباعات عنه، وما يتولد عنها من مشاعر وممارسات طقسية، تتجلى فيها هيمنة المقدس. فيصدق أن الطقوس فخ القداسة. وهذا يكفي مبررا لملاحقتها وكشف حقيقتها.

ثانياً- المثيولوجيا: إذ جميع المجتمعات تتعاطى مع المقدس باعتباره كائنا أسطوريا خارقا في قدراته ومعاجزه، بغض النظر عن مصدرها، هل هو ديني أم تاريخي. غير أن الإيمان بأسطورية المقدس متفاوتة، تخضع لمستوى وعي الفرد وثقافة المجتمع. فهناك من لا يكتفي بأسطرة الرمز المقدس، بل ويبرر للخرافة رغم إيقاعها السلبي على النفس البشرية. وبالتالي الجميع يعتقد أن شخصية الرمز المقدس تنطوي على أسرار، يتعذر إدراكها، ومعرفة حقيقتها. وأنها مطعى إلهي، وهبة ربانية غير متاحة لأحد، وهي الحد الفاصل بين المقدس والمدنس. أو بين السماوي والأرضي. وعلى هذا الأساس يتقبلون كل ما يسمعونه من حكايات ومعاجز وخوارق عن الرمز المقدس مهما كانت خرافية!!. بمعنى آخر، أن نفس مفهوم القداسة يهيء النفس لتقبل ما يشاع عن الرمز. حداً لا يستبعد شيئا، وهذا الاستسلام بدوره، كما ينعكس على ذات الفرد، ينعكس على ثقافة المجتمع، وبهذا الشكل يغدو المجتمع حاضنة للمقدس بجميع دلالاته.

ثالثا- التعالي: الذي يدخل في صميم القداسة، ويكون دالا عليها. كل مقدس يتعالى على النقد والمراجعة. موصدة أبوابه سوى باب التكهن حول حقيقته وكنهه. لا لأن معرفة حقيقته ممتنعة ذاتا، بل لأنها صفة المقدس، فهو كائن ميتافيزيقي في حقيقته، فكيف يمكن للإنسان فهم حقيقته وإدراك كنه. وما الكرامات والمعاجز سوى معطى ميتافيزيقي تدل عليها آثاره التكوينية. وهي في الواقع ليست آثارا تكوينية بل أسبابا طبيعية يطمسها رهاب القداسة، ليكتفي الفرد بأوهامه وأوهام الحقيقة. لذا تتساقط تلك الكرامات الواحدة تلو الأخرى مع يقظة الوعي، ومعرفة الأسباب الطبيعية الكامنة وراءها.

رابعا – الحصانة: حيث يتناسب مستوى القداسة والتبجيل والرفعة مع حجم الحصانة الذاتية والموضوعية. الأول خصائص ذاتية تحكم علاقة المقدس بغيره وفق معادلة: مقدس / مدنس. كانتسابه للمتعالى / للخالق أو للآلهة. والموضوعية مجموع الواجبات والمحرمات التي تحدد علاقة المدنس بالمقدس وتعزز قداسته. كقوله تعالى: (فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى)، إضافة للحاضنة الاجتماعية. فتأتي المحرمات والواجبات لتكريس حصانة المقدس. أي أن مقوم المقدس مغايرته للمدنس أو الدنيوي، فتكون النواهي دالة على هذه المغايرة. فالتابوات أسيجة القداسة، وحصونها المنيعة. تهيء النفس للتعامل مع كائن مغاير، ميتافيزيقي. أنظر لشعيرة الحج في الإسلام مثلا، باعتبارها شعيرة مقدسة، وأقرأ عدد المباحات التي تغدو محرمات بعد ارتداء ملابس الإحرام. جميعها ينفي تجانسه مع الدنيوي. فيباغت الحاج شيء من الرهبة والخشوع وهو يمضي في خطوته التالية / التلبية. فهذه الخطوات من شأنها رسم صورة المقدس في ذهن الحاج. ولو كان الحج مجرد سفرة سياحية، يفقد قدسيته، بينما تنتاب الحجاج مشاعر روحية، وفيض من الروحانية، كانت شعائر الحج منذ بداية الميقات تهيئ لها. وقد عززت الآيات قدسية الحج بتشريعات جزائية لمن يخالف شروط الحج أو يهتك حرمته من خلال سلوك مغاير للفريضة الدينية. وبالتالي تأتي التشريعات لتعزيز قدسية المقدس وفق معادلة: مقدس / مدنس. مقدس / دنيوي. وهي معادلة تعكس عمق المغايرة بين المقدس والمدنس. بمعنى أدق ثمة مغايرة جوهرية بينهما.

إن هذه الخصائص لا تنفي غيرها، لكنها تمثل معالمها الرئيسية، ويمكن للباحث دراسة أبعاد أخرى لظاهرة المقدس. كرمزية المقدس التي يمكن أن تكون عنصرا مشتركا. لكن الأهم أن كل واحدة منها تؤثر في الموقف الأخلاقي. كيف نفسر انقلاب الحقيقة وأثرها النفسي على المتلقي أخلاقيا؟.

مناشئ القداسة

إن سلطة الرموز المقدسة تبرر السؤال عن مصدرها. هل هي ذاتية أم مكتسبة؟. دينية أم دنيوية؟.

هذه الأسئلة وغيرها تساعد على تفكيك المقدس بعد تحديد مصدر قدسيته وشرعيته. من خلال الكشف عن بشريته، وتحديد مدى حقيقته. خاصة الجانب المبهم في المقدس، ذلك الغموض الملهم الذي يلفه، والذي يمارس حضوره كمرجعية ميتافيزيقية وراء معطى القداسة التي يسبغها على الرمز الديني أو التاريخي. فرهاب القداسة يرتهن لحل لغز المقدس وما ينطوي عليه من أسرار أو ما يوحي به من إيهامات. وهذا يقتضي نقد محمولات المقدس لسلب الرمز سلطته، وتنكشف غشاوة العمى عن عيون الناس. بهذه الطريقة يفقد المقدس هالته السحرية، ويتحرر الضمير الأخلاقي من سطوته. وهنا يلعب المنهج التاريخي دورا اساسا لتحري تاريخ المقدس، بدايته، مراحل تطوره. كما لو دلت البحوث التاريخية عدم انتساب رمزا من الرموز الدينية للعائلة المقدسة التي هي مصدر قداسته. أو حينما يكتشف الباحث الحكاية الأولى لتاريخ المقدس، فقد تكون مجرد خرافة، تطورت بفعل الحاجة للمقدس، فتجد كثيرا من الشعوب يعكفون على مقدسات، كانت بدايتها مجرد قصة خيالية أو وهم استبد بالقوم ثم راحت تتطور مع مرور الزمان. خاصة حينما ترتبط بالمقدس مصالح سياسية. فالجانب المبهم هو المدخل لتفكيك المقدسات، وبيان ما هو حق وما هو باطل. فثمة تداعيات كبيرة تترتب على القداسة، تتعارض مع القيم الأخلاقية، حينما ترفع الرمز فوق النقد والمراجعة دون حق، وتصبح آراؤه أحكاما نهائية ملزمة. وهذا يدعو لتقديم معنى آخر لمفهوم القداسة، يخرج به من المعنى المتداول الذي فرضته إما سذاجة الناس أو تزوير الوعي. الأول يخص المراحل الأولى من حياة المجتمعات البشرية، وكل مجتمع لا يملك مقومات الثقافة والوعي. وأما تزوير الوعي فهي جهود منظمة مقصودة تحت دوافع دينية أو طائفية أو سياسية، تنسج حكايات وقصصا وكرامات، ترفع من شأن الرمز الديني، ليرقى إلى مستوى القداسة بمفهومها المتداول الذي يعني تعاليه فوق النقد والمراجعة. ويسعون إلى تغييب العقل من خلال الطقوس والمناسبات المرتبطة به.

قداسة ذاتية

بدءا نقول أن القداسة نوعان، ذاتية ومكتسبة:

القداسة الذاتية تختص بالخالق الحقيقي، سواء بالمعنى المتداول لمفهوم القداسة أو بالمعنى الذي سنقدمه. فهو حقيقة متعالية، كلي القدرة والإرادة. مبهم، غامض حد الجهل بحقيقته وكنهه. موحٍ، لمّاح مهيمن، فهو: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ)، (لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ)، وقد حارت بكنهه العقول، ومازال الجدل وسيبقى لمعرفة حقيقته، لكن دون جدوى لوجود مغايرة جوهرية حقيقية، وليست مجرد دعوى. وهذا لا يتنافى مع شرط الإيمان في تصديق وجوده. نحن بصدد ضابطة عامة: لا تصح القداسة الذاتية إلا من اتسمت به صفات الكمال المطلق، وهو مختص بالخالق تعالى. وإذا كان هناك مفهوم للمقدس في مقابل المدنس فهو منحصر به، دون غيره: (هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ، هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)، (يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ). فقداسة الخالق ضرورة ذاتية، لأنها مقتضى تعاليه. فهو مقدس بالضرورة. لا تتوقف قداسته على جعل أو إفاضة من الغير. فيكون هو مصدرها، يفيض قدسيته على من يشاء. وعليه فانطباق مفهوم القداسة عليه حقيقة لا مجازا.

ويلحق بالخالق الآلهة في أساطير الأولين، رغم تعددها، لا باعتبارها حقيقة، بل لأن القداسة مقوّم لمفهوم الإله. سواء كان إلها حقيقيا كالخالق أو مفترضا كآلهة الحضارات القديمة، بل جميع الآلهة وفي جميع الأديان، شريطة أن تكون متعالية، ذات بعد ميتافيزيقي، وإذا كان ثمة كلام حول صديقتها، فبسبب تعددها، لتنافي التعدد مع الوحدة. والخالق الحقيقي واحد أو لا يكون كاملا، فيكون حادثا ويحتاج إلى خالق. فالمفهوم المتعالي هو المقصود أولا وبالذات، حتى ولو تجسد في موضوع خارجي، كالأصنام والأوثان التي هي  مجرد إشارة حسية لمفهوم مفارق، متعالٍ، وهو المفهوم المرتكز في أذهان الناس. وهو بلا شك مفهوم ميتافيزيقي. وهذا هو المتبادر من مفهوم الإله. وعلى أساس هذا التبادر يتم التعامل معه من قبل المؤمنين به، وفرز المقدس عن المدنس. بل يصدق أن تمام حقيقة مفهوم الإله في المجال العام قدساته، لذا تنهار باكتشاف زيفه. وبالتالي فإن مفهوم القداسة هنا ينطبق على مصداقه، لأن صدق المفهوم لا يتوقف على وجود المصداق، بل يمكن انتزاعه من صورة ذهنية. وهنا نحن ننظر لذات مفهوم المقدس الذي هو مقوم لمفهوم الإله، بغض النظر عن مصداقه الخارجي. فتارة يكون المصداق مصداقا حقيقيا كما بالنسبة لواجب الوجود، الذي يمكن الإشارة له من خلال مخلوقاته وبديع آياته ونظام خلقه. أو يكون مفترضا يعكس إسقاطات الإنسان عليه، كالآلهة المصطنعة. والكلام على مستوى المفهوم سواء هناك من يؤمن بوجود خالق حقيقي أم لا. نخلص أن الإله هو المصداق الوحيد للقداسة الذاتية. وما عدا ذلك تكون القداسة مكتسبة، ونسبية.

 

يأتي في الحلقة القادمة

............................

للاطلاع على حلقات:

حوار مفتوح مع ماجد الغرباوي

 

للمشاركة في الحوار تُرسل الأسئلة على الإميل أدناه

almothaqaf@almothaqaf.com

 

علي رسول الربيعي: سؤال الى هابرماس

التفاصيل
كتب بواسطة: د. علي رسول الربيعي

علي رسول الربيعيإن التأمل والنظر الموسع في الدراسات التي تسـاهم في تحليل وتفسير ونقد اعمال هابرماس المستمرة والمعقدة تمنحنا القدرة على أن نصل الى القضايا المطروحة للنقاش راهنًا وبالتالي ما يمكننا صياغة السؤال:

- كيف يمكن التوفيق بين النضال التاريخي والسياسي من أجل التحرر وبين التحرر الذي يوفره وضع الخطاب المثالي؟

- ما علاقة الإجماع العقلاني بحالة الخطاب المثالية المضادة للواقع بالحقائق التوافقية للوجود الاجتماعي الملموس؟

- لماذا هناك التقليل من أهمية علوم نقد الأيديولوجيا والتحليل النفسي، التي تخدم المصالح التحررية، في كتاباته الأخيرة؟

- كيف يمكنه التوفيق بين التناقضات التي نجدها بين نظريته التي طرحها في كتابه المصلحة والمعرفية بخصوص المعرفة والمصالح البشرية مع نظرياته عن العقلانية التواصلية؟

2370 هابرماس- أليست علومه في إعادة البناء (reconstructive sciences) "متعالية" أكثر منها تجريبية؟

- هل الكفاءة التواصلية عامة عالمية أم أنها صفة مميزة لبعض المجتمعات الحديثة؟

- كيف يمكن التوفيق بين شكلية العقلانية التواصلية والفهم التفسيري؟

- كيف يمكن التوفيق بين العلاقات المتبادلة بين المعايير وظروفها التجريبية مع إجماع عقلاني لغوي أحادي الجانب؟

- أليست نظريات بياجيه وكولبيرج التطورية، التي يتخذها هابرماس كنماذج عالمية، مرتبطة بالثقافة؛ ألا ترتكب هذه النظريات واستخدام هابرماس لها مغالطة طبيعية؟

- ألم يتم تجاهل مشكلة معايير الحقيقة في إجرائية الحقيقة بالإجماع العقلاني؟

- هل يمكن لنظرية معيارية لا تفحص أصولها التاريخية الأخلاقية أن تحافظ على أهميتها الفلسفية أو السياسية؟

- هل نجت الفلسفة الكانطية المتعالية التي يؤهلها هابرماس من صعوبات الأسسية؟

 

الدّكتور عليّ رسول الرّبيعيّ

 

ميثم الجنابي: انطون سعادة وأيديولوجية الفكرة القومية الاجتماعية (5)

التفاصيل
كتب بواسطة: ا. د. ميثم الجنابي

ميثم الجنابيفلسفة الانبعاث القومي و"الحقيقة السورية"

إن مضمون البعث القومي بوصفه رسالة في فلسفة انطون سعادة القومية يتطابق مع مضمون "الرسالة" الشاملة للنفس. بمعنى أنها تضع أولوية وعي الذات القومي وإعادة بنائه على أسس جديدة لها تراثها الخاص. وكتب بهذا الصدد يقول، بأنَّ "رسالة البعث القومي الاجتماعي إلى السوريين ليست متولدة من مجرد كره الأجنبي، بل من رغبة حقيقية في صهر نظرياتنا وعقائدنا المتنافرة وسبكها في وحدة روحية لا تعود تتمكن المطامع الأجنبية من تفسيخها وإضعافها". واستكمل هذا الموقف بفكرة تقول بضرورة أنْ يكون الأساس القومي الاجتماعي مبنياً على قاعدة "الوحدة الروحية الكلية في كل شيء". ووجوب أنْ تشكل هذه "الوحدة الروحية كل فكرة وكل نظرة في حياتنا"[i]. وبغضّ النظر عما في هذه الفكرة من نزوع كلياني إلا أنَّ مضمونها الفعلي يقوم في محاولتها بلورة رؤية عقلانية واقعية ومستقبلية تجاه الرسالة القومية الذاتية، التي وجدت تعبيرها النموذجي والتكامل في مبادئ الحزب السوري القومي الاجتماعي الثمان. ولم تكن هذه المبادئ الثمانية الكبرى سوى الصيغة السياسية لما وضعه في كتابه (نشوء الأمم)، أي الصيغة السياسية للفكرة النظرية. وقد كان منطلقها العام يقوم في الإجابة على سؤال الهوية:"من نحن؟". ذلك يعني إنَّ هذه المبادئ الكبرى ليست إلا الصيغة النظرية والعملية الدقيقة لفكرة البعث والرسالة وحدودها الملموسة. وهي كالتالي:

- نحن سوريون ونحن أمة تامة.

- القضية السورية هي قضية قائمة بنفسها مستقلة كل الاستقلال عن أية قضية أخرى.

- القضية السورية هي قضية الأمة السورية والوطن السوري.

- الأمة السورية هي وحدة الشعب السوري المتوّلدة من تاريخ طويل يرجع إلى ما قبل الزمن التاريخي الجلي.

- الوطن السوري هو البيئة الطبيعية التي نشأت فيها الأمة السورية. وهي ذات حدود جغرافية تميزها عن سواها تمتد من جبال طوروس في الشمال الغربي وجبال البختياري في الشمال الشرقي إلى قناة السويس والبحر الأحمر في الجنوب شاملة شبه جزيرة سيناء وخليج العقبة، ومن البحر السوري في الغرب شاملة جزيرة قبرص إلى قوس الصحراء العربية والخليج العربي في الشرق. ويعبر عنه بلفظ الهلال السوري  الخصيب ونجمته جزيرة قبرص.

- الأمة السورية مجتمع واحد.

- تستمد النهضة السورية القومية الاجتماعية روحها من مواهب الأمة السورية وتاريخها الثقافي السياسي القومي.

- مصلحة سوريا فوق كل مصلحة"[ii].

لقد كثّفت هذه المبادئ مضمون الفكرة القومية الجديد وحدودها النظرية والعملية. من هنا انطلاقها للإجابة حول السؤل المتعلق بالماهية، من أنَّ التعريفات المنتشرة مثل اللبناني والفلسطيني والشامي والعراقي والعربي لا يمكنها أنْ تكون أساساً لوعي قومي صحيح. ومن ثم لنهضة "الأمة السورية" ووحدة حياتها ومصيرها[iii]. أما المقدمة الضرورية لتنفيذ ذلك فتقوم بالإقرار بفكرة "سورية للسوريين" وفكرة "السيادة القومية". بمنى ضرورة الإقرار بوجود "أمة سورية تامة" لها حق السيادة الذاتية والحديث باسمها بوصفها أمة مستقلة لها كيانها الخاص. مع ما يترتب عليه من إقرار بترابط ووحدة الأرض والجماعة بصورة لا تتجزأ. مما يحقّ بدوره للسوريين وحدتهم وحقوق تمثيلهم الذاتي. وهذا بدوره ليس إلا النتيجة الملازمة للإقرار بعدم الانفصال بين الأمة والوطن. وذلك لأنَّ "الأمة بدون وطن مُعَيَن لا معنى لها، ولا تقوم شخصيتها بدونه"، كما يقول انطون سعادة. إضافة لذلك إنَّ هذا الفهم والإقرار يؤدي بالضرورة إلى إدراك الحقيقة القائلة، بأنَّ وحدة الأمة والوطن تجعل الفرد والجماعة يتوجهان صوب فهم الأمة على حقيقتها، أي إدراك أنَّ "شخصية المتحد هي شخصية الأمة"[iv].

إنَّ هذا الفهم يجرّد الفكرة القومية من النزوع العرقي الضيق ويربطها بفكرة الأرض والتاريخ الثقافي الذاتي. من هنا قول انطون سعادة، بأنَّ مقصود القومية السورية الاجتماعية ليس رد الأمة إلى سلالة أو عرق معين، بل النظر إليها باعتبارها نتاج تاريخ طويل لتداخل مختلف الأقوام والشعوب. وبالتالي، فإنَّ "مبدأ القومية السورية ليس مؤسسا على مبدأ الوحدة الاجتماعية الطبيعية لمزج سلالي متجانس". على العكس، إنَّ مضمونها يقوم في إبراز الحقيقة القائلة، بأنَّ "مدلول الأمة السورية يشتمل على هذا المجتمع الموَّحد في الحياة، الذي امتزجت أصوله وصارت شيئاً واحداً. وهو المجتمع القائم في بيئة واحدة ممتازة عرفت تاريخياً باسم سورية وسماها العرب (الهلال الخصيب) لفظا جغرافياً طبيعياً محض لا علاقة له بالتاريخ ولا بالأمة وشخصيتها"[v]. وليس مصادفة أنْ يكون كل المؤرخين الذين حصروا سوريا بمكان جغرافي يخرج منه العراق وفلسطين وغيرها، هم أجانب. بينما يدل "تاريخ الدول السورية القديمة الأكادية والكلدانية والآشورية والحثية والكنعانية والآرامية والامورية على اتجاه واحد: الوحدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في الهلال السوري الخصيب"[vi]. إنَّ هذا الفهم للحقيقة السورية بهذا الشكل يجعل فهم ما جرى فيها، بما في ذلك من حروب، مجرد أسلوب للسيطرة عليها كلها بوصفها كلاً واحداً. بمعنى أنَّ هذه الحروب لم تكن إلا نزاع على السلطة بين قبائل الأمة الآخذة في التكوّن، والتي استكملت بعد تكوّنها.

لقد أراد انطون سعادة بهذا الوصف إزالة البعد الجغرافي عن "سورية" وإحلال الفكرة القومية وإطلاق نسبها التاريخي الثقافي عليها. ووجد في ذلك إحدى المقدمات الفكرية الضرورية لتأسيس حدود ومعنى الفكرة القومية الاجتماعية. من هنا سعيه لإعلاء فكرة السوري والسورية عوضا عن مختلف التعابير الجزئية والأوصاف الجغرافية. وحتى حالما أقرّ بصورة جزئية بتوصيف"الهلال الخصيب" نراه يدرجه ضمن عبارة الهلال السوري الخصيب. بمعنى جوهرية الفكرة السورية. من هنا قوله بأنَّ الفكرة القومية التي يدعو إليها لا تتنافى مطلقا "أنْ تكون الأمة السورية إحدى أمم العالم العربي، أو إحدى الأمم العربية"، تماما كما أنْ "تكون الأمة السورية أمة عربية لا ينافي أنها أمة لها حق السيادة المطلقة على نفسها ووطنها". ووجد في "إغفال هذه الحقيقة" السبب القائم وراء إثارة مختلف الصراعات الجزئية والتقليدية بين "النزعة المحمدية العربية والنزعة المسيحية الفينيقية التي مزقت وحدة الأمة وشتت قواها"[vii]. لهذا نراه يشدد دوما على ضرورة فصل الدين عن الدولة وبالتالي إزالة الحواجز بين مختلف الطوائف والمذاهب، بوصفه المبدأ الأساسي للوحدة القومية الحقيقية، كم انه دليل الوجدان القومي[viii]. من هنا استنتاجه النظري والعملي القائل، بأنَّ الفكرة القومية الاجتماعية هي المخرج من هذا المأزق[ix]. فهي الفكرة القادرة على إرجاع "سوريا" إلى أصولها الذاتية.

إنَّ الخلل الشكلي والمعنوي الذي سحب وراءه خلل الرؤية السياسية تجاه إدراك "الحقيقة السورية" بمعناها التاريخي والثقافي والدولتي يقوم في ضعف أو انعدام الإدراك السليم لسورية بوصفها كلاً واحداً حتى في اشد حالات صراعها الداخلي وتقسيمها. فقد جرت من الناحية التاريخية محاولات عديدة لتجزئة العالم السوري. إذ أطلق بيزنطة الاسم على سورية الغربية، بينما أطلقه الفرس على سورية الشرقية (العراق). أما البريطانيون والفرنسيون فقد قسّموه حسب مصالحهم إلى فلسطين وشرق الأردن ولبنان وسوريا (الشام) والعراق. وجرى حصر سوريا بمنطقة الشام فقط. كما جرى إخراج قبرص منها مع أنها قطعة من أرضها في الماء[x].

إنَّ الرجوع إلى الحقيقة السورية يكمن بما فيها من أصول ذاتية تاريخية ثقافية جعلتها كلاً واحداً متميزاً وفاعلاً في الوعي القومي نفسه. إذ لسوريا مآثرها الثقافية التاريخية الكبرى. ففيها نشأت الحروف، بوبصفه أحد أعظم الانجازات الثقافية الكونية. وفيها نشأت الشرائع المدنية وعمران البحر المتوسط. ومنها ظهرت شخصيات كبرى مثل زينون وبار صليبي ويوحنا فم الذهب وافرام والمعري وديك الجن الحمصي والكواكبي وجبران وغيرهم. إضافة إلى قواد عسكريين عظام مثل سرجون الكبير واسرحدون وسنحاريب ونبوخذنصر وآشور باني بال وهاني بعل إلى يوسف العظمة[xi]. ومن هذه الحصيلة توصل إلى استنتاج عام يقول، بأنه "في النفس السورية كل علم وكل فلسفة وكل فن في العالم"[xii]. مما يعطي لها حق التعامل مع نفسها باعتبارها ذاتاً قومية واحدة، أي أمة لها استقلالها المادي والمعنوي المرتبط بماهيتها الخاصة. وقد تضمن هذا الاستنتاج بالضرورة على فكرة الدولة القومية باعتبارها أداة تجسيد الروح القومي وأسلوب تقويته وبعثه وترقيته الدائمة.

لقد وضع انطون سعادة علامة مساواة تامة بين القومية والدولة الحديثة. وانطلق بذلك من كون الدولة هي الصيغة المثلى والتامة تمثيل المصالح العامة. لهذا نراه ينظر إلى الدولة باعتبارها "أرقى مرتبة في المصالح". ووجد سبب ذلك في كونها المؤسسة التي تشتمل على "جميع مصالح المُتَحِّد" (الجماعة). وتمام هذه الجماعة الحديثة هي الأمة. فالأمة هي أهم مُتَحِّد[xiii]. وبالتالي "كلما ارتقى المُتَحِّد في ثقافته المادية كلما ازدادت المصالح المعنية التي من شأنها ترقية الحياة الجيدة وتجميلها"[xiv]. فالقطر الذي هو مُتَحِّد الأمة أو المُتَحِّد القومي هو أكمل وأرقى متحد. وذلك لأن المصالح تنشأ في المجتمع لا خارجه، كما يقول انطون سعادة. إضافة لذلك إنَّ المصالح هي الحياة. وبما أنَّ الإرادة على قدر المصلحة، من هنا، كلما كانت المصلحة أساسية دائمة كانت الإرادة كذلك[xv]. ولا يمكن تجسيد وبلوغ كل ذلك بدون الدولة.

انطلق انطون سعادة في فهمة لماهية وقيمة وغاية الدولة في كونها الأداة الكبرى التي تجّسد الروح القومي وتعمل على ترقيته. من هنا فكرته عن انه حالما ظهرت الدولة "أصبحت هي شخصية المجتمع وصورته، يَعْظَمُ بعظمتها ويصغر بصغرها". ذلك يعني إنَّ الدولة هي التي تكوّن المجتمع، وتعين مداه، وتكّيف شئون حياته، وتمّثل شخصيته. واعتقد بأنَّ وظيفة الدولة كانت على الدوام منذ أنْ انبثقت "مع فجر التاريخ"، تماما بالقدر الذي تعمل فيه على إنشاء التاريخ نفسه[xvi]. وإذا كان للدولة، حسب تصور انطون سعادة، ثلاثة أشكال رئيسية وهي الديمقراطية والاتوقراطية والارستقراطية، فإنَّ تاريخها الخاص في سورية حدد ويحدد قيمتها بوصفها أداة إعادة بناء "الأمة السورية" في العالم الحديث.

فقد شكل نشوء الدولة السورية الصورة الأولى والنموذجية للدولة في التاريخ العالمي. وانطلق في تحديد ماهيتها وخصوصيتها بوصفها دولة مدنية لا دينية، محكومة بالشرع وليس بالأعراف والتقاليد والعقائد. وأعطى لذلك اسم "الدولة التاريخية". وعندما اجرى مقارنته الأولية والسريعة بين الدولة السورية (دولة بابل وآشور) والدولة المصرية، نراه يشدد على ما اسماه بتمركز القوة في بابل وممفيس. إلا أنَّ الفرق بينهما في "تفرّد النظامين السوري (الشنعاري) والمصري. فمع أنَّ حمورابي لبى دعوة الآلهة ليقيم القسطاس في الناس، فإنَّ شريعته الشهيرة التي خلدت ذكره، كلها أحكام زمنية دنيوية، وليس في بابل سلك الكهنة"[xvii]. ذلك يعني إنَّ نموذجها هو دولة القانون الوضعي الدنيوي بلا سدنة ولا كهنة. مما طبع بدوره تاريخها اللاحق، أي أنَّ الدولة السورية لها خصوصيتها المترتبة على فعل مكوناتها الثقافية الخاصة. وكل خروج عليها يؤدي إلى هلاكها. مع ما يترتب عليه من إقرار ضمني بضرورة الرجوع إلى "الحقيقة السورية" من اجل إعادة بنائها الحديث.

واتخذ من تاريخ الدولة السورية والخلافة نموذجاً بهذا الصدد. فقد اعتقد بأنَّ الدولة الأموية (السورية النشأة) أنقذت الإمبراطورية الإسلامية من حالة الفوضى وتطاحن القوات[xviii]. الأمر الذي جعله يجد في الدولة الأموية تجسيداً للنزعة السورية في معارضتها لما اسماه بتقاليد الصحراء. بحيث نراه يشدد على انه إذا كانت هنالك أرض تحدد الحياة والثقافة الإنسانيتين تحديداً يكاد يكون حتمياً فهي بدون شك الصحراء[xix]. ووضع في هذه الحصيلة المجتزأة من أفكار ابن خلدون عبر تحويرها بعبارة تقول:"لما كانت الجماعات الفطرية عموما واقعة تحت تسلط التصورات الخارقة (الدينية) كان الدين العامل الوحيد الذي يمكنه أن يُوجِد مركزاً مشتركاً للقبائل". واستكمل ذلك باستنتاج يقول، بأنَّ "بيئة القبائل اللاعمرانية تقبل فقط بالشرع الإلهي القاطع. وتجربة محمد في مكة، وهي الدولة الوحيدة التي أمكنها أنْ تصير دولة عامة في بلاد العرب" دليل على ذلك[xx]. إذ نعثر فيها على ما اسماه باستحالة بلوغ من أطلق عليهم صفة "الشعوب الشقيقة للشعوب الثقافية" مرتبة "الدولة الثقافية التاريخية".[xxi]

وليس مصادفة أنْ يتوسع نسبياً في تأويل التاريخ السياسي العربي الإسلامي من خلال "سرينته" بوصفه تاريخاً مدنياً. ومن ثم تاريخاً سورياً مقبولاً ومعقولاً بما في ذلك بمعايير العالم الحديث. من هنا قوله، بأنَّ "الدولة الدينية" التي صنعها النبي محمد "ما لبثت إنْ انتقلت إلى خارج بلاد العرب حيث دخلت في حوزة الشعوب الثقافية"[xxii]. وقبل ذلك كان الصراع فيها يجري بين مبدأ الانتخاب والنسب. وإذا كان الانتصار في البداية للاتجاه الداعي للانتخاب، فإنها سارت زمن خلافة عثمان في طريق وسط بين الانتخاب وشرعية الخلافة، أي أنها جعلت الانتخاب "لمرشحي العائلة"[xxiii]! استمر هذا الصراع بعد موت عثمان، حيث انتهى بفوز معاوية، بوصفه ممثل النزعة الدنيوية، على عكس الإمام علي ممثل النزعة الدينية. وسبب ذلك يقوم، من وجهة نظر انطون سعادة، في أنَّ "معاوية كان قد أصبح بين محيط غير المحيط العربي. فإنَّ العشرين سنة التي قضاها في سورية "سرينته" وأعطته اتجاهاً جديداً في الحياة الاجتماعية والسياسية". والمقدمة التاريخية الثقافية العميقة الكامنة في هذا التحول تقوم في أنَّ علم الدولة والسياسة وعلم الحقوق الدستورية والمدنية والشخصية كانت قد بلغت في سورية أرقى مرتبة عرفها العالم، فأثرت البيئة الجديدة تأثيراً كثيراً على معاوية وجهزّته ببعد نظر سياسي رجّحه على منازعه. ومن هذه الحقيقة ندرك السر في أنَّ معاوية لا عثمان أسس الدولة الأموية التي طورت الدولة في الإسلام تطويرا خطيرا"[xxiv]. وبالتالي، فإنَّ الفضل في إيجاد الاتجاه السياسي الدنيوي في الدولة الإسلامية يعود إلى الدولة الإسلامية السورية الأموية[xxv]. وعلى العكس من ذلك، حالما انتقل الأمر إلى العباسيين عادت الوجهة الدينية والعوامل الفقهية إلى السيطرة. فقد لبس الخلفاء العباسيون عباءة النبي وأولوا الوجهة الدينية معظم اهتمامهم. وذلك لبعد نشأتهم عن بيئة سياسية حقوقية مرتقية كالبيئة السورية. فقد خرج العباسيون من الجزيرة العربية إلى الملك رأسا واتخذوا شرق سوريا قاعدة لملكهم من غير أنْ يمروا بحقبة تمدن سوري[xxvi]. من هنا كانوا ضعفاء في سياسة الدولة. وهذا هو السبب في استفحال أمر البرامكة وغيرهم من العناصر الفارسية والتركية وعظم شأنهم في تسيير شئون الدولة[xxvii].

إن ما يقدمه سعادة من تفسير لتاريخ الخلافة ونوعية الدولة ومقدماتها وتحولها النوعي في سورية هو مجرد تأويل متحزب للفكرة السورية وليس تفسيراً علمياً للتاريخ الواقعي ونتائجه الفعلية. فكل ما يقدمه بهذا الصدد من تفسير وتصورات وأحكام لا علاقة لها بالبحث التاريخي والفلسفي الدقيق، وذلك لخضوعها شبه التام لمنطلقات وغايات أيديولوجية صرف. إذ ليس للدولة الأموية علاقة بالفكرة الدنيوية ونظامها السياسي. بل على العكس تماماً. فقد طوعت الأموية الدين بصورة "نموذجية" لخدمة مآربها السياسية. ومن ثم وضعت آلية وتقاليد المكر السياسي الصرف والابتعاد عن القيم الاجتماعية في فكرة الدولة. أما بالنسبة لمعاوية فقد كان ممثل الدجل الديني السياسي، بمعنى توظيف وتطويع الدين لمآرب شخصية خالصة، على عكس الإمام علي فقد كان الأخير ممثلا للتيار الاجتماعي والأخلاقي وليس الديني. وبالتالي يمكن اعتباره ممثل الفكرة الدنيوية النموذجية آنذاك. وينطبق هذا على كيفية تمّثل الفكرة القومية. فقد عمقت الأموية تقاليد الجاهلية والقبلية (الأموية والسفيانية)، على عكس العباسية.

لقد تركت الأموية بعد انهيارها المريع وزوالها السريع بقاياها الخربة في نمط التوريث والاستبداد واحتقار القانون وما شابه ذلك. وفي هذا يكمن سر زوال زمنها السياسي وبقاء تاريخ الدولة العباسية في تاريخ الوعي الذاتي العربي والإسلامي ككل. إنَّ حقيقة الدولة العباسية أكثر مدنية ودنيوية وثقافية وعربية من الأموية. فقد كانت الأموية عربية ولكن بمعايير القبلية الضيقة، بينما العباسية كانت عربية ولكن بمعايير الثقافة الكونية. الأولى صنعت ثقافة الإمبراطورية والثانية صنعت إمبراطورية الثقافة. والثانية نفي للأولى واستكمال لها.

وفيما لو أزلنا المغالطات التاريخية والفكرية والثقافية الكثيرة في آراء انظن سعادة بهذا الصدد، فإنَّ مضمونها كان يرمي إلى إحلال الرؤية الأيديولوجية المميزة للفكرة القومية السورية. بمعنى البرهنة على أنَّ التاريخ السوري وتقاليد الدولة فيه هي الوحيدة القادرة على إبداع نظام مدني حديث. وكما فعلت ذلك في الماضي فإنها الوحيدة القادرة على فعله الآن من بين "أمم العالم العربي". (يتبع....).

 

ا. د. ميثم الجنابي

..........................

[i] انطون سعادة: الإسلام في رسالتيه، ص57.

[ii] انطون سعادة:الآثار الكاملة، ج 2، ص83- 94.

[iii] انطون سعادة:الآثار الكاملة، ج 2، ص83.

[iv] انطون سعادة:الآثار الكاملة، ج 2، ص85.

[v] انطون سعادة:الآثار الكاملة، ج 2، ص87.

[vi] انطون سعادة: الآثار الكاملة، ج 2، ص87. وهنا يجدر القول الى أن العرب أول من تنبه الى ملاحظة وحدتها الجغرافية الطبيعية فسموها "الهلال الخصيب".

[vii] انطون سعادة: الآثار الكاملة، ج 2، ص88.

[viii] انطون سعادة:الآثار الكاملة، ج 2، ص92.

[ix] انطون سعادة:الآثار الكاملة، ج 2، ص89. لكنه استثنى إمكانية إدخال اليهود فيها. وذلك لأنهم عنصر محافظ مغلق. وفكرة الأمة السورية تقف بالضد من النعرات والعصبيات القومية الخاصة والغريبة، كما يقول انطون سعادة.

[x] انطون سعادة: الآثار الكاملة، ج 2، ص90.

[xi] إننا نثر هنا، كما في حالا عديدة الى جهل أو تجاهل للمرحلة العربية الإسلامية في "الفكرة السورية". بينما لا تعقل الأخيرة على حقيقتها وقيمتها وأهميتها بدون ذلك بوصفها الحلقة الجوهرية والرابطة والعضوي للكل السور (الهلال الخصيب العربي). فالأسماء التي يوردها هنا هي "شامية" وليست سورية، على الأقل ما يتعلق منها بمن بلور ويبلور الذهنية القومية الحقيقية لنزعة السورية بوصفها نزعة عربية، أو النزعة العربية بوصفها "سورية".

[xii] انطون سعادة:الآثار الكاملة، ج 2، ص93.

[xiii] انطون سعادة: نشوء الأمم، الآثار الكاملة، ج5، ص147.

[xiv] انطون سعادة: نشوء الأمم، الآثار الكاملة، ج5، ص145.

[xv] انطون سعادة: نشوء الأمم، الآثار الكاملة، ج5، ص146.

[xvi] انطون سعادة: نشوء الأمم، الآثار الكاملة، ج5، ص104.

[xvii] انطون سعادة: نشوء الأمم، الآثار الكاملة، ج5، ص107.

[xviii] انطون سعادة: نشوء الأمم، الآثار الكاملة، ج5، ص127.

[xix] انطون سعادة: نشوء الأمم، الآثار الكاملة، ج5، ص124.

[xx] انطون سعادة: نشوء الأمم، الآثار الكاملة، ج5، ص125. بل نراه يضع مقارنة بين الدولة التي أنشأها النبي محمد وبين الدولة التي أنشأتها الحركة الوهابية. وكتب بهذا الصدد يقول، بان "نشوء الدولة الوهابية العامة في القرن الماضي وعودتها الى الوجود بعد أن كانت قد قضت عليها الدولة العثمانية، مصداقا لقول ابن خلدون".

[xxi] أدرج انطون سعادة ضمن من اسماهم بالشعوب الشقيقة للشعوب الثقافية كل من العرب والمغول!!

[xxii] انطون سعادة: نشوء الأمم، الآثار الكاملة، ج5، ص 10.

[xxiii] انطون سعادة: نشوء الأمم، الآثار الكاملة، ج5، ص127.

[xxiv] انطون سعادة: نشوء الأمم، الآثار الكاملة، ج5، ص126-127.

[xxv] انطون سعادة: نشوء الأمم، الآثار الكاملة، ج5، ص127.

[xxvi] وهذه مغالطة تاريخية وثقافية وسياسية أيضا. فالتيار العباسي من حيث مقدماتها التاريخية ككل كان "عراقيا" أي "سوريا". وله تقاليده العريقة الأقدم مقارنة بمعاوية والأموية. إذ ليست "العباسية" في الواقعة سوى الحصيلة التي ترتبت على صراع القوى الإسلامية بمختلف مناطقها (العراق ومصر خصوصا) ضد انحراف الخلافة الى ملك التي بدأت مع تسلط عثمان بن عفان، وانته بمقتله.

[xxvii] انطون سعادة: نشوء الأمم، الآثار الكاملة، ج5، ص127.

 

 

ابراهيم ابو عواد: تحويل التاريخ إلى ظاهرة ثقافية

التفاصيل
كتب بواسطة: ابراهيم ابو عواد

جوهرُ السلوك الاجتماعي ليس أداةً وظيفيةً محصورة في التعليمات المُسْبَقَة أو الأفعال الارتجالية، وإنما هو سُلطة مركزية تتحكَّم بالظواهر الثقافية والمفاهيم السياسية والبناء الاقتصادي،وعملية التحكُّم تَؤُول - بفِعل إفرازات العقل الجَمْعي - إلى تفاعلات رمزية في عُمق الشعور والوَعْي اللغوي، تُساهم في توظيف الأفكار الإبداعية لفهم أنساق الهَيمنة في المجتمع، وتحويل تفاصيل الحياة اليومية إلى تجارب عقلانية، يُمكن تعميمها في كُل زمان ومكان . والمُمارَسة الحياتية لا تتحوَّل إلى مُمارَسة عقلانية، إلا إذا تَمَّ تشييد الواقع المُعاش على قاعدة (الشعور / اللغة)، فالشعورُ هو النسق الداخلي الذي يضمن لقاءَ الإنسان بإنسانيته، واللغة هي النسق الخارجي الذي يضمن تحويلَ الرموز الذهنية إلى أفعال واقعية . وبين الشعور واللغة تُولَد عوالم روحية وتركيبات مادية، مِن شأنها حِفظ توازن الإنسان، وصناعة السلام في أعماقه، وتحقيق المصالحة بين الإنسان وذاته، وبين الإنسان ومُجتمعه .

2

القيودُ التي تَفرضها الضغوطُ الاجتماعية على أنساق الشعور الإنساني، يُمكن تفكيكها عبر تحويل المسارات التاريخية إلى ظواهر ثقافية، وذلك بأخذ الدروس والعِبَر مِن الماضي، وإحالتها إلى فلسفة إنسانية قائمة على الأسباب والنتائج، ومُندمجة في طبيعة البُنى الاجتماعية، وقادرة على اقتحام بمستقبل بثقة وجُرأة . وإذا نجح المجتمعُ في تحويل الأحداث التاريخية المحصورة في الزمان والمُحَاصَرَة بالمكان، إلى أفكار ومبادئ وقِيَم عابرة للحدود، وصالحة لكل زمان ومكان،فإنَّ أنظمة اجتماعية جديدة ستنشأ، تمتاز بالاستمرارية، وتمتلك قُوَّةَ الدفع الذاتية لتكريس مفهوم الصَّيرورة (انتقال الحالة التاريخية إلى ظاهرة ثقافية) في المجتمع، لأن الأفكار خالدة لا تموت، والثقافة باقية، لا يُمكن دفنها في اللحظة الآنِيَّة، أو نسيانها في المواقف العابرة التي انتهت صلاحيتها . إن الثقافة قائمة على الرموز والإشارات والطموحات والتفاعلات العقلانية والإفرازات الواقعية، وهذا سِر قُوَّتها وارتباطها الوثيق بوجود الإنسان ظاهرًا وباطنًا . والإنسانُ لا يَستطيع إيجادَ صَوته الخاص في ضجيج الحياة، ولا يَقْدِر على حَجز مَقعد في قطار التاريخ، إلا إذا استطاعَ تحويل التاريخ إلى ثقافة ووَعْي بالثقافة، وبذلك يُعيد ترتيبَ الفَوضى في الأنساق الحياتية، ويُسيطر على الشكل والمضمون في اختلاط الأزمنة وزَحمة الأمكنة .

3

إحساسُ الإنسان بطبيعة ذاته وخصائص مُجتمعه، وإحساسُ المجتمع بدَوره المركزي في عملية صناعة الفِعل الاجتماعي، يُجسِّدان المعنى الحضاريَّ بكُل أبعاده . والمعنى لا يتكرَّس كمفهوم وجودي في الذهنِ والواقعِ، إلا إذا جَمَعَ الإنسانُ الجُزءَ والكُلَّ ضِمن صِيغة منطقية، ومَنَعَ التناقضَ، وأزالَ عوامل التَّضاد، واجتثَّ جُذورَ الصراع. والمجتمعُ لا يُبنَى على التناقضات، لأنَّها تُحطِّم جَوْهَرَه، وتُزيل شرعيةَ وُجوده . ولا يُعقَل أن يكون الصراعُ بين التناقضات قُوَّةً دافعة للمجتمع، وسببًا في نهضته، لأن النار لا يُمكن أن تكون مصدرًا للماء . كما أن التاريخ والثقافة لا يُحكَمان بقوانين جاهزة ومُعلَّبة، وإنما يبتكران قوانينهما الخاصة، ويَشُقُّان طريقَهما أثناء السَّير، وكُل رحلة وجودية تشتمل على طريق جديد، يُعاد اكتشافه باستمرار، وهذه الصَّيرورةُ الحتمية ناتجة عن هَيمنة الفِكر على المادة، وسَيطرة الثقافة على التاريخ، وأسبقية الصُّوَر الذهنية على التطبيقات الواقعية. والنهرُ يبدو كِيانًا واحدًا ذا مسارٍ واحد، ولكنه - في حقيقة الأمر - كِيانات مُتنوِّعة بسبب جَرَيَان المياه باستمرار، وتغيُّر ماهيتها، وكأن النهر يُغيِّر جِلْدَه باستمرار، ويَبدأ مِن نهايته، ويُولَد مِن نَفْسِه، ويصير كائنًا جديدًا، كما أنَّ النَّهر يشتمل على روافد مُتعدِّدة، وهذا يعني وجود عِدَّة مسارات . وكما أن النهر لا يُمكن السيطرة عليه إلا ببناء السدود، كذلك التاريخ،لا يُمكن السيطرة عليه إلا ببناء الأفكار. وكما أن النهر المُتدفِّق يُمكن تحويله إلى بُحَيرة تحت السيطرة باستخدام السدود، كذلك التاريخ المُندفع يُمكن تحويله إلى ظاهرة ثقافية تحت السيطرة باستخدام الأفكار .

 

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

 

حسن الياسري: القولُ الفصلُ في دور خبراء الفقه الإسلامي وفقهاء القانون (1)

التفاصيل
كتب بواسطة: د. حسن الياسري

حسن الياسري- دراسةٌ دستوريةٌ تأصيليةٌ معززةٌ بتجارب المحاكم الدستورية في العالم

- التفسير الدستوري لإطلاق اسم (المحكمة) على المحكمة الاتحادية العليا

ملحوظاتٌ مهمةٌ:

1- عزيزي القارئ قبل أنْ تشرعَ بالقراءة أودُّ التنويه بأنَّ الدراسة قد يكون فيها شيءٌ من التخصُّص في بعض مناحيها. وهي تلتزمُ المنهج العلمي في بيان الرأي المدعم بالأدلة. فلقد استعرضت الدراسة -لأول مرةٍ في هذا الباب- لأربعٍ وعشرين تجربةً دستوريةً للمحاكم الدستورية في دول العالم المختلفة، وثلاث تجارب دولية للمجالس الدستورية، من أوربا والأمريكيتين وآسيا؛ ما يعني أنَّ مناقشة الدراسة والردَّ عليها ينبغي أن يكون بالكيفية ذاتها؛ وعليه فالحديثُ المرسل وغير المدعم بالأسانيد الدستورية لن يُقبل في الرد.

2- إنَّ الدراسة عبارةٌ عن سلسلةٍ متواصلةٍ من أقسامٍ خمسةٍ، وبأجزاءٍ متعددةٍ، قد فرقناها للتيسير على القارئ، وهي مترابطةٌ مع بعضها البعض؛ لذا لا يمكن بناء الرأي على ما ورد فيها إلا بتكملة أقسامها جميعاً.

3- إنَّ الغرض الرئيس من الدراسة يكمن في بيان الحقيقة التي جاء بها الدستور، ووضْعِها بخدمة الرأي العام وأصحاب الشأن؛ لمساعدتهم في تبنِّي الحل الأمثل الذي يتفق مع التجارب الدولية التي سبقتنا. وليس غرضنا الميل لهذا الطرف أو ذاك، أو تبنِّي هذا الرأي أو ذاك.

تمهيد:

لم أشأ الحديث عن الموضوع طيلة المدة المنصرمة، ولكن التشويش الذي حصل وطلب بعض الإخوة قد دفعنا إلى توضيح بعض الأمور في هذا الشأن؛ ولا سيما بعد انتهاء الفورة التي صاحبت الموضوع، وإخفاق البرلمان في سنِّ قانون المحكمة الاتحادية العليا، بالصورة التي أرادها الدستور، للمرة الرابعة توالياً، كما أخفق من قبلُ في دوراته البرلمانية المنصرمة.

وكما جرت العادة سابقاً، لم يبقَ أحدٌ من - غير المتخصِّصين- إلا وتحدث في الموضوع، بلا هدىً ولا كتابٍ منير؛ الأمر الذي تسبَّب في تشويش الصورة على الرأي العام.

وبادئ ذي بدء لابدَّ من القول إنَّ من حقِّ كل فردٍ أن يعُبّر عن رأيه، فيقبل دخول خبراء الفقه الإسلامي في المحكمة أو لا يقبل، وهكذا فيما يتعلق بفقهاء القانون، ما دام الحديث منصبَّاً على الرأي الشخصي. بيد أنَّ الخطأ كل الخطأ أن ينسبَ البعضُ إلى الدستور زوراً ما ليس فيه، مع أنهم من غير المحيطين بالموضوع؛ ما يفضي إلى عدم وضوح الصورة لدى الرأي العام. فالفرق بين بيان الرأي الشخصي وبين تحميل الدستور هذا الرأي واضحٌ. وهذه هي المشكلة الحالية في العراق، إذ إنَّ البعض يُحمِّلُ الدستور آراءه الشخصية ويسقطها عليه، وكأن آراءه الشخصية هي ما ينبغي أن يكون الدستور عليه.

وعموماً، إنَّ لجنة صياغة الدستور قد أُرهِقت كثيراً في وقتها -٢٠٠٥- من أجل وضع النصوص المتعلقة بالمحكمة الاتحادية العليا في الدستور (المواد ٩٢-٩٤)، وإنَّ النقاش الدائر حالياً كان قائماً آنذاك، إلى أن تم الاتفاق نهائياً على أنَّ المحكمة الاتحادية تتألف من عددٍ من القضاة وخبراء الفقه الاسلامي وفقهاء القانون.

وبإزاء هذا الاتفاق اضطرَّ المفاوض الشيعي إلى تقديم بعض التنازلات للطرف الآخر. فلقد كان المبدأ في كتابة الدستور هو التوافق وعدم كتابة شيء قسراً أو رغماً على الأطراف الأخرى. وبإزاء ذلك اضطرت بعض الأطراف إلى التنازل هنا وهناك من أجل تمرير بعض النصوص. ولعلَّ هذا السبب هو الذي أفضى إلى وجود بعض النصوص التي ينبغي أنْ لا تكون موجودةً من وجهة نظر المتخصِّصين .

ولم يقتصر الأمر في وقتها على اتفاق لجنة كتابة الدستور على كيفية تأليف المحكمة، بل تم الدخول في بعض التفصيلات الدقيقة، مثل عدد الأعضاء وبعض الإجراءات الموضوعية الأخرى، ولكن بسبب ضيق الوقت المُخصَّص للانتهاء من كتابة الدستور، الذي حُدِّد بمدةٍ يسيرةٍ لا تتجاوز ستة أشهر، ولوجود خلافاتٍ حادةٍ بصدد بعض النصوص الأخرى، تم الاتفاق على هذا القدر -الموجود في الدستور حالياً-، وإرجاء الأمور الأخرى المتعلقة بعدد أعضاء المحكمة وآلية سير العمل فيها إلى القانون.

ـ خبراء الفقه الإسلامي وفقهاء القانون دورهم أصيلٌ وليس غير ذلك:

بادئ ذي بدء أجدُ من الضروري إيراد النص الدستوري مثار الاختلاف؛ ليعلم القارئ عن أي أمرٍ نتحدث. وهذا النص هو المادة (92) من الدستور، التي نصت على الآتي:

(2- تتكون المحكمة الاتحادية العليا من عددٍ من القضاة، وخبراء الفقه الاسلامي، وفقهاء القانون، يُحدد عددهم، وتنظم طريقة اختيارهم، وعمل المحكمة، بقانونٍ يُسن بأغلبية ثلثي أعضاء مجلس النواب).

إنَّ دور خبراء الفقه الإسلامي وفقهاء القانون بمقتضى هذا النص هو دورٌ أصيلٌ، وإنَّ الفئات الثلاث المذكورة فيه: -القضاة، خبراء الفقه الاسلامي، فقهاء القانون- كلها فئاتٌ أصيلةٌ، وتقف على قدم المساواة. وبغية سلوك المنهج العلمي في عرض الأدلة المؤيِّدة لهذا القول، سنتحدث عن هذه الأدلة عبر محورين اثنين: الأول: ونعرض فيه أدلة الرأي الآخر الذاهب إلى أنَّ القضاة هم فقط مَنْ يجب أن يكونوا في المحكمة، وأنَّ خبراء الفقه الاسلامي وفقهاء القانون ما هم إلا خبراء فنيّون ومستشارون لا أكثر. والمحور الثاني: ونعرض فيه أدلتنا الداعمة الأخرى، المستقاة من الدستور والقانون والتجارب الدستورية الدولية في تكوين المحاكم الدستورية في العالم؛ لكي يعلم القارئ -بمحصِّلة العرض والمقارنة- وجهَ الحقيقة التي غيَّبها البعض، جهلاً أو عمداً، ولنصل إلى الرأي السليم، المنسجم مع الدستور، والمتفق مع التجارب الدستورية الدولية في هذا المقام. والله ولي التوفيق..

المحور الأول: أدلة رأي الفريق المعارض:

وإذْ ألزمنا أنفسنا بالمنهج العلمي في النقاش، فإننا سنعرض رأي الفريق المعارض، بغية مناقشته مناقشةً علميةً مدعمةً بالأدلة؛ للوصول إلى الرأي السديد.

إنَّ الرأي الآخر يقول بعدم جواز دخول خبراء الفقه الاسلامي وفقهاء القانون في توليفة المحكمة، وإنَّ من اللازم أن تقتصر المحكمة على القضاة فقط. وعلى الرغم من أنَّ هذا الفريق لم يُقدِّم أيَّ دليلٍ علميٍّ فقهيٍّ دستوريٍّ، فإنه لم يجد بُداً سوى الركون إلى حجتين اثنتين:

الأولى: إنَّ الدستور أطلق على الهيئة اسم (المحكمة).

والثانية: إنَّ الدستور أطلق صفة (الخبراء) على ممثلي الفقه الاسلامي.

وسنناقش هاتين الحجتين، اللتين لم أجد أحداً في العالم استند اليهما ما خلا بعض العراقيين، وهو ما ستكتشفه بنفسك -عزيزي القارئ- بعد الانتهاء من هذه الدراسة وعرض التجارب الدستورية الدولية.

الحجَّة الأولى: إطلاق اسم (المحكمة):

يقول أصحاب هذا الرأي: ما دام الدستور أطلق على الهيئة اسم (المحكمة)، وعبَّر عنها بأنها هيئةٌ قضائية مستقلة، فهي إذاً محكمةٌ يجب أن تضمَّ قضاةً فحسب، ولا يجوز أن يدخل فيها أي فردٍ آخر من غير القضاة .

مناقشة هذه الحجَّة:

إنَّ هذه الحجَّة داحضةٌ، ولا أساس لها، لا من الدستور ولا من القانون. وهي تكشف عن عدم اطلاع قائليها على تجارب المحاكم الدستورية في دول العالم، فضلاً عن عدم إحاطتهم بالفقه الدستوري. وإليك أدلة ما نقول:

أولاً: الدليل الأول:

لو سلّمنا جدلاً بصحة هذه الحجَّة، فهي تسقط فيما لو قام الدستور بتبنِّي غيرها. إذْ الحاكمية للدستور وحده في هذا الشأن. ومن هذا المنطلق من حق السلطة التأسيسية للدستور أن تصف الهيئة بـ (المحكمة) وتُدخل في عضويتها قانونيِّين أو إداريِّين أو محامين أو وزراء سابقين أو برلمانيين سابقين، ونحو ذلك. فالدستور هو الذي يؤسِس وله الحاكمية في ذلك، ولا سلطان عليه. بل من حقِّهِ أن يُدرج نصوصاً تتفق مع تطلعات الشعب حتى وإن خالفت النظام البرلماني أو الرئاسي. والدليل على هذا ما حصل في النظام البرلماني بمقتضى الدستور العراقي الحالي، فهو ليس نظاماً برلمانياً خالصاً، بل نظامٌ مُعدَّل -إنْ صحَّ التعبير-. والكلام في هذا الأمر من البديهيات التي لا تحتاج إلى إفاضةٍ. وسيتجلى لاحقاً في هذه الدراسة أنَّ الدساتير تختلف فيما بينها باستعمال بعض المصطلحات، فدساتير دول المغرب العربي معروفةٌ باستعمال بعض المصطلحات غير التي تستعملها بقية الدول العربية في دساتيرها، والدستور السعودي -النظام الأساسي- له بعض الاستعمالات المختلفة، وهكذا الدستور الإيراني ..الخ. فمثلاً إنَّ السلطة التنفيذية مصطلحٌ معروف في الدساتير، لكن الدستور اللبناني لم يستعمل هذا المصطلح المتعارف عليه، بل استعمل مصطلح (السلطة الإجرائية).ومجلس النواب له تسمياتٌ متعددةٌ بحسب الدساتير (مجلس العموم، المجلس الشعبي، الجمعية الوطنية، المجلس الوطني..)، وهكذا في تسميات المجلس الثاني (مجلس الشيوخ، مجلس اللوردات، مجلس الأعيان، مجلس الاتحاد، مجلس المقاطعات..). وأكثر من ذلك كله إنَّ الوزير في أميركا هو (سكرتير)، ورئيس الوزراء هو المصطلح المتعارف عليه بين الدساتير والدول، لكن الدستور الألماني يصفه بـ (المستشار) -المادة 62 من الدستور الألماني لعام 1949-، فما علاقة المستشار برئيس الوزراء ؟!

إنها بكل بساطةٍ لغة المصطلحات أيها السادة، التي تختلف من تجربةٍ لأخرى. ونحو ذلك مما سنعرضه بالتفصيل لاحقاً.

وسنكمل بقية الأدلة في الجزء الثاني من هذا القسم إن شاء الله .

 

د. حسن الياسري - بغداد

٩ نيسان ٢٠٢١

 

محمد بنيعيش: المسار العلمي وسلبيات الاعتبارات الذاتية في المجال الجامعي

التفاصيل
كتب بواسطة: د. محمد بنيعيش

محمد بنيعيشأولا: مصادرة الأمور العلمية وإسنادها إلى غير مختصيها

قد يقف الكثير من الإسقاطيين أو ذوي الرؤية القاصرة والمحصورة عند قول النبي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم: "إذا وسّد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة"1

فلا يرون معنى لهذا التوسيد سوى في باب السياسة أو الحكم والمسؤولية الظاهرية والمدركة عموما، لكن في نظرنا أن الأخطر ما في هذا التوسيد هو من باب العلم والتعليم لأنه من خلاله تترتب جميع المسؤوليات، ومن حقله يتخرج الحاكم والمحكوم، وبحسبه يتحدد مستوى العلاقات العامة ومدى مطابقتها والتزامها بالحق أو عدم التزامها، إذ لا يوجد في العالم من نصّب على شعب أو أمة كحاكم جاهل جهلا مطبقا، بمعنى أنه لا يملك من العلوم أيها كانت شيئا يذكر، إذ لا بد وأن يكون له إلمام أو اطلاع على معلومات معينة يستطيع من خلالها أن يبرز ما يشبه الكفاءة أو توقّعها لتحمل مسؤولية ما، أما جاهل جهلا مطبقا إضافة إلى الأمية اللغوية أو المعرفية، فهذا ما لا يمكن تصوره في أية أمة أو دولة أو حتى لدى مسؤول محلي، اللهم إلا ما أخذت تفرزه وتنتجه لنا الأنظمة المدعية للديمقراطية مما يصطلح عليه بدول العالم الثالث من نماذج جاهلة جهلا مطبقا علميا وأخلاقيا، لمع نجمها بالاقتراع الأكثر جاهلية من جهلاء مثلها، فأنتج الجهل جهلا مركبا، ووسدت حينئذ المسؤولية إلى أهلها من الجهلاء، لأنهم جنسهم الذين انتخبوهم حتى أوصلوهم إلى درجة من درجات المسؤولية العامة بحسب طموح هؤلاء الجهلاء المنتخبين وبحسب غباوة منتخبيهم، فتحقق فيهم قول الشاعر:

قــال حمــار الحكــيم يوما        لو أنصف الدهر كنت أركــــب

لأني جــاهـــل بـسـيــط           وصــاحـبـي جهــلــه مركــــب

جهلت وما تدري بأنك جاهل    ومن لي بأن تدري بأنك لا تدري

وحينما نقول بأن المسؤولية في هذه الحالة قد وسدت إلى أهلها بحسب المقياس الديموقراطي فذلك لمقتضى المناسبة بين الجهلاء، سواء الناخب أو المنتخب، المسؤول أو المسؤول عنه.أما المسؤولية الموسدة إلى غير أهلها فتكون حينئذ أن يرشّح العالم جاهلا يتحمل المسؤولية عنه، إذ هنا سيكون الصراع حادا ومحتدما بين الطرفين. لأن صحوة العلم وجذوته لا تتحمل ظلمة الجهل وظلمه، وبالتالي تقوم القيامة ويكثر الاصطدام بين أهل العلم المستنير وبين أهل الجهل المظلم المبير!

وهذا المشكل ناتج عن التأسيس العلمي الأولي للأمة، لأنه حينما ينقطع السند العلمي كما عبر عنه ابن خلدون سيغلف الجهل برداء العلم، وستوسد صفة العالمية إلى غير أهلها بعدما قبض أهل العلم كما في الحديث الشريف، ومن مظاهر هذا الانقباض هو أن يقلد أساتذة وخاصة في الجامعات ميدان التخصص بالدرجة الأولى تدريس مواد ليست من اختصاصهم ولا ميولاتهم ولا حتى من طبيعة تكوينهم اللغوي والفكري والوجداني، كما يحدث مثلا في كثير من الجامعات العربية.

ومن هنا فقد يلقن هؤلاء طلبة العلم على منهج ناقص ومحرف، وفي بعض الأحيان ساقط وسافل ومتحامل، فيكون بذلك تحريف الطلبة وغشهم في تحصيلهم وقتل طموحهم في مهدهم، وبالتالي فقد يتخرج الكثير منهم على شكل ناقص وفضيع ومعوق إعاقات متفاوتة غالبا ما تكون مزمنة لا ينفع معها العلاج مستقبلا، ولا يفضل منها إلا المتردية والنطيحة وما أكل السبع، مع العلم أن أولئك الأساتذة لا علاقة لهم بالتحصيل العلمي المتناسب مع الجامعة وتخصصاتها، وإنما هم دخلاء عينوا إما بالوساطات أو بالعصبيات والاعتبارات الذاتية والعرقية وما إلى ذلك مما لا علاقة له بالعلم وغايته الشريفة.

وبهذا فقد أصبح هيكل الجامعة في كثير من أروقتها، بعدما كانت امتدادا للجامع العتيق والتاريخي الحضاري، يميل إلى التهدم والتحول إلى مرآب للسيارات المعطلة والقاصرة عن اللحاق في السباق الجدي، إن لم نقل إلى مجمع للأشباح الفارغة من محتوياتها، وباحة للكن والاستراحة على حساب البحث العلمي والتحقيق والتفعيل في الساحة العامة والخاصة كدور جوهري لأهل العلم والتعليم!

وهذا التجمع المظلم والبطالي قد يؤدي في كثير من الأحيان إلى التكاثف ضدا على أهل التنوير والتطوير، لأن هذا النوع وما يحمله من مناهج يخيف أهل الكن والبطالة، ويزعج أصحاب الرسوم في باب الأسجاع وتكلف الفصاحة، ولهذا نجد كثيرا منهم يعترضون إذا اقترح عليهم إضافة أستاذ إلى شعبتهم، وذلك لاعتبارات لا تمت إلى العلم بصلة كما سبق وقلنا، ولا إلى الأخلاق والاعتبارات الشرعية أو المنطقية المقبولة، إذ الرفض يكون ابتداء وبغير حجة، وبدون تحري أو تمهل أو حتى استفسار عن مستوى الشخص المقترح للالتحاق بهذه الشعبة أو تلك، سواء تعلق الأمر بشعب ذات طابع ديني وتاريخي أوذات صفة أدبية وكذلك قانونية و علمية بحتة، وهذا ما كثر شيوعه وترتب عنه مشاكل وصراعات لا تليق بالعلم ورجاله . إذ المشكلة الرئيسية ليست علمية بالدرجة الأولى وإنما هي أخلاقية وسلوكية وإن كان الأصل يعود إلى النقص المبدئي في التكوين العلمي العام.

ثانيا: الجامعة العلمية بين الذاتية الانتخابية والتكتلات الحزبية والمذهبية

ومن هنا فقد لوحظ أن هذه المؤسسات يغلب على أصحابها طابع التكتلات الحزبية أو المذهبية، أو لنقل التجمعات النفعية التي لا علاقة لها بمقتضيات الجامعة وغاياتها العلمية الموضوعية التي لا تتأثر بأهواء زيد أو عمرو، لكن هذه التكتلات قد تضيق ساحتها وتتلاشى بنفسها عند الاضطلاع بالزعامات النقابية مما يترتب عنه فشل رجال العلم والتعليم حينما لا يكادون أن يتفقوا على ما يصطلح عليه بالأرضية التوافقية عند المطالبة بحقوقهم المادية والمهنية، مما يترتب عنه اختلال في التكتلات والوقوع في مصيدة مماطلة وتسويف الحكومات المتعاقبة دون تحقيق نتيجة مرضية لحل مشاكلهم. وذلك كله راجع إلى التبعية الحزبية والسياسية من هذه الفئة أو تلك لهذا الحزب أو ذاك. وعندما تختلط السياسة الظرفية بالجهاز التعليمي حينئذ تضيع الحقوق والمصالح وتبرز الصراعات والطموحات الشخصية مما هو معلوم وما خفي كان أدهى !.

ومن هذه العقليات والبطاليات فقد يرفض تعيين أستاذ مبرز في شعبة ما رغم إلحاحه في الالتحاق بها ولأسبابه الموضوعية والشخصية المبررة لذلك، فيكون هذا الرفض لا مبرر له سوى أن فئة من الأساتذة المتكتلين هنا أو هناك قد لا يوافق مذهبيتهم مذهبيته، سواء كانت ذات صفة دينية محضة أو ذات خلفية سياسية وحزبية، مع العلم أنه ربما يكون الأستاذ المقترح أمكن علما وأغزر إنتاجا وأدق تخصصا قد يستفيد منه الطلبة والأساتذة وسمعة الكلية والجامعة بوجه ما.

وهذا الوضع الذي تردت فيه الجامعات العربية، ولربما حتى الغربية، ليس من نسج الخيال أو من دافع التحامل على فئة معينة، وإنما هو واقع معيش يعرفه الكثير من الأساتذة المقترحين ويعانون منه، حتى إن الجامعة قد أصبحت في بعض مرافقها عبارة عن حزب وملكية خاصة تتخذ فيها القرارات بحسب الأمزجة وترفض أو تقبل دون مراعاة للفئات المعطلة من المنتجة.

وهذا الوضع وما تحته من مناورات ودسائس ربما قد يصل إلى وضع سيء لا يليق بواقع العامة من الناس بله علمائهم، مما أدى إلى حصول بطالة حقيقية في كثير من الكليات والجامعات واندثرت نزاهة العلم وقدسيته، وأصبح أهل التعليم عبارة عن مجموعة أفراد تتحكم فيهم الخطابات الحزبية من خارج أسوار مؤسساتهم ويغلب عليهم الطابع الغوغائي في النقاشات والارتجال عند الاقتراحات، لأن الأمور كما سبق وقلنا قد وسدت إلى غير أهلها فأصبح الوضع كما يقول الشاعر:

يا معشر العلماء يا ملح البلد     ما يصلح الملح إذا الملح فســد

خاصة وأن علم الأخلاق يكاد يندثر أو لا يوجد له أثر، والتصوف الذي يمثل لبّ العلوم الإسلامية وروحها يحارب ويهدر معناه بإسناد تدريسه إلى من لا يفهمه ولا يستحق تناوله، ومن ثم فقد تكون الخسارة مزدوجة في بعض الجامعات لا يخفى حالها على أحد.

وهذه الخسارة قد تتمثل في ضياع العلم وتضييع الأخلاق والسلوك إضافة إلى ضياع منهج التحصيل والتوصيل، وبالتالي تخرج أفواج من الطلبة على أسوأ صورة من البطالة المركبة، وهي البطالة الفكرية والأخلاقية وأيضا البطالة المهنية وتحصيل المعاش. لأنه كما يقال "إذا قسا القلب لم تنفعه موعظة كالأرض إن سبخت لم ينفع المطر" وعند هذا يستطرد ابن عباد النفزي في شرح حكمة مناسبة لابن عطاء الله السكندري قائلا: "تنتقش نفوسهم وتتقوى صفاتها وتظهر آثار ذلك على ظواهرهم من التكالب على الدنيا والركون إلى من هي عنده من أبنائها المترفين وليس لهم ما يتوسلون به إليهم سوى علمهم فيحتالون على تحصيل إقبالهم عليهم وصرف وجوههم إليهم بالتفنن عندهم بأنواع من الحيل ولا يسلمون في ذلك من الرياء والتصنع والنفاق والدهان، ويجرهم ذلك إلى أنواع من المحظورات وضروب من العصيان مع ما يحل بهم في ذلك من الذل والهوان، فإذا قالوا ذلك أو بعضه حصل لهم مقصود نفوسهم وتمكنوا من جميع حظوظهم، فخرجوا من الحرية إلى استعباد الأغيار، واستبدلوا بالجهل النافع العلم الضار، وقد قال الفضيل بن عياض رضي الله عنه: لو أن أهل العلم أكرموا أنفسهم وشحوا على دينهم وأعزوا العلم وصانوه وأنزلوه حيث أنزله الله لخضعت لهم رقاب الجبابرة وانقاد لهم الناس وكانوا لهم تبعا وعز الإسلام وأهله، ولكنهم أذلوا أنفسهم ولم يبالوا بما نقص من دينهم إذا سلمت لهم دنياهم فبذلوا علمهم لأبناء الدنيا ليصيبوا بذلك ما في أيدي الناس، فذلوا وهانوا على الناس، ولله در الشاعر رحمه الله حيث يقول:

يقولون لي فيك انقباض وإنـما      رأوا رجلا عن موقف الذل أحجـما

إذا قـيل هذا مورد قلت قـد أرى    ولكن نفس الحر تحتمل الظمـا

ولم أبتذل في خدمة العلم مهجتي   لأخـدم من لاقـــيت إلا لأُخدمــــا

أأغرســه عــزا وأجنــيه ذلــــة     إذا فاتبـاع الجهل قد كـــان أحزمـا

ولو أن أهل العلم صانوه صانهم    ولو عظموه في النــفـوس لعظما

ولكن أهانـوه فهانوا ودنسـوا    محيـاه بالأطمـاع حتـى تجـهمــــا.2

 

الدكتور محمد بنيعيش

كلية الآداب والعلوم الإنسانية وجدة المغرب

...........................

1- جزء من حديث رواه البخاري في كتاب العلم حول تضييع الأمانة.

2- ابن عباد النفزي: شرح الحكم – مكتبة أحمد بن نبهان وأولاده ج 2 ص 53-54.

 

 

الكسندر بالتين: منافس لتولستوي ودوستويفسكي

التفاصيل
كتب بواسطة: عادل حبة

2368 ألكسيه پيسمسكيترجمة: عادل حبه

كانت المسارات الأدبية المتعرجة لأليكسيه فيوفيلاكتوفيتش پيسمسكي مؤثرة وناجحة في الستينيات والسبعينيات من القرن التاسع عشر: حيث تمت ترجمة آثاره إلى لغات أخرى، وتمت مناقشته بشدة وبحدة على صفحات المجلات الرصينة.

لقد تمت قراءة روايته الرئيسية " ألف روح" (A Thousand Souls)، والتي كانت في سياق الأدب الرائج في ذلك الوقت كانت غير عادية تماماً، حيث اعتبرت رواية مهنية، وإذا جاز التعبير، "رواية تجارية".

لم تمتزج عصارة ومذاق التفاصيل اليومية، التي تشكل الكثير منها الخطوط العريضة للرواية، مع الحركة التصاعدية للبطل، الذي بدا أقل حيوية كما تصورها الحياة اليومية.

ثم ترسخ مجد بيسمسكي بواحدة من أفضل المسرحيات الروسية متمثلة في تراجيديا "القدر المرير"، واستمر نجاحه الذي لم يسمح بالتشكيك في عظمة المؤلف.

ثم صدرت رواية "البحر المهتز"، وفقد پيسمسكي سمعته، أولاً في نظر الجمهور الليبرالي، ثم في نظر القراء البسطاء.

كان يُنظر إلى حدة پيسمسكي الموجهة ضد العدمية على أنها ضرب من عدم إيمان بالتقدم بشكل عام، ولم يكن أليكسي فيوفيلاكتوفيتش يؤمن بها كثيراً حقاً، معتقداً أن ثمارها ستكون فاسدة وسامة للوطن؛ ورأى في التجارة روح الفساد، التي كتب عنها بفظاظة في العديد من المناسبات.

ومع ذلك، فإن "البحر الهائج" أصبح سلسلة من روايات الرواد وروايات التحذير من عواقب الحركة الثورية التي تعد بنزيف الدم الزائد، وبصفة عامة، وبشكل عام مسار التنمية - الطريق التقني المختار لبائع التجزءة ؛ ولكن التاريخ لا يستمع إلى النصيحة أبداً.

تم تمييز الأعمال اللاحقة لـپيسمسكي بلون كثيف وقاتم وقمعي، وكانت جميعها متأثرة بالإدمان على الكحول والأدوارالعامة في القيادة.

ومع ذلك، لا تزال كتب پيسمسكي حاضرة حتى اليوم: فهي مليئة بتلك التفاصيل الدافئة والكتالوجات البيتية التي تمثل بإحكام الوقت الذي أتيحت فيه الفرصة للكاتب لتسلق السلم الأدبي. رغم أن أحداً لم يسميه كاتباً روسياً عظيماً.

2368 ألكسيه پيسمسكي 2

تنطوي المدرسة الطبيعية على حقيقة مصنفرة، فمع بعض الشحذ والصقل؛ على وجه الخصوص، اكتسب پيسمسكي الشهرة حيث ظهر لأول مرة في عام 1846 في مجلة ميخائيل بوغودين "الموسكوفي"، بعد نشر قصة "الفِراش"، حيث تم الجمع بين الواقعية والأدب الساخر: إما أنها تم اعتراضها بواسطة شرائط السخرية، لأن الصورة لم يتم السخرية منها بل أشير إليها، فماذا يقولون...

من الصعب الآن أن نتخيل في الستينيات أن پيسمسكي كان أدنى من دوستويفسكي وتولستوي في وزنه الأدبي، ولكن ككاتب مسرحي تنافس مع أوستروفسكي ...

.....إن مسرحية "عصر التنوير"(The Enlightened Time ( تعرض لنا مجتمعاً معيناً قائم على"نتف الصوف من الخراف "، و باسم النشاط هناك قدر لا بأس به من الفلفل (ناهيك عن الخيوط الرفيعة الممتدة إلى مكتب سيئ السمعة لتحضير السموم) ...

على خشبة المسرح، تتكشف العمليات الملتوية بشكل غريب بوجود "هيكل الأعمال"( البزنس) هذا: بالطبع، يتم إبراز الشخصيات بوضوح: على سبيل المثال، مدير الشركة وزوج الشخصية الرئيسية في الرواية: فهو متعجرف، وقح، ذو عينان أشبه بالصفائح، عينان تعكسان الثقة لصاحبها بالقوة اللامحدودة للمال. إنه طيب، ممتلىء، نسخة طبق الأصل، قوي، وذو تركيبة مالية، مناسب بالطبع لممارسة للاحتيال، وتجعل الطبق الموجود آنذاك حافلاً بالفلفل اللاذع.

فلا يمكن للمجتمع أن يعيش بدون نصابين.

إن الطريقة التي تنعكس في الأدبيات تعكس درجة وقياس فهم المجتمع للضرر الذي تسببه.

رواية "ألف روح" هو العمل الأكثر أهمية لبيسمسكي. فهي رواية اجتماعية، حافلة ومشبعة بالكثير، فالبانوراما تكشف للقارئ بشكل واسع  المجتمع الروسي قبل الإصلاح بوضوح، ويُنظر إليه من زوايا مختلفة، ويلعب في ظلالها شخصيات متنوعة.

.. إنه كاتب هاو، متسول خريج جامعة كالينوفيتش، تم تعيينه من قبل  مدير المدارس في بلدة ريفية  في حفرة مستنقع؛ تمتع قبل كل شيء بقدرمن الراحة والرفاه لأجل نوع آخر من اللعبة، فهو لا يعير أي اهتمام للفتاة التي تحبه، وقع في حب ابنة جنرال في منتصفة العمر، التي يُحسب إرثها سيىء الصيت بـ "آلف روح".

هناك الكثير من المحتالين والمختلسين والمغامرين وشخصيات أخرى: رغم أنهم لن يصلوا إلى الألف؛ ويتكشف شريط هذا المسار، ويتم بناء الرواية بنشاط، شأنه في ذلك شأن أي عمل مهني في أعماق المجتمع، وجزء من نفس الكلاسيكيات الفرنسية - بلزاك...

.. ثم أدهشنا برواية "البحر العكر"، وهي رواية موجهة بالأساس ضد العدميين، الذين سمموا الفضاء في ذلك الوقت بشدة؛ ووقف بتحدي في صف عدد من الروس الأقوايء ومن شتى الألوان بوجه اليوتوبيا.

لم يحلم على الإطلاق بأن يصبح ممثلاً، وقام بيسمسكي بقراءة أعماله دائماً بنجاح.

كان وزنه في الحياة الفكرية للمجتمع بارزاً.

على مر السنين، فقد قوته پيسمسكي، وانحصر اهتمامه بتاريخ الأدب أكثر من نفسه ...

وهو ما أعتقد أنه كان غير عادل: لقد كان بيسمسكي ذكياً: ككاتب نثر وكاتب مسرحي. ومن السهل الاقتناع بذلك من خلال إعادة قراءة المجلدات التي تركها.

 

 

احمد عواد الخزاعي: الاسطورة والدين والتراث.. في رواية (فقيه الطين)

التفاصيل
كتب بواسطة: احمد عواد الخزاعي

احمد عواد الخزاعيلغة سردية هجينة، غريبة على طبيعة السرد الروائي، تتأرجح بين الشعر والنثر، تنتج عن سارد خارجي، يروي قصة مواطن عراقي مثقف يعيش ارهاصات الفوضى السياسية القائمة في العراق، في رواية (فقيه الطين) والصادرة عن دار الشؤون الثقافية 2019 اختار واثق الجلبي لنصه، شخصية محبطة قلقة حائرة لا منتمية ايدلوجيا او حزبيا (احاط حياته بجدار عازل غير راغب بدخول احد الفوضويين في حياته.. ولان المجتمع كان منفتحا على ثرثرة فانه اقفل مساحاته بالغموض .. لا يريد ان يغضب من احد عاش كسيكارته غارقا بالدخان غير الموجه الا اليه).. لكنها في نفس الوقت شخصية اشكالية ناقمة، تمتلك رؤية فاحصة واعية لما يدور حولها، هذه الشخصية التي غابت ملامحها المادية وتفاصيل حياتها الخاصة، حتى تحولت الى بؤرة أنطولوجية داخل النص، فقد وصف الكاتب لنا الحالة النفسية لبطله في عملية افصاح خارجية الهدف منها التعرف على الدوافع النفسية لسلوكه (تناول يومه الاول بعد بلايين الثواني المتأرجحة بين البكاء والقلق والقرف والجوع في عراق كلاب السياسة) .. افكار ورؤى تنهال متدفقة على شكل تداعيات حرة، يرويها السارد العليم مصوراً الحالة التي يمر بها بطله، حتى اننا لا نستطيع التمييز في كثير من محطات النص بين الروائي وبطله، وهنا يبرع واثق الجلبي في كيفية صياغة نص يستطيع الكاتب ان يتوارى خلفه بحرفية.. هذه الرؤية الناقمة لبطل النص عن محيطه الاجتماعي تولد لديه رغبة جامحة في البحث عن حروف اسم شخصية اسطورية، ربما تكون طوق النجاة لمجتمعه والانسانية جمعاء، استحضار لمفارقة ميثولوجيه ازلية تحاكي (البطل المنقذ) التي وردت في ادبيات جميع الاديان حتى الوضعية منها، هذا البحث المضني يتكلل بحصول البطل على الاحرف الثلاثة لاسم البطل المنقذ .. هذا ملخص موجز لنص معقد يحمل انزياحات فكرية وفلسفية كبيرة، يلامس الواقع المعاش للحظة، ثم يغرق في تداعيات تستمر لعشرات الصفحات، الهدف منها استخلاص تلك الاحرف التي تشكل اسم (فقيه الطين).

اهم خصائص النص:

اولاً- اللغة : تميز النتاج السردي لواثق الجلبي بتفرد اللغة، التي تشكل حجز الزاوية في نصوصه الروائية والقصصية، حتى انها تهيمن على الاحداث وحراك ابطاله في معظم هذه النصوص، هذه اللغة التي توسطت بين الشعر والنثر واتخذت لها بين ذلك سبيلا، تثير اسئلة مهمة حول موضوع (التجنيس) بالنسبة لهذه النصوص.. وهل يمكن ان نطلق على ما نقرأه لواثق الجلبي بأنه (رواية ، قصة)؟ ام ان هذا المنحى اللغوي الغريب يحيلنا الى جدلية ادبية نبحث من خلالها عن مسمى اخر لهذه النمطية الهجينة ؟

من يقرئ النصوص السردية لواثق الجلبي يلاحظ ان هناك استثمار للغة الشعرية في البناء السردي، مع المحافظة على تراتبية النص الأرسطي (بداية، ذروة، حل) بضبابية متعمدة تشوب التفاصيل الجزئية والثانوية للنص .. في رواية (فقيه الطين): غابت التفاصيل الضمنية المكملة للنص السردي مقابل هيمنة الانزياحات والانثيالات اللغوية، وغاب الوصف مقابل شاعرية اللغة،  وغاب التشيؤ مقابل الايحاءات اللغوية، وغاب عنصر الزمان مقابل الانتقالات اللغوية .. (تمتمات الاسى تضرب بجراتها عليه منتظرة عودة الزمن ليغتال نفسه او يبيدها سرابا لا يقترب اليه احد .. في تضمينه احداث وعوالم مختلفة كانت اشد فتكا من النعومة.. اشتعاله الدائم كان ترنيمة خلود لا تعرف السكينة.. عيناه تتخللهما عودة مرضية لشبق السلالم المتاخمة للفلسفة الطامحة) .. هذه البدائل التي طرحها واثق الجلبي ربما تؤسس لنمطية جديدة في السرد بدأت بواكيرها في اول مجموعة قصصية له (قشرة الملح).

2369 فقه الطيناحتوى النص على الكثير من المفردات الغريبة القليلة التداول مثل (اماليد)، اضافة الى ميل بعض الحوارات الى (الخطاب المسرحي) كما في هذا النص الذي يمثل حديث يوجهه البطل الى فقيه الطين (ايها الفقيه الذي احمل منه حرفا ناولني بقيتك..).. اضافة الى وجود مقاربات لفظية (تناص قرآني) كما في هذه الامثلة :

1- لاريب فيه .

2-  اربعين سنة مما يعدون.

3-  بلسان عراقي مبين.

4-  التقطه بعض السيارة.

وقد لجأ واثق الجلبي الى (التضاد اللغوي) للتعبير عن حجم المتناقضات التي يعيشها بطله، وانعكاساتها على احاسيسه ومشاعره ومواقفه اتجاه الاحداث المحيطة به:

1- اقام عزاء السعادة في سرادق الوهم.

2- دخل في ظلام الشمس.

3- الصوت يقتلع بالبرودة الساخنة .

4- في خضم الانتهاء من سكرات صحوته.

5- شادخا قلبه ومالئا توابيت صدره بالهناء.

ثانياً - السارد العليم: هيمنت ثقافة السارد العليم (الروائي) على النص وعلى بطله، ثقافة موسوعية سخرها واثق الجلبي لإثارة الكثير من الشكوك والتساؤلات عن (اصل المعرفة، الحكمة، التصوف) اضافة الى محاولته لإبداء آرائه الناضجة وتعليقاته على احداث ومسلمات تاريخية، او يعتقد الكثيرين انها كذلك، وتساؤلات في بؤرة العنونة تبين قصدية النص، كان البطل هنا مجرد اداة لاوجود مادي لها، غير كونه شماعة تُعلق عليه اراء وتصورات الروائي السياسية والثقافية، فقد عمد واثق الجلبي على احدث تعالق أنطولوجي بينه وبين بطله يصعب الفرز او التمييز بينهما، وكأنه شريك معه في هذا المأزق التاريخي..  وقد وضع الروائي لنصه معادل موضوعي يتلاءم مع طبيعته واهميته، من خلال زج البطل في عملية البحث عن (الحكمة، الكمال، العدل، القيم المطلقة) المتجسدة في فقيه الطين لذا كان (البطل = قيمة الحدث) من حيث حضوره المعرفي والثقافي وحجم التداعيات التي يمر بها ومستوى الاحداث السياسية المحيطة به (هناك دسائس توضع بالمصطلحات والاسماء لكن الحكمة التي يتبرا منها الجميع تقريبا كانت اشد ثباتا من التخلل الذي اطاح بأغلب الاسماء فالطبقية ليست عدالة عند البعض والحكمة تقضي ان يبقى الانسان باحثا على الاجوبة لو استغرقت ذلك لبعض الحيوات).. التعالق الفكري والمعرفي الذي اشرنا اليه، بين الروائي وبطله نجده عبر انتقالات مفاجئة في السرد، بين المفرد الغائب (هو) الى صيغة الجمع الحاضر (نحن).. واستعماله صيغة الجمع (نلجأ) بدلا من المفرد (يلجأ).. هذا الامر يتكرر في البناء السردي للنص بطريقة ملحوظة بالرغم من غرابته على هيكلية لغة النص.. عملية التعميم هذه تشير الى رمزية البطل، كونه يمثل ايقونة لكل مثقفي العراق (هل سنأكل الجثث؟ ميزانيات مصدرة الى خارج الافق ..ثعابين الجوع في كل مكان .. ماذا نكتب؟ ماذا نقرا؟ من يقرا؟ من يكتب؟ من يرضى ان نقتل جميعا؟ اين المال؟ وحشود الفقراء تلاحقنا.. ووزارات تقتل الاف العمال .. لا راس معي ؟؟ لا عنوان.. لا اشبه موتي ..لا اشبهني .. كيف نعيش؟ في هذه الدولة سنوت حتما .. سنقتل نحن واولادنا وستسبى نساؤنا .. هل هذا ما يريده السياسي؟).

ثالثا – فقيه الطين : لماذا اختار واثق الجلبي هذه الثيمة الغرائبية في تعاطيه مع الواقع المرير؟  شكل المُنقذ ركيزة مهمة في ادبيات الاديان، واصبح امل لكل الاثنيات الدينية والاقليات القومية المستضعفة عبر التاريخ، ومأمول مُعول عليه في انتصار الحق، ونشر الفضيلة في ارجاء المعمورة.. هذه الميثولوجيا الدينية التي تحولت مع الزمن الى حقيقة اجتماعية تتعايش معها الكثير من الامم والشعوب على مر التاريخ، كان لجوء الروائي لغرض استحضار القيم المطلقة التي تمثلها، والتي تلاشت في عصرنا واصبحت ازمة الانسان المعاصر، وربما تكون ذات تأثير اكبر في مجتمعنا العراقي الذي تعايش مع هذا المفهوم لقرون طويلة، لذا كانت الحاجة الى اسقاط هذه القيم السامية على واقعنا العراقي المعاش.. او قد يكون هذا الاستحضار ناتجاً عن يأس وعجز وغياب القدرة على تغيير الواقع، في عملية تناص مع (غودو) الحاضر في ذهنية المستضعفين (الغائب) عن ارض الواقع (الانسان ظل الله وظل الانسان هو الملك الذي يشبه مرآة السماء الانسان العراقي الذي بدا منه العالم والذي انقذ العالم بالعلم وبالسفينة هل استسلم الان ؟ حاول ان يقدم شيئا بعد معرفته لفقيه الطين فهو يحاول ان يجده لينقذ العالم بالمعرفة ولكن هل هناك وقت للإنقاذ ؟ ام انه سيؤسس  لشيء يستغله الاخرون ؟).

رابعا – عرقنة النص: هي ظاهرة ادبية عراقية برزت بعد الاحتلال الامريكي للعراق 2003 تميزت على المستوى السردي الروائي، حيث برز كتاب تناولوا العراق ماضيا وحاضرا كقيمة عليا، محاولين خلق ثقافة مضادة لكمية الفوضى والخراب اللذان حلا به، فهي تجربة ثقافية لإعادة الوجه المشرق للعراق وابراز دوره الريادي والحضاري والانساني على مستوى البشرية جمعاء، من خلال رؤية موضوعية مجردة تسعى الى ربط جميع وشائجه عبر التاريخ، وصولاً الى العصر الحديث.. رواية (فقيه الطين) بانوراما تاريخية بأسلوب حداثوي معاصر، تزخر بشواهد الاسطورة والدين والتراث، جعلت من فقيه الطين عراقيا صميمياً، متعكزة على الدور الريادي والحضاري للعراق عبر التاريخ، ولهذا لابد من ان يكون فقيه الطين عراقياً.. لذا نجد الرواية حافلة بكل ما هو عراقي عبر التاريخ:

1- نوح النبي العراقي الذي انقذ البشرية (يتحسس سنينه التي غادرت مع سفينة نوح العراقي).

2-  ابراهيم النبي العراقي، مؤسس ديانة التوحيد.. واب الديانات الابراهيمية.

3-  كلكامش واسطورة الخلود.

4- النخلة العراقية (نخلته النيسانية تستبد بحكمتها العراقية).

 

احمد عواد الخزاعي

 

إنعام كمونة: إضاءة نقدية في نص الملحد للشاعر ريكان ابراهيم

التفاصيل
كتب بواسطة: إنعام كمونة

انعام كمونةنص وعنوان فيه رمزية غائرة عن التفكر في كونية الخلق وكيان كل البشر منذ الخلق والنشوء حتى الممات والحيرة التي تدعمها المعرفة عن المجهول هي فطرة ربانية لكيمياء الفكر وفيزياء الذات والإتقاد السايكولوجي المستحدث والذي يبهر يقين وجوده ويستغرب زحزحة شكه، فيبحث عن الأسباب ملفقا فلسفته يدعمها بخياله الجامح أحيانا وبمنطق معقول احيانا أُخر، فما يتوارى خلف الحقيقة عمى الظن وما نراه في الخيال قناعة ارتواء تغنينا عن المستحيل، لذا كلمة ( لو) تأكيد ضعفنا ورسوخ قلة استطاعتنا، مهما بحثنا عن أسرار الكون وأيونات الوجود ..

سيميائية العنوان :صيغة وصفية فيها المعنى ومفهوم حال فيه المحمول والتبعية من الظاهر والباطن بدلالات صوفية واجتراحات نفسية ومؤثرات اجتماعية باختلافات عقدية، فيها التميز والعادي، التصريح والتعتيم، الوضوح والغموض، المستحب والمنبوذ، ورمز ثري بما يجيز لنا من إيحاء يتناغم القارئ معها لاستدراج مرجعياتها والتنقيب عن كنهها واستنطاق طاقاتها باسترسال باحث واستقراء مستغرب، لذا تعم المتعة بالتتابع ولا تنتهي ....

استشراف :أن الإمكانات المستحدثة للرؤى هي قيمة جمالية وفنية بناء وبراعة لغة، فحين يكون النص مختلف بلغته منحرف بأسلوبه متمرد بصوته يكون مغايرا لقداسة الأجناس الأدبية بمعايير مختلفة عن النصوص الكلاسيكية تستنفر القارئ/المتلقي فيجد في تأويلاته المتعددة باستدراج دلالاته بتعدد القراءات يكون نص ما بعد حداثي،لذا يحثنا لهدمه وبناء قوامه بفرض المتعة للقارئ والناقد فيخلق تناسق مشترك معهم بما يحدده مستوياتهم المعرفية فيتعاضد القارئ مع قاموس النص بخصوصية لسانية لبناء مقصده بتذليل عبارات وجمل وكلمات ورموز النص ضمن قواعد معينة ...

النص:

للنص أوجه عدة بزوايا رؤى متعددة، أراد منها الشاعر نقاش موضوعي، وجدلية فكرة بانفتاح مطلق، تستجد من زمن لآخر، ومن شخص لآخر بما يتوافق مع فكره وآفاق رؤاه، كما تختلف بمستوياته العقائدية والالتزام الاجتماعي وفلسفته النفسية، بما تجيز الممنوع وتمنع المجاز، في أنساقه التضارب الواعي والتضاد الاستعاري وبيان الفكرة وتقنية الأدوات،نستنطق منه عرفانية ناسك وانعتاق درويش وتساؤل وجودي والهام شاعر واستبصار كهنوت وفضول عابد عن لدن الغيب،لذا سيدركها القارئ بفهمه المؤول، ورصد تجربته الحياتية فيتقبلها على قدر حالته الذهنية بكل سرحان تحليل وامتداد تفسير مطلق ومقيد، فيمنحه الدلالة والتأويل، بتجاوب مع طاقات استيعابه للفكرة وما يستشرق من خلاصة مراد وقصدية الشاعر...

 النص رسالة لمرسل اليه، فيها الحنكة والمعلومة الغنية عن المؤمن كما نسميه والملحد كما نجيز اعتباره فبأي ميزان نزنه وبأي سلطة نصفه، مما يدعونا أن ندق ابواب النقاش بمحور افتراض ونستدعي مفتاح تخمين، بتأويل متنوع من حين لآخر ومن قارئ لآخر وتلك متعة عدم انغلاق النص ولا أقصد بانفتاح يضيع فيه الموضوع أو تتهاوى الفكرة بل يستجد به الافتراض التأويلي بشغف القارئ ....

فالأيمان حس وجداني وطمأنينة نفس وفلسفة روح من الباطن وليس الظاهر والا سيكون خلخلة حس واضطراب روح، وكذلك عقيدة الإيمان جوهرية إحساس تنبع من الخاص وليس العام والا ما فائدة قناعته أو رضاه ان تكون عقدة تطبع لا غير، ونرى بطبيعة الانتماء وعدمه يبحث الأنسان عن مجهولية الإله ليركن اليه ليشعر بعدم ضياعه، فيعمل ما يقربه باعتقاده ويفسر مردودها عليه بالقبول والرفض وطبيعة النكران للإله هو تساؤل ولربما استنتاج ملموس وغير ملموس فكثير من القبائل أو المجموعات تخلق لها انتماء روحي باي شكل من الأشكال بطقوس معينة لتتميز عن الآخرين، اذن هو تفكر ذاتي للرجوع لمفردة المحسوس والا محسوس، والملموس والا ملموس، فالجزم والتعيين هي حلقة نقاش لا تنتهي من خلال فكرة النص يثيرها كاتب النص، وموضوع العبادة حرية اختيار، وبحتية رأي وقد يكون انتماء اجتماعي، والا سيعمده احساسه بغائب وغير منظور وهو يبحث عن جدلية الخالق بمحيطه، لذا يلجأ الأنسان بفطرته الا ارادية دوما للاستكشاف، لماذا خلق ومن أين جاء وأين سيذهب وكيف سيكون ولماذا تكون هكذا نهايته وما ذا بعد الموت مما يجعله يفكر بالخلود طمعا بحياة اخرى فيختار أما طريق الانحراف والانحراف أو الالتزام بمقومات دينه وعقيدته واعتقاده والنص فيه دلالات توحي بالبحث عن الأسباب في الحياة والممات، برمزية عن جميع طبقات المجتمع وباختلاف الأديان ...

 خلاصة

 برؤياي المتواضعة للنص خلاصة فلسفة عن عموم وجود مما يراها الدكتور والشاعر والأديب استاذ ريكان عن تماس وهو المعالج والدواء فله الخبرة بإتقان الفكرة وانتقاء الموضوع بحكمة حكيم واستبصار من تنوع طيفي لمرضاه ومحيطه وتنوع استشعاره الرؤيوي بذكاء شاعر وأسلوبه المميز بتناوله مواضيع متميزة بحداثة الصور ...

 رؤياي بعموم النص: نص يشحذ طاقة الدلالات بانفتاح التأويل بلغة معرفية وأسلوب تحليلي، ونفسي كما معظم نصوص الشاعر غالبا

دمت بالق وبورك مداد الرؤى وغيث اللغة

 

اضاءة / إنعام كمونة

..................

للاطلاع

ريكان ابراهيم: المُلحِد

 

جيفري ناش: خالد والاستشراق

التفاصيل
كتب بواسطة: د. صالح الرزوق

2349 geoffrey pnashترجمة: صالح الرزوق

إن استيراد صورة الشرق العربي كما يراها خالد والبناء عليها في بحث كوكس عن المدينة العلمانية يعني أننا نحتاج للامتناع عن التفكير أين يمكن أن يودي بنا مقاربة الاستشراقيين وما بعد الكولونياليين لعمل الريحاني. وقراءة سعيد المضادة عن خالد (الثقافة والإمبريالية لإدوارد سعيد وليس الاستشراق) تساعدنا على تخليص السردية المركزية الغربية، عن الإنسان الحديث، من مركزيتها، كما يقدمها لنا كوكس. وهذا يقودنا للعثور على مكان للكاتب المهاجر من“العالم الثالث”، وعن “رحلته إلى” الميتروبول الغربي. مع ذلك تبقى أمامنا مشكلة: وهي وجوب النظر لكتابات سعيد على أنها بعد كولونيالية وتحشد البخار المنطلق من فترة ما بعد تفكيك الاستعمار مباشرة.  فهو يقترح شخصيات مثل غينوا أتشيبي والطيب صالح ونغوجي واثيونغو. وجميعهم كتبوا عن لحظة تفكيك الاستعمار أو ما يليها كما لو أنهم لا يشذون بشيء عن أولئك الذين تفهموا حدود المركز-  الميتروبول للسلطات الإمبريالية السابقة.  لو صدقنا إعجاز أحمد لدى سعيد القليل ليقوله عن الدور الذي يمكن لكاتب من “العالم الثالث” أن يؤديه في المقاومة خلال الفترة الاستعمارية التي كان الريحاني يكتب فيها (42). لقد ناقش سعيد في “الثقافة والإمبريالية” القومية العربية كما كانت عليه في الثلث الأول من القرن العشرين وكما فهمها شخص من نوع جورج أنطونيوس. ورغم إعجابه بكتاب “الصحوة العربية” لأنطونيوس وخطابه القومي العربي، كان يرى أنه تابع للنظام الغربي الذي يروج لليبرالية والديمقراطية (43). ولو كتب سعيد عن الريحاني سيدو مثل مهاجر عربي وكاتب مثقف له دور ووضعية محدودان في الميتروبول الغربي، لكنه سقط في الشبكة الاستشراقية، أو أنه سيظهر كممثل متعب يؤدي دوره على مسرح الشرق الأوسط وهو مقيد الوثاق بالسردية القومية التي ترد على الكولونيالية. وهذا يعني تحميل خالد مهمة المحاكاة الساخرة غير المؤثرة للخطاب الاستشراقي. ووائل حسان أيضا سيحرر دور الريحاني بطريقة مقيدة وهو يطبق نظرية الاستشراق وما بعد الكولونيالية في دراسته “نشوء الأدب العرب أمريكي”.

وفي نقده لوجهة النظر اللبنانية التقليدية للريحاني وجبران كعباقرة كبار وأبناء مهاجرين من لبنان، لا ينسى أن ينظر إليهما كشخصين من الأقليات العرقية في أمريكا، وحاولا خلق مجال لهما ضمن الخطاب الغربي المهيمن: كانا من بين محاولات الكتاب العرب الأمريكيين الساعين لاستبدال المستشرق بمفسر أو مترجم للشرق. وكانت هذه الجهود مجرد طريقة للمطالبة بفضاء وصوت ثقافي، ولتعديل السلبية المرتبطة بالمشرق، وللتوسط بينه وبين الغرب من أجل فهم ناجع للمثاقفة... والتحدي الخطابي الذي واجههما يهدف لاستبدال القيم الاستشراقية بنمط ثنائي دون تراتب طبقي، في حين أن الماهيات المتقابلة كانت تبدو كما لو أنها موجودة في نوع من أنواع التوازن الميتافيزيقي وتبادل المنافع: حاجة الشرق والغرب للمجاملات، وتبادل الدروس والعظات (44).

إن أي مقاربة نظرية مثل ما بعد الكولونيالية، والتي تقتبس من سعيد وفوكو كثيرا، ستؤكد (مثل حسان) أن مشكلة لقاء الشرق والغرب في بدايات القرن العشرين الأمريكي كان بالضرورة موضوعا يعاني من المعايب. والآن نحن نجرد فكرة “الشرق” و“الغرب” من المصداقية. ونروج أن الريحاني وجبران بلا جذور سياسية في الجهد الثقافي لتك الفترة، وهما يقدمان عن نفسيهما صورة وسائط ذات “دينامية هيغلية سوف تمزج في النهاية الشرق والغرب وتقدم أطروحة حضارية مركبة أعلى”، ولكن مثل “هذه الميتافيزيقا المتعالية للروح، والنبوءة، والشعر... ستخطئ رؤية الظروف المادية للانتاج الثقافي والإيديولوجي... <وهناك> أخاديد لا يمكن اختزالها بين الميتافيزيقا الرقيقة والحقيقة المادية” (45). وباعتبار أنه هناك عدم تجانس عميق في القوة بين الثقافة الغربية والعربية لتلك الفترة (وحتى اليوم) إن ابتعادي عن أطروحة من هذا النوع كما افترضها أدباء المهجر لن تكون محتملة على الإطلاق. ومن الواضح أن الريحاني بوضعه الثقافي الضعيف “المتردد بين لحظة تفكيك الاستشراق وغواية الانضمام للعبة الرجولة الثقافية - يعبر عن رغبته بالتحرك على طول المحورين” (46). 

خالد والذات الأصيلة العابرة للثقافات

شرح لنا حسان بشكل واضح أن “التوتر بين مقاومة ريحاني للاستشراق واستثماره” هو موضوع كتاب خالد (47). ومع ذلك أود أن أضيف أنه في الفصول الأخيرة من الرواية يوجد انحسار للإطار العلماني لمدينة نيويورك ولتجربة الانفصال التي يمر بها أي مهاجر، ويبدأ لعب ريحاني وعزفه على نغمة الثورة في الشرق الأوسط، وهكذا ينشأ فضاء لثقافة ذات عربية عابرة للحدود وأصيلة. والسؤال الذي يمكننا توجيهه بما يخص هجوم خالد العبثي على الشرق الأوسط من الناحيتين السياسية والدينية، هو أيضا امتداد لنكسة في خبرات خالد العلمانية العربية المتحررة والتي حصل عليها في نيويورك. بالنسبة لوائل حسان إن قراءة “كتاب خالد” على أنه سرديات مهاجر “وضعها الريحاني لتحديد أو للمبالغة “باستشراقية” خالد لدرجة كاريكاتورية، ولكن هذا التخطيط الساخر إنما ينقل وعي الأمريكيين” (48). عموما يجب أن نشك أنه في زمن كتابة الرواية لم يكن لدينا عدد ملحوظ من الأمريكيين الذين يعرفون أي شيء عن ثورة الشباب الأتراك التي اندلعت عام 1907، أو أهمية ماضي ومستقبل الوهابية، أو أن حركة البهائيين تجذب أتباع الغرب لمركز فلسطين، أو أن الحزب القومي العربي كان في الأفق (وفعليا لم يكن في عام 1911 سوى القليل من الأشخاص في الشرق الأوسط نفسه يدرك ذلك).  

الكلمة التي ألقاها خالد في الجامع الأموي واللهجة التي استعملها مع “البهائية” الأمريكية تشير أن الأنثى المتحولة هي نتاج ارتباط ريحاني مع اتجاهات نموذجية في تلك الأيام: كلها نقلت تفكير خالد إلى أبعاد جديدة ركزت على رؤيته في سبيل شرق أوسط محسن. وفي مركز هذه الرؤية تأتي انشغالات ريحاني بالنهضة والاستفادة من الثورة التركية الشابة وكأنها عقدة in medias res عمله. وكما يقول خالد في منبر المسجد الأموي“إنه بداية الربيع العربي، وانبعاث أمجاد الإسلام” (49). وكانت قوميته العربية تتضمن الإسلام بالمعنى السياسي والثقافي ولكنها تواصل لما بعد أفكار البروباغاندا المسيحية عن الاتجاه القومي العربي بسبب ارتباطاتها الروحية ذات الميول للتصوف مع الإسلام. (ويضاف لذلك، بنظرنا عوائق ومحفزات الوهابية، “الإسلام بطبيعته النقية... إسلام عصر الخلافة العظيمة الأولى”). والنقلة الثانية التي تورط اندفاع الإصلاحي خالد هي رؤية تجديد الرسالة الأبدية للدين:” البهائية... الشعلة القديمة، يعاد إضرامها بعد عدة قرون، بإذن الله” والوسيط هو السيدة غوتفري، سيدة أمريكية، ولها، مع صفات شرقية أخرى، شعر أسود غزير” جوهرة شرقية بتكوين أمريكي” (50). إن سبب التوتر الناشئ بين خصوصيات القومية العربية والبهائية هو خالد الذي يرى نفسه نبيا (“مهدي”) للطرف الأول، بينما يمثل عباس أفندي الطرف الثاني ويرى أنه قائد حيفا. وهنا نقطة مفصلية هامة: كلا الحركتين تستحقان تأييد خالد. وخطاباهما عن التجديد العربي والديني لا يزالان مكتوبين بمصطلحات مزدوجة: شرق/غرب، وهذه حقيقة لم تبدلها رغبة خالد في الانتماء للعروبة، وهي ترقية من “الفكرة” الألمانية كما نقلها كارلايل. فهي تتضمن لمؤهلات تهيئها لتكون شرقية أصيلة: الشرق أرض النشوء والنبوات، ويجب حل هذه المشكلة الأزلية المتعلقة بالقديم والجيد، الخطأ والصحيح بما يخدم تصوراتها. وسواء كان بالثورة، أو التأمل، أو الدستور، إن الرؤيا العريقة ستنبثق وتعود لفطرتها الأصلية النقية” (51).  وينظر كريستوف شومان لما بعد تضاد شرق / غرب كما يظهر في كتابات ريحاني، ويؤكد أن الريحاني كان “رجلا هامشيا” وكتاباته تشكلت بخبرات عابرة للثقافات وليس من إيديولوجيات محددة، ولا قناعات أو أنظمة أو مدارس نخبوية... <لقد كان> هامشيا بالنسبة للحضارة الغربية والشرقية، أو ثقافة الأنغلوساكسون وثقافة العرب، أو للمسيحية اللبنانية والإسلام. ومن زاوية مختلفة يبدو كأنه تعبير مركزي و“أصيل” عن الفضاء العابر للثقافات نفسه، والذي انفتح بين كل هذه المسميات... (52).

ولدينا براهين كثيرة حتى الآن تؤكد افتراض أن خالد هو عربي عابر ثقافات، ولا يمكنه أن يتحاور فقط مع الفضاء التعددي لنيويورك العلمانية والربيع العربي لدمشق الثائرة (ومع أن النبوءات العابرة للثقافات عن إسلام محسن قربته من السقوط)، إلا إن كان مستوطنا محترما و“أصليا” من القرن العشرين ويتحلى بوعي كوني. وبالاستطراد فيما يخص الزعم بأصالة ريحاني سأتوقف مع بحث روبيرت د. لي “التغلب على التقاليد والحداثة: البحث عن أصالة إسلامية”. وما يجذبني فيه هو اختبار فرضية لي حول الأصالة ووضعها على محك “كتاب خالد” للريحاني، وفيها يمكن أن تجد البديل للاستشراق وما بعد الكولونيالية، وفرصة تعوض عن اعتبار خالد شخصية ثقافية مهاجرة. وهكذا نسبر ظروف احتمالية عن اختلاق ذات جديدة (ومجتمعات جديدة في شمال أمريكا والشرق الأوسط). بالنسبة إلى لي يمكن استيعاب مفهوم الأصالة من خلال أربع فئات (53):   

1- تفرد الذات. التفكير الأصيل “يبدأ من مفهوم الذات كعنصر متفرد.. هناك شيء يدعى “الذات”... وتسعى للقيام باختياراتها لتمييز نفسها عن ما هو ليس ذاته. وهذه الخيارات، لتكون أصيلة، يجب أن تعكس خصوصيات تتضمن السياق”.

2- النشاط الإنساني الأصيل. “التفكير الأصيل، بكل أشكاله، يصر على أن الكائنات البشرية تصمم تاريخها، وعليه، نفسها.. والتفكير الأصيل يفترض سيادة إنسانية”.

3- الثورة ضد التقاليد والحداثة. “يتضمن التفكير الأصيل ثورة ضد الحداثة والتقاليد” وبالأخص “أن التقاليد تكبح الخيار الإنساني وتحطم المبادرة البشرية”.  ورواد الأصالة منذ روسو والمؤرخين الألمان وما بعد أيضا “تحدوا العقلانية العلمانية للتنوير، مع أنها من أساسيات الحداثة. ولتقديم تفسيرات كونية... ينظرون للأسطورة والإبهام على أنهما من عناصر الحقيقة التي تذهب لما بعد ما يفهمه العقل.

4- الفردية الراديكالية والمسار العام. بما أن التفكير الأصيل يرفض الكونيات، عليه أن يواجه مخاطر الخصوصية، ولو أنها كلها نتاج ثقافات متفردة فهذا يحد لدرجة قصوى “القيم التي تراقب الثقافات”.  مع ذلك “إن كل عناصر الأصالة، والتي تضمن سرية الذات، تحاول أن تعيد تأسيس بعض عناصر الجماعة وترابطاتها... وكل أنواع التفكير الأصيل تتضمن تأكيدات على الواحدية لتعادل بها دافع الخصوصيات التي تحتها”.  

ولتعقيب لي عن الأصالة تطبيقات هامة في كتابات مدرسة المهجر العربية في أمريكا، وبسبب تماسها مع الرومنسية الروسوية والنيتشوية التي أشرت لنهايات القرن التاسع عشر، أخفقت بنقاط أساسية في استيعاب الحداثة الغربية، المقابل الثقافي المعاصر لها. والفردانية المتمردة المكافحة ضد التقاليد، وهذه خصلة أساسية في كتابات المهجر (ويأتي بالذهن “المجنون” لجبران)، وتقدم بصوت خالد أعلى نبراتها. هنا نقابل إحساسا قويا بالتميز الذاتي، ثورة ضد التقاليد والحداثة، وحركة موجبة مستقلة تتحكم بزمام نفسها، وهو ما يعيد تعميق الرؤية اللبنانية والعربية بسياقها التاريخي. أيضا، إن قررنا أن لا نقرأها بواسطة الموشور الاستشراقي، إن تركيب خالد “للمصاعب” الأمريكية والإبهام الشرقي يمكن رؤيته بضوء الاندفاع نحو الوحدانية، وهي محاولة لدمج خصوصيتين اثنتين من أجل تحفيز “القيم التي تلازم الثقافات”. في النهاية، بمراجعة عدة سرديات أساسية من بدايات القرن العشرين، يرفض خالد ميول العولمة والتحديث التي ترافقت مع التنوير. ويستمر التصوف الغامض جوهريا لصوت خالد العابر للثقافات، مؤشرا على بديل للانجذاب نحو إلحاد المدينة الغربية العلمانية. وبالتمايز المعاكس، ومن زاوية المادية التاريخية المجسمة والراديكالية العلمانية الوهمية والتي تعتمد على ما بعد الماركسية وما بعد البنوية، يصبح النقد بعد الكولونيالي أصم تجاه سياق “التصوف والأسطورة... والتي تصل لما بعد نطاق العقل” وفيما هي تثبت قدراتها على إرسال القرن العشرين نحو هاوية غير عقلانية مظلمة، يمكن للشكل المعدل (كما تقترح البهائية مثلا) أن يستمر من خلال أمل بالتوحيد.

خاتمة

كتاب خالد لرائد الرواية الأنغلوفونية، الريحاني، مهم من وجهة نظر التناص، ولا سيما في قراءة الروايات العربية التالية المكتوبة بالإنكليزية.  وكما بينت أعلاه رد فعل ريحاني نحو أمريكا، وبالأخص على مستوى الإيديولوجيا الثقافية والاجتماعية، كان إبداعيا ويعاني لدرجة أقل من القيود البيتية للخطاب الاستشراقي (بمعنى أنه لم يسجن نفسه بتقاليد قانون الاستشراق)، بعكس إيحاءات بعض محاولات النقد المعاصر. إن وجهات النظر بعد الكولونيالية تنظر لمشروع ريحاني على أنه رؤية شرقية فاشلة ومجرد تطبيق يحرص على محاكاة المشروع الاستعماري، ومن موقع كاتب عربي غير مؤثر يكافح للتخلص من أعباء الاستشراق. ولكن أجد ضرورة لنفي هذا الافتراض على أساس شخصية خالد “الأصيلة” والعابرة للثقافات. وباعتقادي إن ريحاني كاتب عربي يفرض علينا رفض الذوات غير الأصيلة التي أنتجتها الأعراف التقليدية والحداثة. ورفض البلدة الشرق أوسطية التقليدية، يقود خالد للاعتراف بالمدينة العلمانية بما أنها توفر الظروف المناسبة له لتطوير ذات متمردة ومضادة للتقاليد. وعلى أية حال هو لم يشحن المادية الملحدة الفاسدة للحداثة العلمانية، ولكنه بحث، بالتزامن مع حركات التجديد في الشرق الأوسط، عن فضاء لخلق ذات عربية متحررة  enfranchized وعابرة للثقافات. وبهذه الطريقة إن إبداع ريحاني القصصي وشخصية خالد المتخيلة تفتح فضاء للكتاب العرب الأنغلوفونيين الذين سيبرزون لاحقا. ومن خلال الشخصيات المتحولة ذاتيا في روايات جمال محجوب العربي الأفريقي والشخصيات المهاجرة الإسلامية الجديدة في أعمال ليلى أبو العلا، يمكننا متابعة اكتشاف العلاقة مع نموذج ريحاني. روايات محجوب في أواخر 1980 و1990 تركز على أفراد عرب/أفريقيا وأنغلو عرب / أفريقيين والذين يعملون على تصعيد حدود بنيتهم الفردية ومكياجاتهم الاجتماع ثقافية من خلال الاقتراب من آفاق روحية أوسع. وفي مقدمة هذه المحاولات روايات مهجرية لليلى أبو العلا، ومنها “المترجم” و”المنارة”، وهي مثال عن العودة للتقاليد الدينية الشرقية. قد نفهم من ذلك أنها تمثل ردة فعل على الحرية التي اكتشفها خالد في أمريكا. والحقيقة إن الحالة غير ذلك تماما. إن شخصيات أبو العلا تجد مكانا لها في الميتروبول الغربي الحضري، وفرصة تفعيل هوية إسلامية جديدة أصيلة لا يمكن أن تقوم بها في الوطن (54). إن مضاعفات السردية والثيمات والخطاب في “كتاب خالد” لا تزال تقدم حتى الآن إلهاما عميقا للرواية العربية بعد الحديثة المكتوبة بالإنكليزية، بمشروعها الواضح فيما يتعلق بعبور الحدود، وبمحاولة الاستجابة للرأسمال الروحي الدائم في المجتمعات المعاصرة التي يقودها الغرب بصادراته المتعولمة وبدوغمائية فقيرة تمثلها علمانية أصولية.

 

..............................

* جيفري ناش Geoffrey Nash باحث إنكليزي. كان أستاذا في كلية الدراسات الإفريقية والاستشراقية بجامعة لندن.  من أهم مؤلفاته (الكتاب العرب باللغة الإنكليزية: موضوعات عربية بلغة الميتروبول 1908 - 1958) صدر 1998. و(الاستشراق والأدب) صدر 2020.

ت: صالح الرزوق / عن كتاب نوري غانا: دليل إدنبرة للرواية العربية المكتوبة بالإنكليزية: سياسة الأنغلو عربي والأدب والثقافة لعرب أمريكا.

هوامش

42- انظر إعجاز أحمد، عن النظرية والطبقات والأمم والآداب (لندن: فيرسو. 1992). فصل 2.

43- انظر إدوارد سعيد. الثقافة والإمبريالية (لندن: شاتو & ويندوس، 1993). الفصل 3. الفقرة 2 - 4. ناش، الكتاب العرب بالإنكليزية، الفصل 5.

44- حسان، السرديات المهاجرة. 42 - 3.

45- مرجع سابق. 43، 45.

46- مرجع سابق. 47.

47- مرجع سابق. 57. ربما هذا ينطبق على ريحاني وحالة كتاب خالد حيث أن إحساس خالد بثقافته العربة وإرثها قادر على مقاومة الخضوع لأمريكا. ولكن الرواية تقول القليل عن معنى القومية ثقافيا وسياسيا لريحاني خلال عقد العشرينات والثلاثينات حينما كانت السياسة قوميته تبعده عن توجهه للغرب ونحو معارضة حيوية متزايدة، كما نرى في مقولته عن الاستعمار الصهيوني لفلسطين. انظر: ناش، الكتاب العرب بالإنكليزية. 75- 6.

48- حسان. السرديات المهاجرة. 58.

49- ريحاني. كتاب خالد. 316. انظر الملاحظة 5 أعلاه.

50- ريحاني. كتاب خالد. 308، 307، 285. كان عدد من البهائيات النساء والثريات والمعروفات متحولات من الدين اليهودي، مع ذلك يربط خالد السيدة غوتفري إلى الأندلس العربية عن طريق الجنوب الهسباني.

51- مرجع سابق. 287. أي حروف مختلفة من عندياتي.

52- كريستوف شومان. “ضمن أو بلا؟ أمين الريحاني والفضاء عابر الثقافات بين ،الغرب، و،الشرق،، “في التفكير الليبرالي في شرق المتوسط: نهايات القرن التاسع عشر وحتى الستينات، إعداد. كريستوف شومان (ليدن: بريل، 2008). 243. يتابع شومان ليؤكد أن العبور الثقافي لريحاني يمكن رؤيته بسياق تجربة المهاجر اللبنان - سوري.

53- روبرت د. لي، تجاوز الأعراف والحداثة (بولدير، سي أو: ويستفيو، 1997) ، 15 - 18. 54. انظر حسان، السرديات المهاجرة. الفصل 8. ناش، لقاء الأنغلو / عرب. الفصل 3 و5. مثل ريحاني، أبو العلا أيضا تجرب على رموز اليوتوبيا الصوفية.

 

 

محمد عرفات حجازي: نقل المومياوات الملكيّة.. قراءة فلسفيّة

التفاصيل
كتب بواسطة: د. محمد عرفات حجازي

محمد عرفات حجازيأضحى العالم أجمع في حالة استعداد قُصوى لمُتابعة الحدث الأضخم: نقل المُومياوات الملكيّة من المتحف المصريّ بالتّحرير إلى المتحف القوميّ للحضارة المصريّة بالفسطاط، وذلك يوم السبت الماضي المُوافق 3/ 4/ 2021م، بما يُمثّله من إضافة فريدة للسّياحة والوعي الأثري، على المستويين: المحليّ والعالميّ.

وأمام تضارب الآراء حول الحدث: إذ يرى البعض أنّه من تداعيات سايكس بيكو: سنُخرج لهم قوميّاتهم قبل إسلامهم (الفرعونيّة؛ البابليّة؛ الآشوريّة... إلخ)؛ وتهكّم آخرون: نقل المومياوات يُثبت أنّ الإنسان في مصر غير مرتاح، حتى الموتى. بينما رأى آخرون أنّ السيسي يُكرم الأموات كما فعل مع الأحياء، وآواهم مدنًا جديدة. ووصفه البعض بالفرعون القادم من أعماق التاريخ ليتحدى أعداء مصر ويعلو بها فوق الرؤوس. فقد تساءل آخرون: ما الذي ورثناه ـ كشعب ودولة ـ من ماضينا الثقافي والحضاري الذي نحتفي به الآن؟، وما هو وزن ومكانة مصر الآن مقارنة بوزن ومكانة مصر القديمة التي نفتخر بها؟ وعلى هذا الأساس نقترح مُناقشة الموضوع من زاوية فلسفيّة. والطرح الفلسفيّ هنا لا يسعى إلى التّعقيد أو إرباك المُتلقِّي، بقدر ما يهدف الدخول لقلب الحدث؛ لأجل فهمه، ومحاولة الإجابة عن بعض التساؤلات الهامّة والملحّة من قبيل: لماذا النقل، وفي هذا التوقيت تحديدًا؟ وهل هناك رسائل كليّة للشّعب المصريّ وللعالم؟ ثمّ ما هي دلالات الإضاءة والكلمات والألوان والموسيقى وغيرها؟

لو بدأنا بتاريخ الحدث (3/ 4/ 2021م)، وبتحليله فلكيًّا، لتوصّلنا إلى الرقم (3) ـ الذي يُعدّ ذبذبة موجات طاقة الكون وسطوع نجم الشعري اليمانية، وهو رمز الميلاد الجديد في علم الفلك المصريّ، والطّاقة النُّورانيّة القُصوى في الميثولوجيا المصريّة، وبالتّالي تكون الرّسالة الفلكيّة: هناك ميلاد جديد لمصر، ميلاد روحيّ وعمليّ.

وعلى مستوى الصورة، فإنّ إضافة مشهد الأطفال المُشاركين في وداع الملوك بالتّحرير، كأحد عناصر جمال الحدث، هو مشهدٌ يمزج بين السّعادة والشجن والأمل؛ سعادةٌ بتلك الوجوه الفرحة المُتطلِّعة لمُستقبلِ أفضل، والتي تُضاعف إيماننا العميق بحقّها في حياة كريمة. وشجنٌ من عجزنا عن رسم تلك الفرحة على وجوه أطفالها. وأملٌ في أن نتكاتف جميعًا، دولةً وشعبًا، عبر مشروعِ تربويّ ثقافيّ نُعيد من خلاله توحيد شعبنا على قيمِ مشتركة، نُؤكِّد من خلالها على ضرورة العدالة الاجتماعية والاعتزاز بالقيم وبالماضي العريق، والعمل لمستقبلِ أفضل.

أيضًا، فالأطباق المُضيئة التي ظهرت في الموكب، ترمز إلى قرص الشّمس (رع) الذي يُشعّ نوره لينير الظلام. وهي ذات الرسالة التي حملها المشهد الذي ظهرت فيه الفنانة منى زكي.

ومن خلال ملابس المُمثّلات والفرق الاستعراضيّة والأوركسترا، وألوان تلك الملابس التي تأرجحت بين الأبيض والأسود، وما يحمله اللونين من دلالات؛ فقد وضع مُصمّمو الأزياء المصريّون معيارًا جديدًا لتصميم الأزياء في كافة أرجاء المعمورة.

وقد اعتمدت الإضاءة على اللونين الأبيض والأزرق. الأبيض رمز النقاء والطهارة؛ والأزرق رمز الطاقة الإيجابيّة القُصوى.

إنّ الموسيقى أعماق العالم، ومُنقذةٌ له، وهي المادة الخام للإرادة بحسب الفيلسوف شوبنهاور. هي ليست أصوات فقط، بل أيضًا لغة الألم والمُعاناة، ووميض الحقيقة الخافت عن العالم الظاهر. وقد قال الفيلسوف الألمانيّ نيتشه: إنّ الموسيقى ألغت الكلمات التي كانت تقول إنّ الوجود كان خطئًا، وأنّها أعطت أجمل المعاني لمعنى الوجود والحياة.

وقامت موسيقى الحفل على النّاي والطبل والقيثارة، فجاءت المعزوفات مُتوافقة مع تردُّدات طاقة الإنسان، ورفعت المعنويّات، وولّدت شعورًا بالسلام الداخلي والفخر. ونقلت مشاعر الجلال والرّهبة والتّقديس لنفوس المُتابعين عبر العالم.

ولو عرجنا على الكلمات، نجد بدايةً أغنية: أنا المصري اللي من غيري ميزان الدنيا يختلّ، لمحمد منير، هي رسالة واضحة بأنّ مصر هي قوى الخير المنوط بها مُواجهة قوى الشرّ. وتتوالى كلماته وتدور حول محور العلم والإيمان الذي استطاع بهما المصريّ القديم كتابة التاريخ المُعجز حتى اللحظة الراهنة.. وهي ذات الرسالة التي تمّ تأكيدها من خلال حديث العديد من الفنّانين.

لقد تمّ اختيار أنشودة المهابة لإيزيس، أم حورس ـ سيد النور، الذي واجه ست (الشيطان) وهزمه وأنهى سيطرته على الأرض، وبالتالي فهي بمثابة رسالة من الأحفاد لمواجهة قوى الظلام. ناهيك عن مشهد زيارة الفنان خالد النبوي للمعبد اليهودي، وهو يُردّد فقرات الوصايا العشر، بمثابة رسالة أخرى للعالم أجمع.

لقد تمّ نقل المومياوات إلى مقرّهم الأخير؛ ليتمّ عرضهم للزّوار بالشّكل الذي يليق بمكانتهم العظيمة، وقيمتهم، وبالطريقة العلميّة المُتطوِّرة التي تضمن سلامة الحفاظ على حالتهم الأثريّة. ليُفصح لنا الحدث عن جهود جبّارة قامت بها الدولة المصريّة خلال السنوات الماضية، من استكشاف وإنشاء وترميم العديد من المعابد والمتاحف والكنائس وغيرها، في واقعة تصنع التاريخ والمستقبل، لتضع مصر، بذلك، الحضارة والآثار على رأس أولويّاتها، مُؤكّدةً إدراكها التام لقيمة إرثها الحضاريّ الفريد والحفاظ عليه، وتعطي العالم درسًا في احترام التاريخ والحضارة.

وقد جاء الحضور النسائيّ، في الحفل، بمثابة رسالة مُباشرة، قويّة واضحة وحازمة، للعالم أجمع، تحمل الاعتزاز بالمرأة المصرية ومكانتها.

إنّ هذا المهرجان الحضاريّ رسالةٌ من قاهرة المُعِزّ إلى العالم أجمع: الدولة المصريّة مُستقرّة ولا يتحكّم فيها إلا أبناؤها، بعد أن استيقظت مصر من سُباتها العميق وتطهّرت بالفنّ الجميل في صحوة حضاريّة غير مسبوقة. وبذلك، فقد قرّرت مصر أن تأخذ مكانتها في الحداثة بأصالتها، وصنعت تاريخًا مُوازيًا لتاريخنا استخرجت منه الحكم والعبر.. إنّها مصر التي لم تحتقر المرأة، بل كانت نساؤها ملكات؛ هي مصر التي عرفت الله الواحد الأحد قبل الأديان الإبراهيمية بمئات السنين؛ هي مصر التي ينطق كل حجر فيها: هنا كان مهندس عظيم، وهنا طبيب عظيم، وهنا كان بنّاء ماهر؛ هي مصر المصريّة التي لم يعرف أهلها حياة الجاهليّة ولم يعبدوا في أيّة فترة آلهة من العجوة.. هي مصر شاء من شاء وأبى من أبى..

وأمام هذا التّنظيم المُبدع، والتّناغم الرّائع، والإطلالة البهيّة، والتّصوير المُبهر بدون إرهاق للمشاهد، والاختيار الرائع للموسيقى والأوركسترا والمطربين، وإخراج الحدث بمستوى عالمي، نقول: أمام هذا النجاح المُبهر في إخراج الموكب الذهبيّ للملوك العظام، وإعطائه طابع ملحميّ ودينيّ وفنيّ وحضاريّ يليق بعظمة وتاريخ مصر، يمكننا التأكيد على وجود دولة ذات طابع حضاريّ من الطراز الرفيع، تحمل هويّة مُميّزة، تملك مُؤسّسات قويّة راسخة، ولديها من القدرة على إثارة سعادة الأشقاء، وإثارة مخاوف، بل وبثّ الرُّعب في نفوس الأعداء..

وأخيرًا، لا يسعنا إلا اقتباس تلك الكلمات..

إنّ مصــــــر لم تنمْ.. ما انهار شعبها العظيم ما انهدم؛

ولن يـــــــــــــــزل.. مُزوّدًا بأعرق القيم مُتوّج الأمل؛

في الأرض كالهرم.. وفي السمـــــــاء للذرى وللقمم..

وباللهجة المصريّة نقول:

دي حكاية شعب وأرض وناس.. ووطن دايمًا مرفــــــوع الراس..

وهيفضل كده لما شــــــاء الله؛

دي حكاية قديــــمة بقالها سنين.. وهتفضل عايشة ليــــــــوم الدين..

اللي يقول غير كده أتحــــــداه؛

وما بين الليل والنور فيه فرق..

وفي يوم طلعت شمس من الشرق نورت الدنيا أمل وحياة..

ده تــــاريخ الناس كلها عارفاه؛

***

محمد عرفات حجازي

باحث في الفلسفة والأخلاق التطبيقية، ومؤسس اتحاد الفلاسفة العرب ـ مصر

 

محمد الموسوي: ثمانية عشر عاما ومعاناة العراقيين لا تنتهي

التفاصيل
كتب بواسطة: د. محمد الموسوي

انها معاناة مضافة الى معاناة اكثر من ثلاثة عقود من القهر والظلم والاضطهاد والحروب العبثية والحصار الجائر ولاينبغي لاحد ان ينسى "انسانية" الامريكان التي انعكست في تصريح مادلين اولبرايت وزيرة الخارجية الامريكية في حينها بان موت اكثر من نصف مليون طفل عراقي بسبب الحصار هو ثمن يستحق ان ندفعه ، لتضاف لذلك في مرحلة لاحقة بعد غزو 2003 الجرائم البشعة على يد القوات الامريكية في سجن ابو غريب وهي جرائم لا ينبغي ان تغيب عن بالنا مهما تقادم الزمان وتكاثرت مآسينا .

ان ذكرى احتلال العراق في عام 2003 ذكرى اليمة ومحزنة حيث نشبت الحرب بحجج وذرائع كاذبة عن امتلاك العراق لاسلحة الدمار الشامل تلك الاسلحة التي دمرتها لجان تفتيش الامم المتحدة بداية التسعينات ، الا انها كانت حربا من اجل الهيمنة على منابع النفط وتدمير اية قدرة قتالية للجيش العراقي خدمة لاسرائيل كما ان الحرب ارتبطت بتدمير العراق كدولة وتحطيم مؤسساته ليصبح لقمة سائغة للصوص ومرتعا خصبا للنهب والسلب من قبل الجماعات التي دخلت مع الغزاة من الاسلاموين وغيرهم مدعين وواعدين يشتى الوعود الوهمية الكاذبة حول عهد "ديمقراطي جديد"

لقد تدهور حال العراق طيلة هذه السنوات من سيء الى اسوأ وبالرغم من تدخل دول الجوار ومرتزقتها والحكومات المتعاقبة وهم جميعا يقدمون مصلحة تلك الدول على مصلحة العراق الا ان المسئولية الاساساسية هي مسئولية الغزو الامريكي وها نحن نتابع الجولة الثالثة مما يسمى "الحوارالستراتجي الامريكي العراقي" والتصريحات الاعلامية الفارغة بشانها والتي لا تتضمن اي تعهد ملموس من الجانب الامريكي بالقيام باية مشاريع في اي قطاع من الصناعة او التعليم او الصحة او البنى التحتية لان الجانب العراقي الحكومي المفاوض عاجز وخنوع وبعيد عن تمثيل مصلحة العراق والعراقيين .

كان العام الماضي عاما صعبا ليس فقط بسبب جائحة الكورونا بل ايضا لتدهور الوضع الاقتصادي للبد بسبب انخفاض اسعار النفط والنهب والرواتب الخيالية التي تمنحها الطغمة الحاكمة لنفسها اضافة الى تخفيض سعرالدينار مقابل الدولار مما ادى الى غلاء فاحش خاضة بغياب اية رقابة على الاسعار مما اثقل كاهل الطبقات الفيرة واصبح عاجزة عن توفير قوت عوائلها اليومي اضافة لعجزهم عن توفير تكاليف العلاج الباهضة بغياب الخدمات الصحية الحكومية او ردائتها اضافة الى العجز عن توفير تكاليف تعليم اولادهم .

ان الحكومة الحالية هي وليد نفس نظام المحاصصة والطائفية البغيض مهما جرت من محاولات تسويقها كحكومة مختلفة اذ بعد المعاناة المريرة من الحكومات الاسلاموية الفاشلة السابقة وبسيب انتفاضة شباب اكتوبر 2019 الباسلة لجأت عصابات المافيا الحاكمة الى المجيء بشخص مختلف ظاهريا ويحاول خداع الناس بالاكاذيب والوعود دون ان يحيد عن نهج تنفيذ اوامر نفس الزمر المتنفذة التي تسيطر على البرلمان المزيف البعيد عن تمثيل ارادة الشعب العراقي وهناك عشرات الامثلة على الوعود الكاذبة    المعسولة للحكومة الحالية حيث لم تقدم مجرما واحدا من القتلة المسئولين عن اغتيال اكثر من سبعمائة شهيد في الانتفاضة وجرح وتعويق اكثر من ثلاثين الف من الشباب اضافة الى العشرات من المختطفين المغيبين بدأ من جلال الشحماني قبل سنين ومازن عبد اللطيف وتوفيق التميمي وسجاد العراقي الذي اغيل والده مؤخرا كما انها حومة ضعيفة وهزيلة وفشلت على كافة الاصعدة وزادت من خيبة واحباط العراقيين ، ويبدو ان من اولويات الكاظمي تسويق نفسه للمشاركة في الانتخابات القادمة عبر حزب شكله عكس الوعود التي اطلقها عند تكليفه بتشكيل الحكومة الموقتة كونه ليس لديه طموح سياسي ؟!

تحاول الحكومة الحالية بشتى الوسائل اضعاف زخم الانتفاضة والتي تتصاعد في فترات متفاوتة وخاضة علي ايدي شباب البنصرية البواسل وكذلك فب العديد من المحافظات الاخرى كالبصرة وبابل والديوانية والنجف ، ومن اساليب السلطة شراء بعض العناصر النشيطة بالامتيازات والمناصب ولكن هذه العناصر انكشفت وانعدم تاثيرها ، الا أن المهمة الانية لشباب الانتفاضة الذين قدموا التضحيات ان تقوم بتنظيم صفوفها في حركة او جبهة او تيار سياسيي بعبر عن مطالبهم التي هي مطالب الشعب العراقي وصياغتها ببرنامج واضح سواء قرروا المشاركة بالانتخابات او مقاطعتها خاصة لاتبدو لحد اية بوادر حقيقية لحصر السلاح بيد الدولولة او الحد من نفوذ المليشيات المنفلتة او توفير شروط ومستلزمات انتخابات حرة نزيهة ،  كما لا ينبغي تصديق الوعود الكاذبة للاحزاب المتنفذة الحاكمة التي تمتلك المال والسلطة والسلاح .

نشرت الصحف الفرنسية مؤخرا خبر تقّديم عائلات خمسة عراقيين بشكوى قضائية في باريس ضد رئيس الوزراء العراقي السابق عادل عبد المهدي تتّهمه فيها بـ"جرائم ضد الإنسانية وتعذيب وإخفاء قسري" خلال قمع تظاهرات "ثورة أكتوبر"، وفق ما أعلنته محامية تمثلهم أن عائلات هؤلاء العراقيين الخمسة (أحدهم تعرّض لإصابة حرجة والثاني مخفي قسرا والثلاثة الباقون قضوا) "تعوّل على المحاكم الفرنسية، بدءا بالاعتراف بصفتهم ضحايا.

وأوضحت المحامية أنه "على الرغم من أن الدستور العراقي يكفل حرية التعبير والتجمّع، قمعت هذه التظاهرات منذ البداية بوحشية هائلة، ثم أصبح الأمر مكررا وممنهجا: إطلاق الرصاص الحي، انتشار القناصة، استخدام قنابل الغاز المسيل للدموع و+تحطيم الجماجم+ من مسافة قريبة كما ان لائحة الاتهام المقدمة بلغت ثمانين صفحة توثق وتكشف تورط رئيس الوزراء السابق واجهزته الامنية ومسئوليتهم عن تلك الجرائم .

ان من المؤمل ان تبدأ المحاكمة في شهر سبتمبر القادم كما يحتمل ان يتم منع عادل عبد المهدي من مغادرة فرنسا ان كان يتواجد حاليا فيها ومن المؤمل ان تكون المحاكمة مناسبة لفضح جرائم النظام وانتهاكاته لحقوق الانسان ولغرض استفادة اوسع من هذه المحاكمة فان نقابة المحامين العراقيين ومنظمات المجتمع المدني المخلصة للعراق مطالبة بتبني قضايا المئات من عوائل الشهداء وتقديمها للقضاء الفرنسي .

يمر العراق بمرحلة عصيبة حيث تعاني الاصوات الحرة داخل الوطن من الاغتيال والاختطاف والتهديد والملاحقة لاسكاتها عن قول كلمة الحق مما يضع مسئولية كبيرة على الاصوات الحرة العراقية الوطنية خارج العراق في ان توحد صفوفها وتيذل جهودا اضافية في شرح معاناة ابناء الوطن للرأي العام العالمي والمطالبة بتحقيق ضمانات حقيقية لاجراء انتخابات نزيهة شفافة باشراف دولي من قبل المنظمات العالمية المستقلة. 

 

د. محمد الموسوي

8-4-2021

 

عدنان حسين أحمد: باقة من الأفلام القصيرة المؤثرة في مهرجان مالمو

التفاصيل
كتب بواسطة: عدنان حسين احمد

عدنان حسين احمدخاص بالمثقف: حَفَلَ اليوم الثاني من الدورة الحادية عشرة لمهرجان مالمو للسينما العربية بعرض فيلمين طويلين وهما "نحن من هناك" للمخرج اللبناني وسام طانيوس، وفيلم "قِلتلّك خَلَص" للمخرج اللبناني إيلي خليفة، كما عُرضت خمسة أفلام قصيرة سنتوقف عندها جميعًا وهي  "حاجز" للمخرجة اللبنانية داليا نمليش، و"الحمّام" للمخرجة التونسية أنيسة داود، و"الحجاب الأسود" للمخرجة القطرية الجوهرة آل ثاني، و"توك توك" للمخرج المصري  محمد خضر، و"الهديّة" للمخرجة الفلسطينية فرح النابلسي.

2367 مالمو 1

تعود بنا داليا نمليش إلى انتفاضة 17 أكتوبر 2019 التي راج فيها شعار "كِلّن يعني كِلّن" الذي يعرّي الفساد، وهيمنة الأحزاب المليشياوية التي اختطفت البلاد، وهيمنت على ثرواته ووظائفه وتركت شرائح واسعة من المجتمع اللبناني تزداد فقرًا ومشقةً وعناءً. المتظاهرون يردِّدون بصوتٍ عالٍ "الشعب يريد إسقاط النظام" ويهتفون بالأغاني الوطنية لكن ثيمة الفيلم الرئيسة تتضح حينما نعرف أنّ المتظاهرَين فرح "باسكال سينيوري"، وأنتوني "أحمد حمادي شاسين متحابان وتربطهما علاقة عاطفية دفعت بالحبيب أنتوني للقدوم من باريس لزيارة جدته المريضة والمشاركة في الانتفاضة التي صادف انطلاقتها في ذلك اليوم.

2367 مالمو 2

ما يميز هذا الفيلم هو سلاسته العاطفية حيث تتيح لنا المخرجة بضعة مشاهد من القُبل والاحتضان بين العاشقَين. وما إن تنتهي أمور التظاهرة على خير ويغادران المكان حتى يفاجئهما "حاجز" على الطريق ليعقّد الأمور التي كانت منسابة قبل قليل. فثمة شخصان من أحد المليشيات اللبنانية المتنفِّذة يُصادران حق الناس في التنقّل والعبور في شوارع بيروت وهما رياض "جوليان فرحات" وسامر "محمد ياسين"، إضافة إلى كلب ضخم يُدعى "جوكر". تنخفض النبرة المرتفعة لفرح أمام انفعالات رياض وسامر وأسئلتهما المتلاحقة عن هوية الضحيتين وعملهما، ففرح معروفة على اليوتيوب، أمّا صديقها ذو اللكنة الأجنبية فهو يقيم في فرنسا لكنه يحمل جوازًا لبنانيا الأمر الذي يثير شكوك سامر ويجعله يعتقد بأنه عميل لإسرائيل، فيتضاعف التدقيق حيث يفتش سامر في هاتفه النقال، كما يفتش السيارة وما فيها من حقائب بطريقة مُذلة فيها الكثير من التشفي والاستصغار وحينما يصل العنصران إلى قناعة ما يتصل سامر لاسلكيًا بجهته المليشياوية ويخبرها بجملة مفهومة في فضائنا العربي:"باعثيلكم ضيفين؛ بنت وشاب، اهتموا فيهم"، وقد يأخذ الاهتمام أشكالاً متعددة للتعذيب، والإهانة المتعمدة لكرامة الإنسان العربي في ظل الأنظمة المليشياوية الخارجة عن القانون.

2367 مالمو 3

تحرّش جنسي بدون مشاهد خادشة للحياء

يُعد فيلم "بانو" أو "الحمّام" للمخرجة التونسية أنيسة داود من أكثر أفلام المسابقة رهافة، فالثيمة التي تعالجها في الفيلم هي التحرش الجنسي بالأطفال لكن رهانها الفني الصعب كان قائمًا على عدم تقديم مَشاهد جارحة للحياء، وقد نجحت في هذا الرهان حقًا عندما لامست الموضوع بشكل مجازي، وبجمل لمّاحة قصيرة كانت تفي بالغرض المطلوب. فلقد تعرّض الأب عماد "محمد داهش" في طفولته للاعتداء الجنسي على يد عمّه، وظلّت هذه التجربة القاسية تعيش معه طوال السنوات المنصرمة، وبات يخاف على ابنه من أقرب الناس إليه لئلا يمر هو الآخر بنفس التجربة، ويُصبح ضحية لها. قال عماد بأنه لا يحب هذه الصور الموجودة في منزل شقيقته ولكنه كان يعني صورة عمه التي يكرهها، وحينما ذهب مع ابنه إلى السوق بغية شراء السمك أراد البائع أن يلمس ابنه كنوع من الترحاب برؤية الطفل لكن الأب سحبه بسرعة وكأنه يخشى عليه حتى من مجرد المداعبة العادية التي يقوم يها أي شخص من العائلة أو من حلقة الأصدقاء المقرّبين. أما قصة الفيلم التي كتبتها أنيسة فهي تروي قصة زوج غادرت زوجته في بضعة أيام عمل وتركت له فرصة الاعتناء بولده الصغير هادي فكان يأخذه إلى المقهى تارة، وإلى البحر تارة أخرى، وبين هذه وتلك يذهب إلى بيت شقيقته ويمضي عندها بعض الوقت لكن هاجس الخوف ظل يلازمه ولن يفارقه أبدًا.

2367 مالمو 4

يتمحور فيلم "الحجاب الأسود" للمخرجة القطرية الجوهرة آل ثاني على شخصية ريم، وهي شابة عراقية من الموصل تهرب من منزلها في منتصف الليل بعد إجبارها على الزواج من أحد عناصر داعش الإجرامية. ويساعدها في عملية الهروب سائق تاكسي يُدعى أحمد لكنّ شخصًا داعشيًا يلاحقه ويسأله عن ريم التي تجلس في المقعد الخلفي فيدّعي أنها زوجته وقد جلبها توًا من بيت والدها ولكنه نسي الأوراق الرسمية التي تثبت أنها زوجته. وعلى الرغم من أن التدخين محرّم في العقيدة الداعشية إلاّ أنّ أحمدًا يقدّم له سيجارة فيشكره الداعشي ويتركه يمضي لحال سبيله ويحذّره من أن يراه مرة ثانية وإلاّ سوف تكون العواقب وخيمة. يأخذها أحمد إلى بيت أهلها القديم فتجده مدمرًا ومهجورًا، وهذا يعني أنّ العائلة قد هربت إلى صحراء الموصل ويقرر إيصالها إلى هناك وحينما يتعب من قيادة السيارة يأخذ غفوة فتخبره ريم بأنها تستطيع أن تقود السيارة لكن اثنين من الدواعش يلحقان بهما في قلب الصحراء وتراودهما الشكوك بأنه يخبئ شيئًا ما عنهما فيطلق أحدهما النار عليه ويرديه قتيلاً، ثم يسكب البنزين على السيارة ويوقد فيها النار لكن ريم كانت قد تسللت من جوف السيارة واختبئت خلف إطار ضخم جوار بيت طيني. يغادر الداعشيان المكان فتتجه ريم إلى حافلة لاحت في الطريق تضم مجموعة من النساء الملفعات بالسواد لكنّ وجوههن المكشوفة شجّعها على إزالة النقاب عن وجهها الذي ارتسمت على معالمه إشراقة ابتسامة توحي بالخلاص من المناخ الداعشي الذي جثم على صدرها وقتًا ليس بالقصير.

2367 مالمو 5

سائقة توك توك تعمل في بيئة رجالية

يرصد المخرج المصري محمد خضر في فيلمه "توك توك" حياة عائلة مصرية متواضعة تتألف من الأب محروس "أشرف مهدي" الذي لم يكمل تعليمه الدراسي، ويرتزق من أي عمل يُكلّف به وهو جالس في المقهى الشعبي في الحيّ، فمن الممكن أن يكون حمّالاً أو نقاشًا أو مساعدًا لعصابات تهريب البشر. أما زوجته ولاء "إلهام وجدي" التي ستتمحور حولها القصة فهي ربة بيت تدرّس طفليها كلما وجدت متسعًا من الوقت، كما تستقبل والدتها المريضة، وتساعد شقيقها الأكبر عمر الذي يعاني من الشلل بعد إصابته في حادث التوك توك الذي أوشك أن يودي بحياته. يغادر  محروس البلاد بطريقة غير قانونية ويحلم بالوصول إلى إيطاليا لأنه تعرّف على فتاة إيطالية تعهدت باستقباله، وتأمين مستقبل أفضل له بعد أن يصل إلى جزيرة كريت في اليونان، ثم يتجه بعدها إلى إيطاليا. غير أن الرياح قد تجري بما لا تشتهي السفن حيث يغرق الزروق المطاطي في جزيرة كريت ويموت كل من عليه. تفرح ولاء بهذا الخبر لأنّ محروسًا طلّقها، وتتشفى بموته، وتقرر أن تعمل سائقة للتوك توك رغم كل المصاعب الجمّة التي يمكن أن تواجهها امرأة تعمل في بيئة رجالية حيث تتعرض للانتقاد، والسخرية، والتجريح لكنها تشق طريق حياتها بنجاح وأخذت تسدد الكمبيالات التي فرضها الحاج فتحي شهريًا لكن شخصًا دنيئًا اسمه السيد كان يقف لها بالمرصاد، إذ حاول أن يستميلها لكنها كانت تشعر بطمعه في عربة التوك توك وحينما تزجره غير مرة يقرر الانتقام منها وهي لا تملك شيئًا أثمن من هذا التوك توك الذي بدأ يدّر عليها دخلاً شهريًا جيدًا. وذات ليلة يوقد "السيد" النار في عربتها الصغيرة ورغم الجهود الكبيرة التي بذلها أهالي الحي إلاّ أن التوك توك قد خرج من الخدمة وصار لزامًا على ولاء أن تسدد بقية الكمبيالات المترتبة عليها وهي لا تمتلك مصاغًا ذهبيًا مُدخرًا أو أي مصدر للدخل. نقرأ على الشاشة بعد انتهاء الفيلم "بأن عدد الغارمات في سجون مصر قد بلغ أكثر من 30.000 غارمة، وأن بعض الجمعيات الخيرية تعمل على جمع التبرعات لسداد غراماتهنّ ولكن للأسف فإن عدد الغارمات هو أكبر بكثير من حجم التبرعات".

2367 مالمو 6

لا يستطيع المُشاهد إلاّ أن يشعر باللوعة والأسى المصحوب بالقرف من الإجراءات الأمنية المشدّدة، والإهانات المتعمدة للمواطنين الفلسطينيين وهم يجتازون المعابر الحدودية التي تفصل بين الإسرائيليين والفلسطينيين يوميًا. وقصة فيلم "الهديّة" للمخرجة الفلسطينية فرح النابلسي تتمحور على رغبة الزوج يوسف "صالح بكري" في شراء ثلاجة جديدة لزوجته لمناسبة عيد زواجهما، فثلاجتها القديمة معطوبة وينفتح بابها من تلقاء نفسه. كما ترافقه ابنته الصغيرة ياسمين في تلك الرحلة إلى أحد مدن الضفة الغربية. عند المعبر ترى المئات من الفلسطينيين وهم يمرون في مسارات مؤطرة بالحديد والأسلاك الشائكة، ويتعرضون إلى اسئلة غريبة، وإهانات مقصودة، بينما يمرّ الإسرائيليون بسلاسة واسترخاء، وبعد التفتيش المُذل يسمح ليوسف وابنته بالعبور لكن ياسمين ستبلل نفسها من الذعر الذي أصابها وهي ترى بأم عينيها الطريقة المهينة التي يتعاملون فيها مع أبيها. وحينما يصلان إلى أحد المولات يقتنيان كل ما يلزم للمناسبة، ويجلبان الهدية معهم بسيارة المحل لكن السلطات الأمنية تمنعهم من الدخول فيضطر الأب لدفع الثلاجة بعربة ترولي وحينما يصل إلى المعبر تبدأ الأسئلة التافهة والمستفزة التي أفقدت يوسف أعصابه وأوشكوا أن يطلقوا عليه النار. وفي سورة غضب الوالد كانت البنت ياسمين قد دفعت العربة بهدوء من بوابة المعبر الرسمية فتبعها الوالد باسترخاء وهو يمشي خلف هذه الهدية التي سحقت أعصابه لكنها سوف تزرع الفرحة في نفس زوجته التي أحبها من الأعماق، وكرّس حياته لها ولابنتهما ياسمين أو الأميرة الصغيرة التي يعتبرها أحلى طفلة في فلسطين.

2367 مالمو 7

خاص بالمثقف

عدنان حسين أحمد

 

 

عصمت نصَّار: محمد عابد الجابري بين حداثة المشروع وتجديد الخطاب (2)

التفاصيل
كتب بواسطة: د.عصمت نصار

عصمت نصارلم يأت الجابري بالأمر الغريب أو بالمنحى الجديد عندما زعم أن هدفه من إعادة قراءة التراث هو إعادة تشكيل العقل العربي وتخليصه من أوهام القداسة التي سق بها آليات المعرفة في الثقافة العربية الإسلامية، وكذا النظرة إلى الغرب المجافية للواقع. فقد رغب عن الكتابات التي تمجد التراث العربي، وتؤكد أن عقلية السلف قد اهتدت إلى فصل الخطاب في القضايا التي تناولتها، وأن نهجها البرهاني قد أجهز على كل مواطن الشك والارتياب في أمور الدين والدنيا، أما الوهن والضعف والتخلف فلم يصب عقل وقلب الحضارة الإسلامية إلا عقب تخليهما عن القيم والمبادئ التليدة التي كانت تقودهما صوب العلم والإيمان معاً، وتحميهما في الوقت نفسه من محاكات الأغيار والأقدام على النِحل الوافدة من الأمم التي كان يسودها ذلك الصرح الموروث الأعظم بقوته وعلمه وقيمه الروحية.

وقد أوضح الجابري مراراً وتكراراً أن الدواء الشافي من هذا الوهم هو شراب الوعي وحبوب النقد، ومن ثم ينبغي على من يرجو تقدم هذه الأمة الحرص على تعاطي هذا الدواء عوضاً عن مغيبات العقل التي لن تقوده إلا إلى المجهول وظلمة التخلف الذي آلت إليه الأمم الغابرة. أجل! إن هذه التوطئة أو ذلك المدخل الذي استهل الجابري به حديثه عن مشروعه المزعوم نجده عند قادة الاتجاه التغريبي -في الربع الأخير من القرن التاسع عشر- الذين اعتقدوا أن قراءتهم المتعجلة للكتب الصفراء قد مكنتهم من الإحاطة الكاملة بالتراث العربي وغفلوا أو تغافلوا عن أمور عدة منها أن أعينهم قد قرأت الفكر العربي الموروث من وراء نظارات غربية مضللة وأن أحكامهم جاءت وليدة مشارب ومطاعم - أعدها غلاة المستشرقين - مزورة طامسة للحقائق ومهوّنة من قيمة النفيس من التراث ومهولة من مواضع الإخفاقات والمخاذي والأخطاء التي لحقت بكراسي الحكم وحاقت بساسة المجتمعات الإسلامية في عهد أفولها وانكساره.

فصرح الجابري بأن مشروعه عقلاني برهاني قد اتخذ من النقد آلية حداثية لتنقية الركام الثقافي واستبعاد كل ما لا يصلح لإدخاله بين تروس ألته النقدية العملاقة التي صممها بنفسه وهي بطبيعة الحال محاكيه لمثيلتها من أليات النقد (الما بعد حداثية) التفكيكية المعاصرة.

وقد عاب على السابقين من المفكرين العلمانيين العرب نظرتهم للتراث على اعتباره مخلفات حضارية لثقافات غابرة وجيف وعظام لأقوام بائدة، ومن ثم يجب مقاطعته، وبيّن أن قطيعتهم المعرفية للفكر الموروث لن تحول بينه وبين التدخل في البنية الثقافة المعاصرة والأجدى من ذلك تهيئة الدين واللغة العربية لإخضاعهما لتروس تلك الألة النقدية. وذلك في كتابه "تكوين العقل العربي".

فذهب إلى أن المنتج الجديد - في مشروعه - يقضي بأن يستبعد الدين بصورته الموروثة ويستخلص منه قيم روحية فردية خاصة لا يحكمها سوى القناعات الذاتية. أمّا دون ذلك من أمور المجتمع والعلم والأخلاق والتربية والسياسة وغير ذلك من الأمور التي كان يحملها الدين التقليدي على كتفيه فقد حملها عنه العلم والتجربة الواقعية (دين علماني عقلاني عدو للشيفونية والعنف والعصبية والتعصب والراديكالية والأيديولوجية ومؤمن بالديمقراطية والعولمة والمصالح الواقعية) ويحمل على ذلك كل المعارف المتعلقة بصورة الدين التقليدي بدايةً من كتب العقيدة والفقه والتفسير، ومروراً بكتب الحديث، والسيرة وأخبار الأولياء ونهاية بكتب الشرعية وفقه الحدود والمآلات والمقاصد.

ومن أقواله في ذلك: (من مهام الفكر العربي اليوم العمل على تحويل العقيدة إلى مجرد رأي) غير أنه في مواضع أخرى من كتاباته المتأخرة (التراث والحداثة العقل السياسي العربي) نجده يعترف على استحياء أن القيم والمبادئ الإسلامية دون غيرها من التعاليم الدينية تصلح للتواجد في بنية العقل المعاصر لتكون أطاراً يحتكم إليه في أمور الحياة الدنيا بما في ذلك قضايا السياسة وذلك لأنها لا تعارض العلم ولا تحجر على حرية العقل ولا تتحكم في الإرادة الإنسانية مع التأكيد على أن جوهر العقيدة الإسلامية غنياً بذاته عن الشيوخ والمفسرين والكهنة والرقباء.

وأعتقد أن علة هذا الاضطراب أو التراجع يرجع إلى أكثر من سبب أولها: عدم تمكنه من الإحاطة بالعلوم الشرعية الشاغرة من دس وأهواء المؤرخين من جهة وأحكام المتعصبين من المستشرقين من جهة أخرى. وذلك أثناء كتابته مقدمات مشروعه.  وثانيها: تأثره بكتابات ابن خلدون التي أشارت إلى أن صحيح الدين الذي يمثله القرآن وصحيح السنة قد حاق به الكثير من الأهواء والتحقت به الكثير من المتغيرات الاجتماعية والسياسية واختلطت بمعارفه مئات العوائد والمعتقدات الفاسدة وبمرور الزمن وتقلبات الدهور ظنها الناس بأنها من صلب الدين ومن صورة الإسلام وشريعته التي أخبر عنها الرسول ونطق بها الوحي.

وثالثها: كثرة الطعون والنقود التي وجهت لمشروعه الأمر الذي دفعه إلى مراجعة بعض آرائه ونقداته تجاه التراث ولا سيما الآراء ذات الصلة منها بالدين، وهو ليس بالأمر الغريب ولا هو بالجديد - كما قلنا - فقد انتهى إليه إسماعيل مظهر (1891م -1962م) وذكي نجيب محمود (1905م-1993م) وعبدالرحمن بدوي (1917م-2002م) ومن قبلهم جميعاً شبلي شميل (1850م-1917م) وسلامة موسى (1887م-1958م) فقد استثنى كلاهما الدين الإسلامي من معوقات المدنية وأسباب تخلف الأمة العربية، وبينا أن المبادئ والقيم الإسلامية صالحة للإدراج في المشروع العلماني المعاصر وذلك لعدم التعارض بين مقاصد الإسلام وغاية العلمانية. 

واذا ما انتقلنا من الأسباب المحتملة الظاهرة إلى العلل المتوقعة الباطنة؛ فإنني أظن أنها كامنه في صرير قلمه الذي باح بالشكوك التي كان يعانيها مفكرنا المتفلسف..! فمنذ عام 1976م إلى منتصف الثمانينات قد ادرك "الجابري" أن فصل الخطاب والحقيقة البرهانية والنظريات العلمية والقواعد المنطقية وكتابات أكابر المستشرقين ومعلوماته عن التراث العربي وتصوره المثالي للكوكبة أو العولمة والديمقراطية الغربية وغير ذلك من المعارف والأفكار تحتاج هي الأخرى إلى الإدخال في ماكينة النقد والعرض على مرأة العقل.

ويعني ذلك أن مفكرنا كان يعيش في هذه الحقبة (قلق التجربة الغزالية) أو (عذابات الشك الديكارتي)، فراح يراجع كتب تاريخ العلم وفلسفة الحضارة والموسوعات التاريخية - التي تتسم بالحيادية وتنتهج المنهج الوصفي المقارن في التحرير- ثم استهوته كتابات جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وأحمد أمين وعثمان أمين والشيخ حسن الباقوري وغير ذلك من المؤلفات التي جعلته يدرك أن الفلسفات الوضعية والنظريات الدوجماطيقية وأكاذيب المؤرخين لا ينبغي الاعتماد عليها في طريق البحث عن الموضوعية العقلية والتجارب الحضارية والحكم على الثقافات التليدة والتعرف على مشخصات الهوية والمقومات التي يجب تدعيمها لبعث القومية العربية والدفاع عن وجودها وذلك لأن العالم المعاصر والعولمة الغربية لا تعترف إلا بالإحياء الإيقاظ الذين لا يقلعون بفتات موائد السادة بل يجتهدون في تعلم كيفية صناعة الخبز. 

كما أن الراجل الذي ينشر التقدم إلى الأمام لن يستطيع اللحاق بأقوام يركبون سفن الفضاء. كما أن الشاغل بتأمل الماضي للتعرف على الوافد من الخلف كالأعمى الذي أنكر وجود كل ما لا يراه ولم تلمسه يداه ولم تسمعه أذناه. ولعلّ ثمرة هذه التحول أو إن شئت قلت التطور يبدو بوضوح في كتابه (نقد العقل العربي) الذي صدر بأجزائه الأربعة بداية من1982م إلى 2001م.

(وللحديث بقية)

 

بقلم: د. عصمت نصار

 

ميثم الجنابي: انطون سعادة وأيديولوجية الفكرة القومية الاجتماعية (4)

التفاصيل
كتب بواسطة: ا. د. ميثم الجنابي

ميثم الجنابيخصوصية الفكرة القومية السورية

لقد توصلت في المقال السابق، إلى أنَّ انطون سعادة أراد القول، بأنَّ الفكرة الاجتماعية المرتبطة بفكرة الدولة القومية ونظامها السياسي المناسب، والارتباط الجوهري بالأرض (الوطن الأصلي)، والاحتفاظ بالكيان الذاتي الخالص هي الأسس التي شكلت مضمون "الدين الجديد" بوصفه "ديناً اجتماعياً"، والذي تكوّن الفكرة القومية لاهوته وناسوته.

وحدد هذا بدوره مقومات الوجود الثقافي الخاص للفكرة القومية السورية. فقد اتجه الكنعانيون اتجاهاً جديداً في الرقي الثقافي عما كان سابقا، كما يقول انطون سعادة. فعلى خلاف غيرهم اهتموا "بالتغلّب على صعوبات الحياة العمرانية بترتيب ثقافتهم الاقتصادية على أساس زراعة راقية غنية جداً حتى سمي وطنهم الأرض التي تفيض لبناً وعسلاً"[1]. واستكملوا ذلك بفكرة وأسلوب التجارة، بوصفها احد العوامل العظمى في تفاعل الثقافات. إذ مّكنت التجارة السوريين من التعويض عن فقر أراضيهم من المعادن ونقص المواد الخام. وبهذا يكون السوريون الكنعانيون والآراميون قد خطوا إلى التجارة وثقافة الإنتاج التجاري[2]. ولازم ذلك تشكل مؤسسة ما أطلق عليه انطون سعادة عبارة "الاستعمار السوري". وكتب بهذا الصدد يقول، بأنًّ الثقافة السورية كانت الأصل في وضع "طور الاستعمار" الذي ادخل البحر المتوسط كله في "نطاق الثقافة السورية الجديدة التي هي بدء التمدن الحديث"[3]. وقد يكون صنع الإمبراطورية من بين أكثرها جلاء، بمعنى كيفية بلورتها للنموذج السوري الخاص القائم في توحيده النموذجي بين النزعة القومية والكونية. فقد ساهمت سورية أيضاً في إرساء أسس الدولة البرية. ففي مشرقها نشأت الإمبراطورية الأكادية والإمبراطورية الكلدانية، وفي شمالها الإمبراطورية الآشورية والحثية[4]. تماما كما أدى إدراك الفينيقيون ممكنات البحر الى إنشاء الإمبراطورية البحرية. فالإمبراطورية البحرية السورية كانت أول إمبراطورية بحرية في العالم، والتي بلغت أوجها في صُور وقرطاجة[5]. ذلك يعني، إنهم جمعوا بين قوى عديدة جرى توليفها في قوة كبرى أصيلة ألا وهي الدولة البرية والبحرية، والسياسة والاقتصاد، والإنتاج والتجارة. أما ذروة كل هذا الإبداع التاريخي الهائل فقد وجد انعكاسه في ما أطلق عليه انطون سادة عبارة "الثورة الثقافية" التي استكملها الكنعانيون (الفينيقيون) عبر "استنباط الأحرف الهجائية". وبهذا تكون "ثورتهم الثقافية التي فتحت طريقاً جديداً للارتقاء الثقافي" أنْ ترسي قواعد "التمدن الحديث"[6]. الأمر الذي يجعل من الممكن القول بالقيمة الجوهرية والتأسيسية للسوريين في وضع أسس الحضارة العالمية. ووضع انطون سعادة هذا الاستنتاج في عبارة تقول:"متى ألقينا نظرة على هذا الصرح الضخم من الحياة المدنية التي تحرز بعد كل فترة نصراً جديداً للإنسان على أسرار الطبيعة، أدركنا قيمة الثورة السورية ومعناها الكبير"[7].

ووضع انطون سعادة هذه الأفكار في أساس استنتاجه النظري العام القائل بإبداع العقل السوري نماذجه الخاصة في كل شيء. وقد يكون موقفه من نموذج النظام السياسي والدولة الصيغة الأكثر جوهرية. فالعقل السوري العملي لم يكن يميل إلى تخيلات فاسدة من الوجهة العملية وخيال سخيف يقول بأنْ يكون كل فرد من أفراد المدينة المعترف بهم "شريكاً" فعليا في إدارة الدولة. فالمدينة السورية ظلت محافظة على الفَرق بين السياسة والاجتماع. وهذا الفَرْق هو ما مّكن الدولة من إطرّاد تقدمها[8]. فإذا كانت التجربة الإغريقية قد ألغت الدولة، فإنَّ التجربة السورية على العكس من ذلك كانت على الدوام الممثل النموذجي للدولة. وبهذا يكون النموذج السوري الأكثر تماماً وديمومة وتأثيراً بما في ذلك بالنسبة للدولة الحديثة. وذلك لأنَّ "الأسلوب الذي جرت عليه الدولة في تقدمها وارتقائها كان الأسلوب السوري الذي ارتقى في قرطاجة إلى الديمقراطية ووضوح الحقوق المدنية والحقوق الشخصية، مع بقاء الدولة شيئاً متميزاً عن الشعب"[9]. وينطبق على أيضا على مقارنة العقل السوري بالروماني في مجال الشرع. فإذا كان "تاريخ روما الثقافي هو تاريخ حقوقها"، وأنَّ "الشرع الروماني هو أتقن ما تركته روما للبشرية"، فلأن الشرع في روما ابتدأ "على مثال دولة المدينة السورية"[10].

ذلك يعني أن الفكرة القومية (السورية) الاجتماعية لها تاريخها وصيرورتها الثقافية، ومن ثم خصوصيتها السياسية. وبالتالي فإنَّ حصيلة تداخل أسسها ومصادرها التاريخية والثقافية والسياسية قد أدى إلى تفرّدها بسرّها الخاص، الذي أطلق عليه انطون سعادة عبارة "الإثم الكنعاني". وهذا بدوره ليس إلا السرّ الذي ألزم ويلزم الكينونة السورية بالرجوع إلى ذاتها بوصفها أسلوب ديمومتها الفاعلة. وقد يكون حلها لإشكالية المادي والروحي هو الأسلوب الأكثر تحقيقاً لها. فالحركة القومية الاجتماعية لم تأت سورية فقط بالمبادئ المحيية، بل أتت العالم بالقاعدة التي يمكن عليها استمرار العمران وإرتقاء الثقافة كما يكتب انطون سعادة. مع ما ترتب عليه من "رفض فكرة الصراع بين المادة والروح. وبالتالي الإقرار بمبدأ الأساس الروحي- المادي للحياة الإنسانية ووجوب تحويل الصراع المميت إلى تفاعل يحي ويعمر ويرفع الثقافة ويسير الحياة نحو ارفع مستوى"[11]. ووجد في هذا الأسلوب طريق إنهاض "الأمة السورية". بمعنى تحويل صراعاتها الداخلية إلى أسلوب رقيها الذاتي. وليس هناك من أسلوب ونموذج يمكنهما الارتقاء إلى هذا المستوى بوصفه رؤية وبديلاً وحل بالنسبة لسورية سوى الفكرة القومية الاجتماعية. من هنا استنتاج انطون سعادة عن أنه متى كان "الاتحاد القومي المسالم كل المسالمة في الداخل، أمكن حينئذ أنْ تنهض الأمة السورية كرجل واحد وتسير إلى خلاصها. فلا تكون وحدتها هذه محمدية ولا مسيحية، بل قومية اجتماعية ينظر أفرادها إلى الحياة نظرة واحدة، ويفهم كل منهم رسالة الدين بهذه النظرة"[12]. بعبارة أخرى، لقد أراد انطون سعادة القول، بأن الدين الجديد الذي ينبغي أنْ ينقذ سورية والعالم العربي ككل يكمن في اعتناق مبادئ وحقيقة الفكرة الاجتماعية القومية السورية. من هنا توكيده على انه "بهذا التعليم السوري القومي الاجتماعي تنهض الأمة السورية وكل أمة عربية تتخبط في محاولة عقيمة للتوفيق بين حزبية الدين والواقع الاجتماعي"[13].

احتوت الفكرة القومية السورية كما أسس لها انطون سعادة على البذرة العقلانية الكبرى القائلة، بأنَّ الأساس المتين للفكرة القومية يقوم في أبعادها الاجتماعية. وعليها بنى إمكانية نهوض سورية، بوصفها الأمة الوحيدة القادرة من بين "أمم العالم العربي" على بناء قوة اقتصادية اجتماعية. وذلك لأنها الوحيدة التي تمتلك النفط والأملاح الكيمياوية وبعض المعادن. كما أنها الوحيدة القادرة على بناء صناعة ثقيلة من بين الأقطار العربية. مما حدد بدوره فكرته القائلة، بأن استقلال سورية الموَّحدة في نهضة قومية أكثر إمكانية وأقرب منالاً من استقلال جميع الأقطار العربية دفعة واحدة بحركة واحدة. فسورية بوضعها الجغرافي ومقدرتها المادية والروحية أقوى سياسياً من جميع الأقطار العربية متحدة[14].

من هنا أصبح البعث القومي "للأمة السورية" مضمون الفلسفة العملية السياسية للحزب القومي السوري. وكثّف انطون سعادة مضمون هذه الفلسفة من خلال معادلة العقيدة والسياسة. فإذا كانت السياسة عند "رجال السياسة اللاقوميون" هي الغاية، والعقائد ليست لهم سوى وسائط، فإنَّ الأمر مغاير تماما بالنسبة لفلسفة الحزب السوري القومي. فالعقيدة هي الغاية والسياسة هي الواسطة. وذلك لأنَّ هذه الفلسفة ترمي أساساً إلى خدمة العقيدة القومية المشتملة على قضية واضحة معينة وليست لمجرد السياسة أو القضية الشخصية[15]. من هنا جوهرية وضرورة وعي الذات القومي. إذ لا يعني وعي الذات القومي عند انطون سعادة سوى بلوغ الجماعة مرتبة الوجدان القومي والشعور بشخصية الجماعة. وذلك لأن "كل جماعة ترتقي إلى مرتبة الوجدان القومي، والشعور بشخصية الجماعة لابد لأفرادها من فهم الواقع الاجتماعي وظروفه وطبيعة العلاقات الناتجة عنه. وهي هذه العلاقات التي تعيّن مقدار حيوية الجماعة ومؤهلاتها للبقاء والارتقاء"[16]. لاسيما وأنَّ هذا الفهم يتسم بضرورة قاهرة في مراحل الصعود (مرحلة الانتقال) التي عادة ما تتميز بالبلبلة الفكرية. فهو الأسلوب الذي يعيد لها توازنها الداخلي ورؤيتها الواقعية. وبانعدام ذلك فلإنها سوف تكون فريسة ما اسماه انطون سعادة "بفوضى العقائد وبلبلة الأفكار"[17].

وتراكمت فكرته بهذا الصدد بالهبوط من علياء الفكرة الشرقية العالمية إلى الفكرة القومية العامة ومنها إلى الفكرة القومية السورية. فقد كانت فكرة الشرق والشرقية في البداية الإطار العام لوعي الذات القومي. وفي مواجهتها للغرب والهيمنة الغربية (الأوربية) كانت جزءً من طبيعة ومستوى الصراع الدائر آنذاك. غير أنَّ فكر انطون سعادة بهذا الصدد لم يكن محكوماً بفكرة الاستفادة أو التأثر أو الإعلاء للشأن الأوربي (الثقافي). على العكس، انه واجه كل ذلك بفكرة وأسلوب النقد الذاتي وتجميع القوى في مواجهة الغرب الكولونيالي عبر صقل الفكرة القومية. من هنا اعتباره الصيغ النمطية للغرب الكولونيالي تجاه حركات النهضة الوطنية في الشرق الرامية إلى الحرية والاستقلال مثل اتهامها بالهمجية وتهديدها للمدنية الأوربية وما شابه ذلك، مجرد فلسفة عقيمة. وكتب بهذا الصدد يقول، بأنَّ هذه الاتهامات والمغالطات لا تتعدى كونها "فلسفة تاريخية عقيمة أنتجتها أدمغة المؤرخين الغربيين المتعصبين". وأغرب ما فيها هو اعتبارهم إياها "إحدى الحقائق التاريخية".[18] وبالضد من ذلك نراه يدعو الى شعار "الرجوع إلى الشرق". وانطلق في شعاره هذا من انه إذا كان التاريخ قد اثبت في الماضي أنَّ النهضات الوطنية في الشرق لا تهدد المدنية بل تهدد البربرية الغربية المندغمة في المدنية، فإنَّ ذلك يعني أيضا أنَّ الشر سيكون مهبط مدنية جديدة لا تقل شأناً عن المدنية التي أعطاها الشرق للغرب في الماضي[19]. بل ونرى عنده عدد من الصيغ الخطابية الجياشة لا تقلّ بهذا الصدد من خطباء المغامرات الحربية، كما في قوله، بأنَّ "الجيوش الجرارة" سوف تنطلق من الشرق لإرجاع الغرب إلى مكامنه الأولية. وإذا كانت بعض الألسنة الصغيرة من النار الشرقية لقد التهمت نصف أوربا في الماضي، فما بالك في حال اشتعال النار الشرقية.

غير أنَّ النزعة الخطابية المتأججة لم تكن في فلسفة الحزب القومي السوري سوى التعبير الوجداني العارم للانتقال إلى واقعية الرؤية التاريخية والسياسية المتفائلة بصدد المستقبل. من هنا دعوته للارتقاء الذاتي بمعزل عن التأثر السلبي بالغرب أياً كان شكله ومحتواه. بعبارة أخرى، إنَّ المهمة الجوهرية للصعود الشرقي تقوم في تنفيذ مهمة الخروج من أثر الحضارة الغربية، كما يقول انطون سعادة[20]. وشدد في احد مواقفه بهذا الصدد على أنَّ الشرق "لا يجب أنْ ينتظر إنصافاً من الغرب أو من التاريخ الغربي القائل، بأنَّ أوربا فوق الجميع". وبالتالي "لا سبيل إلى نيل الشرق حقوقه إلا بالاعتماد على ذلك السند الطبيعي الذي يلجأ إليه كل حي للدفاع عن نفسه وحقوقه، وهو القوة. فإنَّ شرائع البشر كلها كانت نتيجة استعمال القوة، ولم تتعدل إلا بالقوة. والثورات العظيمة في العالم تثبت هذه النظرية إثباتاً لا سبيل معه إلى الجدل"[21]. واختتم ذلك بشعار "وجوب إضرام الثورة العامة في الشرق"، بحيث يمكن معها القول:"اليوم لكم يا أهل أوربا، وأما الغد فهو لا شك لنا"[22].

لا تعني عبارة "الغد لنا" سوى الشعار الداعي لاستعادة ما مضى ولكن بمعايير الفكرة الجديدة. وهذا بدوره وثيق الارتباط ببعث الفكرة القومية بوصفها "رسالة"، والأمة بوصفها اتحاداً جديدً، والدولة بوصفها "متحداً" راقياً، والروح القومي بمختلف أشكاله ومستوياته بوصفه وعياً سورياً اجتماعياُ. (يتبع...).

 

ا. د. ميثم الجنابي

.....................

[1] انطون سعادة: نشوء الأمم، الآثار الكاملة، ج5، ص81.

[2] انطون سعادة: نشوء الأمم، الآثار الكاملة، ج5، ص82.

[3] انطون سعادة: نشوء الأمم، الآثار الكاملة، ج5، ص82 ومن اجل توضيح أبعاد هذه الفكرة نراه يشد على الدور التاريخي الثقافي للسوريين. وكتب بهذا الصدد يقول، بان الحالة الثقافية للإغريق كانت آنذاك مقارنة بالفينيقيين مثل حالة شعوب أفريقيا المتخلفة مع الدول الأوربية المتطورة حديثا.

[4] انطون سعادة: نشوء الأمم، الآثار الكاملة، ج5، ص110.

[5] انطون سعادة: نشوء الأمم، الآثار الكاملة، ج5، ص112.

[6] انطون سعادة: نشوء الأمم، الآثار الكاملة، ج5، ص83.

[7] انطون سعادة: نشوء الأمم، الآثار الكاملة، ج5، ص85.

[8] انطون سعادة: نشوء الأمم، الآثار الكاملة، ج5، ص114.

[9] انطون سعادة: نشوء الأمم، الآثار الكاملة، ج5، ص115.

[10] انطون سعادة: نشوء الأمم، الآثار الكاملة، ج5، ص119-121.

[11] انطون سعادة: الإسلام في رسالتيه، ص119.

[12] انطون سعادة: الإسلام في رسالتيه، ص109.

[13] انطون سعادة: الإسلام في رسالتيه، ص109.

[14] انطون سعادة: الإسلام في رسالتيه، ص255.

[15] انطون سعادة: الإسلام في رسالتيه، ص261.

[16] انطون سعادة: نشوء الأمم، الآثار الكاملة، ج5، ص14.

[17] انطون سعادة: نشوء الأمم، الآثار الكاملة، ج5، ص14.

[18] انطون سعادة:الآثار الكاملة، ج1، ص126.

[19] انطون سعادة:الآثار الكاملة، ج1، ص126.

[20] انطون سعادة:الآثار الكاملة، ج1، ص127.

[21] انطون سعادة:الآثار الكاملة، ج1، ص128-129.

[22] انطون سعادة:الآثار الكاملة، ج1، ص129.

 

 

مجدي إبراهيم: الإمام الجُنيد.. سيد أولياء الإسلام (3)

التفاصيل
كتب بواسطة: د. مجدي ابراهيم

مجدي ابراهيمنأتي إلى مذهبه الصوفي لنقول في عجالة: إن مذهب الجنيد في التصوف يتلخص في كلمتين أساسيتين: الكلمة الأولى هى "التوحيد". والثانية هى: "الفناء في التوحيد". ولكن هاتين الكلمتين ليستا من البساطة بحيث يمكن أخْذُهُما على عُلَّاتهما هكذا بغير بحث عميق؛ بل هما جوهر التصوف الإسلامي على الإطلاق. طَرَقَ الجنيد لأول مرة مسائل التوحيد كعلم له أسسه الذوقية حين نقله مع أستاذه الحارث بن أسد المحاسبي من ميدان الكلام والعقائد الموروثة إلى ميدان التجربة الروحية والتذوق الحيوي، وهنالك صارت النظرة للتوحيد على يديه بصفة خاصة نظرة مختلفة، جديدة، وغير مسبوقة، لم يكن يعرفها المسلمون من قبل: أن يصبح التوحيد شعوراً يُحَس ويُذَاق، شعوراً خاضعاً لتجربة الفعل والممارسة، عن طريقه يكتشف الإنسان حقيقة ذاته بمقدار ما تتكشف لديه حقيقته الأصلية التي هى واحدة الذات؛ فكما أن التوحيد هو للذات الإلهية فهو كذلك توحيد للذات الإنسانية؛ وكما أن الوحدة لله تعالى فكذلك الإنسان المؤمن ينبغي أن تكون ذاته واحدة لا يشعر فيها بالانقسام والتمزق ثم التلاشي والانقراض ولا يحس معها بشيء من الفرقة؛ لأنها ذات واحدة من واحد، ولواحد، والإنسان مخلوق على صورة الله؛ فكما أن الله سبحانه واحد؛ فكذلك هذه الوحدة تسري أول ما تسري على الصورة.

إنها بالفعل لنظرة جديدة للتوحيد غير مسبوقة بمقدار ما هو فهم عميق للدين جديد أيضاً لم يكن يُعْرَف من قبل: أن يكون الدين على يد هذا الإمام شيء من أهم مكونات الإنسان مَسَّاً بحقيقته الأصلية وبحثاً عن تطوره في قلوب معتنقيه؛ فهم الجنيد التوحيد فهم عارف، وفهم عامل ذواق بصير، ولم يفهمه فهم متكلم يؤمن باللسان دون القلب أو يؤمن بالعقل وكفى، ولا ينزل الدين منزلته من قلبه؛ فإذا المكانة التي احتلها الجنيد من التصوف هى هى المكانة التي يحتلها التصوف من الدين، حتى إذا ما كان التصوف من الدين بمنزلة الروح من الجسد صار مَن يعتنقه، ومن يفهمه، ومن يواليه عنايته الكبرى هو أيضاً بالقياس إلى غيره من المتكلمين أو من الفقهاء بمنزلة الروح من الجسد؛ إذْ أن مَنْ يَفْهَم التوحيد تحققاً بهذا الفهم؛ يفهمه بتوحِّد الروح وتوليِّها لذاك التوحيد بمذاق الإدراك الذوقي.

انتقل التوحيد من ميدان الكلام إلى ميدان التصوف، أو إنْ شئت قُلتَ: من ميدان العقائد الموروثة بالنظر العقلي والجدل الخطابي إلى ميدان التجربة الصوفية؛ ليصبح على يد هذا الإمام محض تجربة شهودية عَارِفَة، ومحض بصيرة ذَوَّاقة كاشفة. التوحيد هنا - لا بل التوحيد الإسلامي - فكرة إسلامية مبدعة، أعني التوحيد بمعناه الكامل التام الشامل. الله الواحد الأحد الفرد الصمد لم يكن كاملاً تاماً شاملاً لا في حضارة ولا في ثقافة ولا في ملة ولا في عقيدة من عقائد الأقدمين ولا في ديانة من ديانات الأمم المتقدّمة سوى الديانة الأخيرة؛ ديانة الإسلام، وأن يشعر المسلم بهذه الحقيقة شعوراً يرتد إلى صفاء التجربة، ومن ثم يصف الحقيقة الإنسانية التابعة للحقيقة الإلهية؛ لم يكن في فرقة ولا في مذهب ولا في طائفة ولا في نحلة من النحل سوى التصوف، ولم يكن في التصوف بمثل هذا الجلاء الناصع إلا لدى الجنيد: أن يصبح التوحيد حياة روحية يشهد فيها الصوفي حقيقته الأصلية ماثلة بين يديه: "وَأنْ يكون كما كان إذْ كان قبل أن يكون"؛ هنالك يكتشف الصوفي ذاته اكتشافاً حقيقياً، لكنه لن يكتشف ذاته، ولن يشمَّ منها رائحة الحق إلا أن يخوض غمار تجربة الفناء (= الفناء في التوحيد).

وقد سُئل الجنيد عن الفناء في التوحيد، يعني سُئل عن تجربة التوحيد لا عن كونه عقيدة موروثة لم تنحل عنها رابطة التقليد بَعدُ، فالعقائد الموروثة بما فيها عقائد المتكلمين - ولكونها تعالج بمنهج جدلي خطابي يختلف بطبيعته عن منهج الذوق والوجدان الذي هو منهج التصوف - إنْ هى إلا تقليد عريق ولها في التقليد نسب تليد؛ بل السؤال هنا عن التوحيد، والإجابة عنه أيضاً يُنْظَر إليها من حيث كونه تجربة، بمعنى أن إجابة الجنيد عن التوحيد - فيما لو شئنا استخدام اصطلاحات القشيري - تخرج عن " توحيد القَالة " (= توحيد المقالة) وتدخل في " توحيد الحالة " (= توحيد التجربة).

لقد سُئل الجنيد عن التوحيد فأجاب:" أن يكون العبد شبحاً قائماً بين يدي الله ليس بينهما ثالث، تجري عليه تصاريف تدبيره، في مجاري أحكام قدرته، في لُجَج بحار توحيده، بالفناء عن نفسه وعن دعوة الحق له، وعن استجابته له، بحقائق وجود وحدانيته في حقيقة قربه، بذهاب حسِّه وحركاته لقيام الحق له فيما أراده منه، والعلم في ذلك أنه رَجَعَ آخر العبد إلى أوله: أن يكون كما كان إذْ كان قبل أن يكون "؛ يعني أن يكتشف المرء حقيقته الأصلية بفناء الإرادة في حقيقة التوحيد.

والكشف عن الحقيقة الأصلية للإنسان هنا كشف تحقيق لا كشف علم أو استشراف وكفى، أي كشف تجربة ومعايشة وشهود. وفي الحق أن التأمل - إيمانيَّاً - في هذا المعنى العميق للتوحيد يدعو إلى نسبة التصوف السُّني كله إلى الجنيد, طاووس العلماء وريحانة التصوف الإسلامي حقيقةً؛ ثم ليكون بمثل هذه النسبة "سيد أولياء الإسلام" على التحقيق.

أقول؛ إنّ نسبة التصوف الإسلامي إلى الجنيد بغير تجاوز ولا مبالغة، إنما هو أمر تشهد به الحياة الروحية في الإسلام التي استنت طريقته ونهجت سيرته متعقبة آثاره على مستوى التحقيق، وبخاصة تلك المدارس السنية المعتدلة التي ظهرت في الإسلام، وقامت بنشر الدعوة من طريق التخلق، ولم تأخذ التصوف نظرياً فحسب بل أوغلت في الجانب العملي أكثر من إيغالها في الجانب النظري الفلسفي كالمدرسة الشاذلية؛ ومؤسسها الإمام الهمام أبو الحسن الشاذلي (ت 656هـ)، رضي الله عنه وتلاميذه من بعده.

تأمل فقط مطلع هذا التعريف:" أن يَكُونَ العبد شبحاً بين يدي الله ليس بينهما ثالث، تجري عليه تصاريف تدبيره "؛ وقارن بينه وبين فكرة إسقاط التدبير كما تقررت في المدرسة الشاذلية، أو بينه وبين كتاب "التنوير في إسقاط التدبير" لابن عطاء الله السَّكندري، عندها تستطيع أن تجزم جزم اليقين بأثر الجنيد على هذه المدرسة بالمباشرة. ولنترك هذه الجزئية (جزئية الأثر المباشر) لنعود إليها من جديد في نهاية الترجمة.

على أن كثيراً من الباحثين مع شديد الأسف فهم من مقولته أن يرجع آخر العبد إلى أوله، فيكون كما كان قبل أن يكون؛ أنها ذات أصل أفلاطوني أو أنها شبيهة بفكرة أفلاطون عن سَبْقِ وجود النفس الإنسانية في عالم المثل قبل هبوطها إلى البدن، وعند تحققها في ذلك العالم بالمعرفة الحقيقية؛ وراح بعضهم يقتبس من تاسوعات أفلوطين (205 - 270م) ما ظنَّه مُطابقاً لفكرة الجنيد؛ على الرغم من أن التصوف لدى أفلوطين - كما قال هويتكر-  كان نتيجة لمذهبه وليس أساساً له.

وليس من شك في أن فهماً كهذا يجانب الصواب بكل تأكيد، ويبتعد عن الحقيقة ويتعسف كثيراً في تفسير النصوص، ويحملها ما لم تحتمل؛ ففكرة وجود أفكار مجردة تنمُّ عن قِدَم النفس الإنسانية أو الروح كما يذهب أفلاطون مثلاً لم تكن موجودة عند متصوفة الإسلام في القرن الثالث الهجري. والمصدر اليوناني في التصوف ككل لم يكن قد تمكن أثره في العلوم الإسلامية، ولم يكن في ظل القرون الخمسة الأولى شيئاً يذكر بالقياس إلى المصدر الإسلامي؛ فمن أين أخذ الجنيد هذا الفهم؟ ومن أين اسْتَقاه؟

صحيحٌ أن هنالك تأثيراً وتأثراً وليس لأحد أن ينكره، لكن الولع الغريب به لدرجة تطبيقه الحرفي على نصوص التراث الصوفي الإسلامي إنما هو شيء مؤسف حقاً غير مقبول لدينا وغير معقول؛ لأنه يكشف عن شطط عقلي مَرَّده قلب الحقائق بمقدار ما يسفر عن خلط علمي مبعثه الهوى لا الإنصاف! فهل من المعقول أن تكون كل فكرة ذات قيمة في التصوف - أو حتى في غير التصوف!- مستعارةً من مصدر خارجي؟ وهل يُعقل أن تجيء الأفكار الضخمة الثرية في التصوف خارجة عن نطاق المضمون الديني، بمقدار ما هى شديدة الاقتباس من ثقافات الأمم والأقوام البدائية؟ هل يعقل هذا؟

إذا نحن لم نستطع أن نعقل ذلك، ولم نسوغ لأنفسنا قبوله، ولم نستحسن الطَرْق عليه على الدوام سواء من جانب المستشرقين أو الباحثين العرب؛ فقد وَجَبَ في معروفنا أن تكون العبرة لدينا بالتراث الفكري والحضاري، العبرة بالخلفية الفكرية والثقافية التي يعتمدها تصوف المتصوف. فإن الأصل عندنا هو: المضمون الديني ينطلق الصوفي من قواعده ومبادئه خَاصّة؛ لأنه أصل يشكل معالم التجربة الصوفية وأركانها ويستوفى معطياتها العمليّة من الأثر الفاعل في ذلك المضمون.

أي نعم! إنما العبرة بالقاعدة التي أنبني عليها تفكير المفكر أو ذوق المتصوف أو برهان الفيلسوف، العبرة عندي بما لدى هذا المتصوف أو ذاك المفكر أو الفيلسوف من مضمون ديني يتكئ عليه وينطلق منه ويدين له بكل الولاء؛ فإذا المضمون الجوَّانيُّ هو المتقدّم إزاء التجربة الصوفية في حين تتأخر المؤثرات الخارجية والمصادر البَرَّانيَّة.

إذا كنَّا لا نقبل أن يكون الغزالي مثلاً وهو القائل بفكرة كفكرة العادة، نافياً قانون السببية سابقاً ديفيد هيوم، أو لا نقبل أن يكون المعتزلة قد سبقوا الوجوديين، أو لا نقبل أن يكون ابن تيمية سابقاً في محاولاته المنطقية فلاسفة الوضعية المنطقية في العصر الحديث أو المعاصر؛ فمن الأحرى أن لا نقبل أن يكون أفلاطون - أو حتى أفلوطين! - مصدراً من مصادر التصوف السُّني المعتدل في الإسلام على أقلِّ تقدير في القرون الخمسة الأولى، ومؤثراً - أحدهما أو كلاهما - في أئمة الاعتدال كالجنيد في فكرته السابقة.

ونحن نذهب إلى أبعد هذا الرأي من منطلق اختلاف "المضمون الديني" الذي يستند عليه هذا المتصوف أو ذاك على وجه الخصوص، ويختلف به عَمَّنْ سواه. ونذهب إلى أبعد من هذا أيضاً إذا نحن عولنا كل التعويل على نشاط التجربة الصوفية وفاعليتها؛ فلا تقوم للتصوف عندنا قائمة على الحقيقة ما لم يكن للتجربة الصوفية أثر وفاعلية.

وعليه؛ فإنّ الذين حَمَّلوا النصوص ما ليست تحتمله قالوا إنّ بعض المتصوفة، وبخاصة الجنيد، قد استمدوا هذا الفهم من أفلاطون؛ لأن الفكرة في مجملها عندهم كما قلنا شبيهة بفكرة أفلاطون عن سبق النفس الإنسانية في عالم المثل قبل هبوطها إلى البدن، ومنهم من قال باستمداد الفكرة من أفلوطين، وَرَاحَ بعضهم - جرياً وراء منهج الأشباه والنظائر الذي أبتدعه المستشرقون؛ فأقتبس من تاسوعات أفلوطين ما ظنه مطابقاً لفكرة الجنيد فيما عَسَاهُ يتمشى مع إعمال هذا المنهج. أقتبس الدكتور كامل مصطفي الشيبي، في كتابه (صفحات مكثفة من تاريخ التصوف الإسلامي؛ ص 124 وما بعدها) اعتماداً على ملاحظات الدكتور على حسن عبد القادر بطريقة فجة غير علمية ولا صوفية بالمرة بعض المسائل التي يظهر فيها التشابه بين آراء الجنيد الصوفية وأفكار الفيلسوف اليوناني أفلوطين، وأكد على أن ظهور مثل هذا التشابه يمكن أن يعدَّ اتصالاً وأخذاً مباشرةً أو بالواسطة من هذا الفيلسوف الصوفي اليوناني. وقد جمعها في نقاط ثمانية كلها في تقديري مجرد تشابه سطحي لا يقوم عليه دليل من واقع تصوف الجنيد الذي هو سُنيّ خالص، ولا تنهض في تأييده حجة عقلية ولا مزية ذوقية صوفية.

فهذا التأكيد من جانبه أو من جانب من نقل عنهم، فضلاً عما فيه من غفلة عن المضمون الديني الإسلامي الذي انطلق منه الجنيد، فهو من ناحية أخرى لا يقدم على وجه اليقين صورة واحدة تكشف عن طريقة هذا الاتصال كيف تَمَّتْ بين صوفي الإسلام وصوفي اليونان! ناهيك عن قلة اعتماد المؤلف أو عدمه في رأيه أو رأي من نقل عنه؛ للتجربة الذوقية ونسبة تصوف الجنيد إلى العقل النظري والتأمل الفلسفي وهو شيء عجيب!؛ أغرب ما فيه أنه يخالف نصوص الجنيد المقطوع بها صراحةً وضمناً، ويتقوّل عليه إذ يحمل نصوصه فوق ما تحتمل؛ بل ليس ما تحتمل.      

وتناسى هؤلاء أولاً: الطابع العام لمذهب أفلوطين وهو طابع حركي يؤكد الانتقال الدائم بين الحركتين الصاعدة والهابطة، ويفصِّل الكلام في هبوط النفس من مقرها الأعلى إلى عالم الأجسام، ثم عودتها بالتطهير من العالم المحسوس إلى العالم المعقول.

(وللحديث بقيّة)

 

بقلم: د. مجدي إبراهيم

 

قاسم حسين صالح: 9 نيسان 2003 .. تحليل سيكوبولتك للسلطة والناس (1)

التفاصيل
كتب بواسطة: ا. د. قاسم حسين صالح

قاسم حسين صالح- بوصفي شاهد عيان، فأن مؤسسات الدولة تعرضت للنهب في 8/ نيسان / 2003 وليس التاسع منه. ففي صباح ذلك اليوم كنت أرى ، من شباك شقتي بشارع حيفا، أربع دبابات أمريكية تربض في الصالحية بجوار تمثال الملك فيصل الأول، وجرى نهب ممتلكات وزارة العدل التي لا يفصلها عن هذه الدبابات سوى رصيف الشارع.. على مرأى و" تشجيع" من الجنود الأمريكان. فيما بدأت الحرائق في بغداد في 12 نيسان 2003، إذ شهدت اشتعال النار في الطابق العلوي من بناية البنك المركزي العراقي، وفي الركن الأيسر الأرضي من مبنى وزارة العدل، وفي مبنى الإذاعة والتلفزيون ومبنى وزارة الإعلام. وكنت أرى من على سطح العمارة التي اسكنها في شارع حيفا، الحرائق حيثما أدرت وجهي في سماء بغداد.

- كان الفرح قد غمر وجوه معظم العراقيين بنهاية جمهورية الخوف في (9 نيسان /ابريل 2003) مستبشرين بجمهورية الديمقراطية والسلم الاجتماعي. ما كانوا يتوقعون انهم سيقتل بعضهم بعضا ويخسرون عشرات الآلاف في سنتين(2006-2008). وما جري كان حرب اقتتال طائفي سببه الرئيس هو السلطة عليها اللعنة..وكان عليهم ان يحتاطوا.فتاريخها في العراق هو تاريخ العنف والدم وقطع رؤوس الخصوم منذ أن تحولت السلطة العربية والإسلامية الى وراثية عام 61 هجرية. فمن يومها اعتمدت السيف لحلّ النزاعات واجبار من يخالفها على الطاعة والخضوع. وكانت (السلطة العربية والإسلامية) على مدى أكثر من ألف وثلاثمائة سنة لا تلجا الى التفاوض والحوار إلا بعد أن تقطف السيوف رؤوس افضل من في القوم. ولهذا فأن العراقيين معبئون سيكولوجيا في لاشعورهم الجمعي بالعنف لا بالحوار في حلّ صراعاتهم السياسية. ولك أن تستشهد بما حصل عام 1958 من تمثيل وحشي بالعائلة المالكة ورموز النظام. وعام 1963 بتمثيل أبشع بشخص أول رئيس جمهورية للعراق ورموز نظامه، وبآلاف الشيوعيين والوطنيين. وما حصل للبعثيين من حرقهم أحياء بعد هزيمة الجيش العراقي في حرب الكويت عام 1991. فضلا عن الابادات الجماعية للشيعة وحرب الأنفال ومجزرة حلبجة وإبادة الآلاف من الكورد .. الى المشهد اليومي الحاضر الذي لا تستوعب مفردات اللغة وصف بشاعته ولا عقلانيته..وذلك الموروث اللعين الذي يمتد الى داحس والغبراء، مرورا بواقعة دهاء أبن العاص وغباء الأشعري التي " أنجبت " فرق الموت والتكفير..الى نبش الأحداث المخجلة في تاريخنا المتخم بالعنف، وكأن عقولنا مبرمجة فقط على استحضار الأحقاد من ماضينا.

والمسألة السيكولوجية الثانية، أن السلطة في الدولة العراقية الحديثة (من عام 1921 الى عام 2003) كانت بيد السّنة العرب، وفجأة ومن دون تمهيد ديمقراطي أو سلاسة في انتقال السلطة، حدث تبادل انقلابي للأدوار.فالشيعة الذين كانوا لألف وثلاثمائة سنة في المعارضة، والذين حاربوا الانكليزي المحتل في ثورة العشرين، والذين رفضوا دعوة الملك فيصل الأول للاشتراك في الوزارة لأمور فقهية! أصبحوا (بعد 9/4/2003 ) في السلطة، واعتبروا قوات الغزو، التي حاربوها في البدء بضراوة في أم قصر والناصرية، اعتبروها قوات صديقة وتحالف ساستهم معها، فيما السّنة أزيحوا الى جبهة المعارضة سواء ضد السلطة او ضد المحتل الذي أعطاهم السلطة في بدء تشكيل الدولة العراقية الحديثة.

وتبادل الأدوار هذا يشبه في فعله النفسي تبادل الأدوار بين السيد والعبد، فأنّى لمن كان سيّدا أن يكون عبدا لمن كان عبدا بالأمس، لاسيما في سيكولوجية العراقي تحديدا؟!. وعلّة نفسية ثالثة، هي أن الشيعة في العراق (جماهيرها الشعبية تحديدا اعتقدوا أن مصدر ما أصابهم من ظلم وجور وعنف هو السلطة السنّية التي حكمت العراق أكثر من ألف وثلاثمائة سنة، فعمموا هذا الموقف الانفعالي على كل السنّة ولم يقصروه على رموز الحكم ممن استخدم السلطة وسيلة للظلم والقسوة في التعامل واذلال الآخرين بمن فيهم شخصيات وطنية سنيّة حاولوا الأطاحة بالطاغية. وحصل أن نشوة الانتصار ووسواس الخوف من ضياع ما يعدّونه الفرصة التاريخية الأخيرة لهم قد تمكنا من الجماهير الشيعية الشعبية، وعملا نفسيا على الاندفاع والانفعال والتطرف.ولقد عزز هذا وغذّاه زهو بعض قادتهم السياسيين والدينيين بحصولهم على ستة ملايين صوت في الانتخابات (حوالي نصف العراقيين) ناجمة في حقيقتها من موقف تعاطفي وردّ فعل انفعالي لما أصابهم من حيف، أكثر منه موقف من برامج سياسية..دفع معظمهم ثمنه بؤسا وعظوا اصابعهم البنفسجية ندما، بل ان كثيرا منهم خرجوا في الشوارع وساحات التحرير يهتفون (باسم الدين باكونه الحراميه)، و(الخير العدنه مكوم والأحزاب تفرهد بيه). 

بالمقابل، حصل للجماهير الشعبية من السنّة أن تمكن منها وسواس الخوف من أن الشيعة الذين استلموا السلطة سيفعلون بهم ما فعلت بهم السلطة السنية طوال حكمها للعراق. فضلا عن أن السّنة شعروا بالغبن السياسي والإحباط الذي يصل ذروته في ظروف الأزمات فيؤدي الى العدوان، وهذه حقيقة نفسية تحدث عند إعاقة جماعة عن تحقيق أهداف تراها مشروعة ولا تجد وسيلة أخرى لبلوغها غير العنف، وانها ظلت شغالة لعامها الرابع عشر لوجود من يغذيها على صعيد الحكومة وقيادات سياسية عملت على رمي الحطب وصب الزيت على نار كبرى كانت مشتعلة أصلا ليمتد لهبها الى مناطق أخرى من العراق، فكان ما كان مما حصل من خراب للوطن وفواجع للناس، اوجعها جريمة سبايكر ومآسي اهلنا في حرب تحرير نينوى.

- اننا اذ نوثق لهذه الأحداث ونحللها من منظور علم النفس والاجتماع السياسي، فان الهدف منها هو التقاط العبرة من قبل الحكّام تحديدا، ليأخذوا برأي من يقدم لهم النصيحة خالصة من علماء العراق ومفكريه.لكن المشكلة ان سيكولوجيا السلطة في العراق علّمت الحاكم ان يحيط نفسه بأشخاص يقولون له ما يحب ان يسمعه!

*

أ.د. قاسم حسين صالح

9 نيسان 2003

 

زعيم الخيرالله: الأَبعادُ المَعْرِفِيَّةُ في استِقْبالِ شهرِ رَمَضان

التفاصيل
كتب بواسطة: زعيم الخير الله

نعيش هذهِ الايّامَ المُتَبَقِيَّةَ من شهرِ شعبانَ المُشّرَّفِ، ونحنُ على مشارفِ شهرِ رمضانَ المبارك،  الذي كَرَّمَنا اللهُ تعالى فيه وجَعلَنا ضُيوفاً عندَهُ، فهل نحنُ بمستوى هذه الضيافةِ الآلهيّةِ ؟ وهل هيأنا الاستعداداتِ التي تؤهلُنا لاستقبالِ هذا الشهرِ استقبالاً يليقُ بشرفهِ وعظمته؟ الناسُ تختلفُ في استعداداتها في استقبالِ هذا الشهر كُلٌّ حسبَ معرفتهِ.

 هل نحتاج الى استعداداتٍ مَعْرِفِيَّةٍ لنكونَ مؤهلين للضيافَةِ الآلهِيَّةِ ؟ وهل مواسمُ العبادةِ ومنها شهر رمضان تحتاج الى معرفة؟

الشيء الملفتُ للنظر في العبادة، هي انَّها تؤكِدُ على ارتباطِ الانسانِ بخالقهِ. الانسانُ العابدُ موصولٌ بخالقِهِ، والانسانُ المتمردُ على خالقه هو ذَرَّةٌ تائهة تسبح في الكون بلا بوصلة ولاوجهة تحدد السير. الانسانُ العابدُ انسانٌ عارفٌ انَّ لهُ خالقاً، وأَنَّ للوجودِ بدايةً.

 هذهِ الحاجَةُ (حاجةُ الارتباط) سمّاها المفكر الشهيد محمد باقر الصَّدر (حاجةُ الارتباط بالمطلق). هذا الحضورُ القَوِيُّ للخالقِ في حياة الانسان العابد يشكل اساسايات المعرفة، كما قال امير المؤمين عليٌّ عليه السلام: (أَوَّلُ الدِّينِ مَعْرِفَتُهُ). هذا الارتباطُ الذي يتجلّى في العبادة ويتجلى في عبادة الصوم بصورة جليّةٍ واضحةٍ في وقتٍ يعيشُ الانسانُ في هذا العصرِ تحت ظلِّ فلسفاتٍ تدعوهُ الى فك الارتباط بالخالق.

نظرية (Big Bang) (الانفجار العظيم) من النظريات التي تؤكد على فك الارتباط بالخالق. نظرية الانفجار العظيم تفترض ان الكون كان في حالة حرارة شديدة الكثافة فتمدد بعد ان كان جزء واحداً عند نشأته. وحدثت لحظة الانفجار العظيم قبل 13.8 مليار سنة. هي نظريةٌ تفسر نشأة الكون بعوامل ماديّة، وحرارة شديدة وكثافة عالية وتمدد وانفصال بعد ان كان الكون جزء واحداً، دون ربط هذه الاحداث بخالقها؛ لان العلم ليس من شأنهِ ذلك. العلمُ مجاله وحقلهُ التجربة والمختبر والحسابات والمسافات والمعادلات ؛ وليس من شأنِهِ التحدث عن ماوراء ذلك

صحيح ان نظرية الانفجار العظيم تعزز من حجة المؤمنين بالله لانها تفترض بأنَّ للكون بدايةً.

وكذلك نظرية دارون في تفسير نشأة الحياة. النظرية تتحدث عن بدايات بسيطة للحياة بدأت بخلية حية ثم حدث تطور، وتطورت الانواع عن انواع سابقة وفق قانون تنازع البقاء وبقاء الاصلح. النظرية تفك الارتباط بين عملية الخلق والخالق، لانها ليس من شأنها ان تتحدث عن عوالم ماوراء المادة، والاخرج العلم عن اختصاصه وحقله.

في الصوم تأكيد لارتباط المخلوق بخالقه. وهذا بعدٌ معرفيٌّ من ابعاد الصوم، التي ينبغي للصائم معرفتها وهو يستقبل شهر رمضان المبارك.

مستويات الصوم

الناس لايصومون صوماً واحداً ؛ فهناك مستوياتٌ للصوم، قسموها الى ثلاثة مستوياتٍ:

1- صوم العوام (الصوم الفقهي): وهذا المستوى من الصوم يمارسه اغلبُ المسلمينَ، فهُم يصومونَ عن مفظراتٍ محدودةٍ ذكرها الفقهاءُ في كتبهم الفقهيّة من طلوعِ الفجرِ الى غروبِ الشمسِ. وهذا ادنى مراتبِ الصوم.

2- صوم الخواص (الصوم الاخلاقي): وهو اعلى مستوىً من الصوم الاول، وهو صومُ الجوارح، وهو: ان تصوم كل جوارح الانسان. تصوم عينُه عن الحرامِ وأُذُنُهُ عن الحرام وكلُّ جوارحه.

3-صوم خواص الخواص (الصومُ العِرفانيُّ): وهو اعلى مستوىً من الصومين السابقين، فهو ليس صوماً عن المفطرات الفقهية فحسب، وليس صوم الجوارح فقط، وانما هو صوم عن اية فكرة محرمة اوسيئة تخطر ببال الانسان.صومٌ يبتعدُ فيه الصائِمُ عن كل الخواطر الشيطانيّةِ التي تُشَوِّهُ داخلَ الانسان ونفسه.

 هذه المستوياتُ من الصوم يحددها المستوى المعرفي للصائم فبقدر المعرفة يتحدد مستوى الصوم ومستوى من يصوم.

المعرفةُ المَقاصِدِيَّةُ للصوم

هناك معرفةٌ مَقاصِدِيَّةٌ للصوم لابُدَّ منها ونحن نستقبل هذا الشهر الكريم، وأقصُدُ بالمَعْرِفَةِ المقاصديّة ان نعرفَ ماذا أراد الله منّا بايجابه الصيام علينا ؟ ماهي الحِكَم ُ؟ ماهي المقاصد؟

الله تعالى حين فرضَ علينا الصيام لابد ان تكون هناك حكم واهداف ومقاصد. معرفةُ هذهِ المقاصدِ مهمةٌ جداً في استقبالِ الشَّهرِ الكَريمِ.

 اغلبُ المسلمين يستقبلونَ الشهرَ بالاسرافِ في الاطعمةِ والاشربةِ، وتتفشى لديهم في هذا الشهر النزعةُ الاستهلاكيَّةُ مما يقضي على فلسفة الصوم ومقاصده ؛ لانَّ اللهَ تعالى أرادنا أن نصوم لحكم عالية ومقاصد سامية، ونحن جردنا الصوم من هذه الغايات والحكم والمقاصد. نحن نعوض ماصُمناه في النهار بانواع الاطعمة والاشربة. وهذا خللٌ ونقصٌ في معرفتنا المقاصدية للصوم وشهر الصيام.

المعرفة الحضورية للصوم

هناكَ مَعْرِفَةٌ حُضورِيَّةٌ في الصَّومِ لابُدَّ من الاهتمام بها ونحن نستقبل شهر الله تعالى. المعرفةُ الحصوليّةُ: هي المعرفة التي تنشأ عبر وسائط وصور، امّا المعرفة الحضورية فهي معرفة لم تنشأ عبر صورة ؛ وانما هي معرفة وجدانيّة شهودية سببها حضور نفس المعلوم لاصورته.

لاضرب لكم مثلاً لتتضح الصورة. عندنا مريضٌ يتأَلَمُ من آلامٍ شديدةٍ في معدته يذهب الى الطبيب ويشرح له حالته. المريضُ عنده نفس الالم حاضرٌ في نفسه لاصورة الالم، امّا الطبيب الذي شرح له المريضُ حالتَهُ فهو عنده صورة عن الالمِ لانفسَ الالم.

الله تعالى لم يُرِد ان يتحدث للمسلم عن الجوع عبر الوصايا والكلمات؛ لان المعرفةَ عبر الكلمات معرفةٌ صوريّةٌ. المفكرون الاشتراكيون كتبوا وتحدثوا كثيراً عن جوع الفقراء ولكن هذه المعرفة التي يتلقاها الناسُ هي معرفةٌ صُوريَّةٌ. الله سبحانه وتعالى اراد ان يدخل المسلم من خلال الصيام في شهر رمضان في معرفةٍ حضوريّةٍ شهوديّةٍ وجدانيّةٍ يعيش تجربة الجوع ليعرف حضوريّاً معنى الجوع.

هناك تفاصيل أكثر في الحديث عن الابعاد المعرفيّةِ للصيام. اكتفي بهذا القدر؛ لان هذا مايتسع له الكلام في هذا المقال المتواضع.

 

زعيم الخيرالله

 

 

عبد العزيز قريش: مؤسسة التربية.. للحقيقة وللواقع المعيش قول

التفاصيل
كتب بواسطة: عبد العزيز قريش

عبد العزيز قريشأمام بعض الظواهر التربوية القائمة في المجتمع بما فيه المجتمع المدرسي؛ يقف العقل حائرا في مقاربتها من حيث تعقدها وتشابكها، وصعوبة تأطيرها تحت نظرية معينة سواء تربوية كانت أو نفسية أو اجتماعية أو سياسية أو إيديولوجية! فهي تنفلت عن الإمساك الإشكالي لتشييد معمارها الموضوعي لكي يسهل تحليلها ومساءلة مفرداتها علميا وعمليا. ويزيد درجة تعقيدها شدة التغيير الحاصل في المجتمع والمجتمع المدرسي على مختلف المستويات الحياتية الذي يلاحقها في الزمن المكان والأثر والتأثير! ومتطلبات هذه التغيرات من عمق في التفكير وتطور في الرؤية والمعرفة في ظل تسارع الواردات الجديدة الكثيفة من عالم التقنيات والمعلوميات والعولميات التي تغزونا بشكل تتاري ونحن منزوعو السلاح الفكري أمامها؛ قلما نفطن لشراكها وفخاخها التي تسلبنا هويتنا باسم التفاعل الحضاري أو التصادم الحضاري. تلك الواردات التي لم تعد تلائم طبيعة المؤسسة والمجتمع المحافظة افتراضا المتجهة في كثير من المسارات نحو السكون والرقود بحكم الاستقرار في الأوضاع المعروفة والمعلومة بدل الدخول في المجهول والمجازفة بالعادة المألوفة، التي اعتادها المجتمع والمجتمع المدرسي؛ علما بأن العلاقة التبادلية بينهما حاصلة رياضياتيا تأثيرا وتأثرا. لذا؛ تتولد من فكر الباحث مجموعة من الأسئلة الجوهرية التي تسائل المجتمعين معا بكثير من علامات الاستفهام حول ظروف حاضنات تلك الظواهر ومربياتها ومشغلاتها، وكيفيات مقارباتها إن قاربناها في أحسن الحالات! وأطروحاتها النظرية والعملية في تدبير تفاصيلها ومفاصلها، والخلاصات والاستنتاجات والاقتراحات فضلا عن ترصيدها وتركيمها وتوثيقها والاستفادة منها في الوضعيات المتكافئة ... أسئلة؛ الأجوبة عنها قمينة بفتح باب البحث على مصراعيه في المجتمع المدرسي والمجتمع العام مؤسسة وأفرادا، ما يوطن الفكر البحثي في المجتمعين معا من جهة أولى، ومن جهة ثانية حل إشكاليات ومشاكل تلك الظواهر، فتتطور منظومتنا التربوية من جهة ثالثة؛ ومنه يجد العلم والمعرفة الأصيلين طريقهما إلى المجتمع. فبلا مساءلة وبحث لا يكون طرح الإصلاحات التربوية أصيلا وواقعيا، ونابعا من معطى واقعي معيش. وإنما يكون واردا ورود الريح من الشمال إلى الجنوب أو صعوده من الجنوب إلى الشمال؛ فيكون مبتور الجذور والأصول، مختل السيرورة والفعل، مضطرب النتائج، خاصة في مجتمع لا يدري الوارد عليه طبيعته الاجتماعية والفكرية والثقافية والإيديولوجية والسيكولوجية ... ولا يعرف كيف تدار فيه الأمور وتدبر الملفات والقضايا، كما لا يعلم طبيعة الصراع القائمة فيه بين المؤسسات والطبقات الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية والإيديولوجية والعقائدية. وما يتضمن من حراك وصراع وتنازع خلا مسألة خبزية تحرق الأخضر واليابس في دوامة الوجود المعيشي البيولوجي؛ فيفقد الكثير من المعطيات والمعلومات والمعارف في تعاطيه مع قضاياه فضلا عن جهله بميكانيزمات دواليب الحراك الاجتماعي. وما تجارب المجتمع العام والمجتمع المدرسي عنا ببعيد. فكم من المشاريع فشلت حين أسندت ملفاتها للأجانب الذين تم استيرادهم من الخارج استيراد السلع والبضائع اعتقاد من السياسي أو التقني بنجاعة طرحه في معالجة مشاكل المجتمع المدرسي أو المجتمع العام.

مع طرح الاستيراد أو إسناد الأمور لغير الكفاءة والوعي الإنساني أو تسلط الطفيليات على المجال التربوي أو العام؛ تنزع روح الفكر والعقل والجسم والفعل والإرادة، وتقتل الأطروحات الجادة والمسؤولة، وتنتعش الأطروحات الترقيعية والتلفيقية والرؤى الراهنة غير الاستراتيجية، التي تنظر في أبعد مدى حد قدميها، وتراه مدى بعيدا! غير واعية بما تفعله بالأجيال القادمة التي توأد في المهد. وهو ما يحصل؛ حيث فقد المجتمع الثقة في مؤسسة التربية ولم يعد يعول عليها في إحداث التغيير المطلوب علميا وتقنيا وإنسانيا وحضاريا وثقافيا وسياسيا، ودخلت في أفول حضورها الفكري والعلمي والاجتماعي والثقافي والسياسي والاقتصادي والإنساني بعد عصرها الذهبي، يوم كانت تصنع العقول والإرادات والقيم، والشجاعة التي فدت خلفها بروحها ودمها ومالها، فشربت من ماء المنفى والاعتقال والتعذيب والتشريد والتهجير ما عبدت به طريق حرية التعبير والاستقلال واستقلالية الذات وعزتها وكرامتها، وضمنت به أدنى الحقوق الإنسانية في زمن الجمر والقهر والطغيان. طغيان الإنسان على الإنسان من أجل التسيد! فكانت مؤسسة التربية حينها القناة الطبيعية التي تصنع المفكرين والقادة والفلاسفة وقوادر المجتمع الذين يبنونه ويغيرونه؛ لكن حين صارت إرادة التسيد أقوى من إرادة مؤسسة التربية، وانحدرت في السلم الاجتماعي والمعرفي والثقافي والاقتصادي والفكري، وحتى في الإيديولوجيا، غدت مجرد قناة لمحو الأمية الأبجدية أو التقنية في أحسن أحوالها فضلا عن تحصيل المعيش اليومي ككل المؤسسات الإنتاجية أو التجارية أو خدمية، لا إبداع ولا خلق يرقى إلى ترقية المجتمع إلى مصاف الدول المتقدمة المبدعة التي تصنع التقدم الإنساني والحضاري والتاريخ.

مؤسسة التربية دخلت في تكرار نفسها، وفي الروتين اليومي والعادة القاتلة للخلق والإبداع والتجدد، فما كانت نجحت فيه البارحة فشلت فيه اليوم: التدريس؟! والفشل لا يمكن التستر عليه أو إنكاره إلا من جاحد أو متستر على الخطإ؛ لأنه قتل أجيالا كثيرة ما عادت تستطيع كتابة رسالة بطريقة سليمة فضلا عن إجراء بحث رصين، وما عادت عصامية التكوين تستكمل تعلمها من خارج مؤسسة التربية وتغنيه بقيم إضافية نوعية كثيرة! حتى ترقى بذاتها وبمجتمعها وبأجيالها الحاضرة والقادمة، فلم يعد واردا ذلك في الحسبان لتعلق المخلوقات بالماديات والمكتسبات المالية وتركيمها وترصيدها في البنوك والعقارات والضيعات والمشاريع التجارية ... فكل الوجود مرتهن للماديات والماليات فقط! وغيره من القيم الإنسانية والفكر التنويري والاستقلالية البشرية والكرامة ورديفاتها الأخلاقية عملة كاسدة في المجتمع، بل هي عنوان التخلف والتأخر والبلادة والحمق والإعاقة النفسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية، وإن شئت هي عدم في عالم الأشياء، ما عادت تستهوي إلا المتخلفين عقليا ونفسيا مثلي!؟ وأما ما يصنع للإنسان والمجتمع القوة والسطوة في عالم الأقوياء فمؤسسة التربية بعيدة عنه كل البعد؛ فهي مازالت تروج للأساطير والخزعبلات والهمروجات والتخيلات المضرة بالعقل والفكر والمستقبل، القاتلة للكفايات والإرادة والإبداع والابتكار. ومازالت تسكن العقل بمسكنات الماضي وإنجازاته العظيمة، وتغرق في الماضوية إلى أذنيها معتقدة أن ذلك هو المدخل الحقيقي إلى عالم التقدم والقوة والحضارة أو تردد ما قاله ويقوله الآخر كالببغاء. وتجنت على الماضي والحاضر والمستقبل، وعلى ما احتوى من إنجازات وعطاءات فكرية، ما كانت لتكون لدينا تراثا يستشهد به في العطاء فقط وإنما تكون مصدرا ومرجعا لحاضرنا الحضاري نبني عليه تقدمنا إزاء الاستفادة من الفكر الإنساني العالمي في ذلك، لكن حنطونا فيه وبه في أحسن أحوالنا دون أن نفقه منه شيئا! وادعوا البدعة على الخروج عنه، وبالمروق منه على كل نقد له، وما برحوا يشهرون بكل منتقد فاحص لأخطائه المعرفية والتاريخية أو يعدمون من لم يقل بقولهم فيه! مؤسسة تربية في هذا الزمن عاجزة عن تغيير ذاتها فبالأحرى تغيير المجتمع وهي تئن تحت وطأة واردات المجتمع إليها، تلك التي تغيرت لغتها من لغة عربية إلى دارجة هجينة، استقطبت لغة الشارع الموبوءة بمعجم ناب الألفاظ، قمته سب الدين، وقاعدته ما استهجنه السمع من ألفاظ المياه العادمة وقنوات الصرف الصحي. لغة؛ احتارت في نسبها وكينونتها وانتمائها! هي السائدة في السوق اللسني المجتمعي الرائج في الشارع والأسواق والمركبات التجارية الضخمة والمقاهي والملاهي ... يستحي السمع السليم في موسيقاه سماع ذلك المعجم على لسان بشر لا يشبه البشر إلا في الهيئة، أما المضمون فهو خارج عن إطار الإنسانية بمفهومه الروحي والأخلاقي والقيمي والوجودي! كائن مؤذ جارح ...

في ظل هذا الواقع المر الذي تعيشه مؤسسة التربية تحت سقف السياسوية التي انقلبت عن السياسي بفعل الذئاب السياسوية في مبادئه وقيمه إلى نقيضه، وتحولت من الثورة إلى الثروة، وما برحت تنقل البندقية من كتف إلى أخرى، وترتدي من الألبسة ما خيط لها، ومن الألوان ما أختير لها ... حتى انبرت خطيبا في محافلها الفرجوية تبرر ما استنكرته البارحة وعارضته بشدة، وتزيده من مسحوقات التجميل اللغوي والأدبي والمشاعري والإيديولوجي والإثنوي والعقائدي ما يسهل هضمه من السذج، وما يفتن عقول وقلوب طرر الدنيويين، ويذكي الحماس، ويثير الإحساس، ويفرز الأدرينالين في التابعين الطامحين إلى الوصول لحواشي الموائد والفوائد مع أسف من فقدوا ثقتهم بوعود أولئك السياسويين الذين أوهموا الأوطان بالآمال والأحلام وأداروا ظهورهم لحكيهم مهما كان جميلا ومنمقا ومدغدغا للأحاسيس. قلت؛ في ظل هذا الواقع المؤلم والحزين والكئيب تنبعت أسئلة جوهرية لابد من طرحا مهما كانت درجة حرارتها وحرقتها لأنها تمس الحقيقة التي لامحالة ستنجلي يوما ما في واقعنا المعيش، ونكون حينئذ مضطرين للإجابة عنها، فالتاريخ لا يرحم الأمم ولا الشعوب ولا الأفراد، فهي أسئلة قائمة في مؤسستنا التربوية بأسبابها، من قبيل:

ـ هل مؤسسة التربية مازالت قائما في مجتمعنا شكلا ومضمونا؟

ـ  إلى أي مدى تلعب دورها الحقيقي الواجب عليها في المجتمع؟

- إلى أي حد مازالت تحمل مشعل التغيير الفكري والاجتماعي والثقافي والاقتصادي والسياسي والحضاري للمجتمع والأفراد؟

ـ إلى أي حد يثق فيها المجتمع ويسلم لها سدة الريادة في التغيير؟

- إلى أي مدى مازالت تصنع المفكرين والفلاسفة والعباقرة والمثقفين المتنورين إزاء صناعة الإرادة الصلبة والقوية التي تجر قاطرة التقدم؟

ـ ألا تصنع الجهل في وقنا الحاضر؟

ـ ألا تستحق مؤسسة تربيتنا إحداث رجة في قلبها وعقلها وفعلها؟

- ألا تستحق إحداث قطيعة مع كل ما يشدها إلى الخلف ويخلق فيها التخلف والتأخر والبؤس الفكري والعملي والروحي؟

ـ ألا تستحق مؤسستنا التربوية الأفضل في كل شيء؟

- ألا يمكن نزع صب النفايات السياسوية والنقابوية عنها حتى تسلم من عللها؟

أسئلة يجب طرحها بكل جرأة أدبية دون خلفيات أو أفكار أو مواقف أو ظنون أو شكوك استباقية، والتصدي للإجابة عنها بكل جرأة وإرادة ومصداقية دون مجاملات أو نفاق اجتماعي أو وظيفي. فللإجابة شروطها ومتطلباتها وظروفها وأساسياتها حتى تؤدي دورها الإيجابي في حل المشاكل والإشكاليات التي تعيشها مؤسسة التربية، ولكي تجد الحلول الحقيقية والواقعية التي تناسب تلك المشكلات والإشكاليات والقضايا المرضية التي تؤخر مؤسسة التربية في المجتمع، التي يجب أن تكون في وضع أفضل من جميع المناحي! فهل نبقي مؤسسة تربيتنا في الإنعاش الوجودي نلقي عليها نظرات الحسرة والألم بين الحين والآخر، ونجلب لها قوارير الأكسجين لنفلتها من السكتة القلبية، ونخلصها من الموت المحتوم أم نذهب بمشرط الجراحة إلى أورامها لبترها كليا عن جسمها حتى تسلم وتغنم؟! فهذه المؤسسة معني بها الجميع لأنها شأن عام؛ الجميع أمامها سواسية في الاهتمام، وهم في المسؤوليات اختلاف درجة ونوعية ودور. لا يمكن تركها لوحدها تعاني من التشنجات السياسوية والنقابوية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية والإيديولوجية والفكرية والسجالات الفارغة المبيدة للفكر والعقل والروح، وعائدها السلبي القاتل لها! والله وبصدق النية والقلب والقول كفانا مضيعة للوقت، فأجيالنا تضيع بين أيدينا ونحن السبب والوسيلة، وسيحاسبنا التاريخ وتلعننا الأجيال القادمة؟!

 

عبد العزيز قريش

 

 

جاسم الصفار: الاليات الجديدة للسياسة الامريكية

التفاصيل
كتب بواسطة: د. جاسم الصفار

جاسم الصفارما الذي تغير في العلاقة بين الولايات المتحدة ألأمريكية من جهة وروسيا والصين من الجهة الأخرى؟ وهل أن ما يحصل هو تجليات سياسة خارجية جديدة تتميز بها إدارة بايدن عمن سبقها؟ وهل من الممكن أن يكون هنالك تغير جذري في هذه السياسة الخارجية، لها انعكاساتها على النظام العالمي، في دولة تتحكم في سياستها مؤسسات راسخة تشكل منظومة الدولة العميقة؟ هذا ما سأحاول أن ألقي عليه الضوء في مقالي المتواضع.

تم الإعلان عن الاجتماع الذي استمر يومين بين وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف ونظيره الصيني وانغ يي في نفس اليوم الذي بدأت فيه المحادثات بين الصين والولايات المتحدة في ألاسكا. وعلى الرغم من التكهنات بشأن التوقيت، تنفي بكين أن زيارة لافروف موجهة ضد أطراف ثالثة أو أن لها أي علاقة بالمفاوضات مع الولايات المتحدة في ألاسكا. هذا مع أن لافروف ووانغ في لقائهما آخر مرة في سبتمبر الماضي على هامش قمة منظمة شنغهاي للتعاون في موسكو كانا قد أكدا حينها أن روسيا والصين تقدمان ردا فعالا على هجمات "القوى المتطرفة" في الولايات المتحدة.

وبالتوافق مع تعهدات الرئيس الأمريكي جو بايدن بتوحيد الحلفاء القريبين في توجهاتهم المناهضة لروسيا والصين، اجتمع الناتو الشهر الماضي لمناقشة أمن دول حلف شمال الأطلسي للفترة حتى عام 2030. وفي إطار هذا الاجتماع، جرى توصيف بكين وموسكو على أنهما يتصدران " أكبر تهديد للنظام العالمي القائم على سيادة القانون". وسبق أن وصفت الولايات المتحدة الصين، في شهر ديسمبر\كانون الأول الماضي، بأنها "أكبر تهديد للديمقراطية والحرية في جميع أنحاء العالم".

وتجدر الإشارة الى أن إدارة بايدن كانت قد شنت هجوما عنيفا على روسيا والصين بنشرها في مارس\اذار الماضي وثيقة منهجية تعرف، بالدليل الاستراتيجي للأمن القومي، الذي يعطي الأولوية لـ "مواجهة الصين وروسيا والدول الاستبدادية الأخرى". وقد صدرت هذه الوثيقة بعد يوم من فرض الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي عقوبات على روسيا بسبب اتهامها للأخيرة بتسميم وسجن المعارض الروسي أليكسي نافالني. وفي 17 مارس\اذار، وسعت واشنطن العقوبات على روسيا، وشددت الضوابط على الصادرات. وفي نفس اليوم، وصف بايدن، في لقاء متلفز، الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على أنه "قاتل".

كانت الصين أيضًا هدفًا لزيادة العقوبات الأمريكية عليها في شهر مارس\اذار الماضي، حيث وسعت الولايات المتحدة العقوبات التي فرضتها على المسؤولين الصينيين العام الماضي بشأن قانون الحكم الذاتي في هونغ كونغ وأضافت 24 شخصية رسمية صينية إلى القائمة. حدث هذا قبل يوم من المحادثات الامريكية الصينية في ألاسكا، التي جرت في 18-19 مارس\اذار، كأول اجتماع مباشر بين المسؤولين الأمريكيين والصينيين خلال رئاسة بايدن وكما تبين فيما بعد، كان للعقوبات أثر كبير في إضفاء أجواء متوترة على المحادثات.

كل هذا يشير الى أن المحاولات الأخيرة من قبل الصين وروسيا لتحسين العلاقات مع الولايات المتحدة بعد انتخاب جو بايدن رئيسا للولايات المتحدة ألأمريكية، قد ذهبت سدى. فبدلا عن التعامل الإيجابي مع تلك المحاولات، أرسل بايدن مسئولين أمريكيين كبار في رحلات دبلوماسية لإقناع اليابان وكوريا الجنوبية والهند بالانضمام إلى التحالف الأمريكي ضد "السياسة العدوانية" التي تمارسها الصين. وجرى توقيت تلك الزيارات لتأتي في أعقاب القمة الرسمية الأولى للحوار الأمني الرباعي، حيث ناقش قادة اليابان وأستراليا والهند والولايات المتحدة "السياسة العدوانية" للصين في منطقة المحيطين الهندي والهادئ وتعهدوا بالتعاون في دبلوماسية اللقاحات وتطوير شبكات 5G وغيرها من تقنيات لمقاومة تأثير الصين.

في المقابل، كانت زيارة لافروف للصين بعد انتهاء رحلته إلى الشرق الأوسط أكثر من مجرد حدث دبلوماسي عادي. فمنذ سبتمبر\ايلول من العام الماضي، كان الدبلوماسيون الروس والصينيون على تواصل شهري منتظم، أجروا خلاله خمس مكالمات هاتفية على الأقل، مما يشير إلى مستوى التنسيق في العلاقة بين الطرفين.

خلال المحادثات التي عقدت يومي 22 و23 مارس\اذار، شدد لافروف ووانغ على أن التعاون بين روسيا والصين لا يزال قويًا ونشطًا. وأن كلا البلدين "يعارضان الألعاب الجيوسياسية والعقوبات غير القانونية أحادية الجانب". ورفض وانغ خلال محادثاته مع لافروف "الأكاذيب" التي تروجها "حفنة من القوى الأوروبية" ضد روسيا والصين، وأدان أي محاولات للتدخل في الشؤون الداخلية للبلدين. بالإضافة إلى ذلك، حذر لافروف الدول الغربية، بأجنداتها الأيديولوجية، من أنهم "يقفون في الجانب الخطأ من التاريخ".

كما أكد لافروف ووانغ أن بلديهما يحافظان على نظام دولي قائم على القيم الإنسانية العالمية والديمقراطية والمساواة والحرية، وأبرزا أهمية دور الأمم المتحدة في النظام الدولي القائم. علاوة على ذلك، ناقش وانغ ولافروف، بناء على مستجدات الوضع الدولي، ضرورة الإعداد لمفاوضات على أعلى مستوى، ووافقوا أيضًا على تمديد معاهدة الصداقة الروسية الصينية الموقعة في عام 2001. بالإضافة إلى ذلك، قال لافروف، ردا على دعوة بايدن التي أشرت اليها أعلاه، إن على موسكو وبكين "حشد الدول ذات التفكير المماثل" لدعم مبادئ الأمم المتحدة.

خلال المحادثات في ألاسكا، كشفت الصين عن تهافت القيم الديمقراطية ألأمريكية في قضايا كالعنصرية وحق التعبير والاقتراع العام. فرداً على وصف واشنطن لكلا البلدين، روسيا والصين، بالسلطوية واتهامها بكين بارتكاب إبادة جماعية في شينجيانغ، وضعت موسكو وبكين الولايات المتحدة في دائرة الضوء في ملف حقوق الإنسان بسبب التاريخ العنصري للدولة ألأمريكية، الذي كان من تبعاته انطلاق حركة " حياة السود لها أهمية".

يتفق الخبراء الروس والصينيون على أن زيارة لافروف عملت على تعزيز التعاون الاستراتيجي بين البلدين إضافة الى أهميتها الدولية. فعلى سبيل المثال، أكد إيغور دينيسوف، كبير الباحثين في معهد الدراسات الدولية في MGIMO، أن الاجتماع "بشرى سارة للعلاقات الروسية الصينية والعالم بأسره، ويعكس محاولات لبعث الاستقرار في عالم غير مستقر".

وتجدر الإشارة الى أن نطاق التعاون الاستراتيجي بين الصين وروسيا شمل مشروع محطة الأبحاث القمرية، والتجارب السريرية للقاحات المضادة لفيروس الكورونا، والإجراءات التي يمكن اتخاذها لمواجهة أخطار اندلاع "الثورات الملونة" بتحريض وتنظيم غربيين، فضلاً عن التوسع في التجارة والسياحة الصينية في شبه جزيرة القرم. وكما قال وانغ يي، "بغض النظر عن طبيعة التغيرات العالمية، ستتوسع علاقتنا وتقوي في جميع الاتجاهات."

وليس من شك في أن لزيارة لافروف للصين أثرها الواضح في التخفيف من حدة التشنج الدبلوماسي الأمريكي بعد زوبعة التصريحات العدوانية التي أدلى بها مسؤولون رفيعو المستوى في إدارة البيت ألأبيض. وخاصة، ما صرح به الرئيس بايدن نفسه في أول لقاء صحيفي له بعد انتخابه رئيسا للولايات المتحدة ألأمريكية، محذرا فيه من أنه سيتعين على الرئيس الروسي فلاديمير بوتن دفع ثمن سياساته "العدوانية". وفي أول لقاء مع نظرائه الصينيين، قدم وزير الخارجية أنطوني بلينكين لهم مجموعة كاملة من الاتهامات العلنية، تركز على انتهاك حقوق الإنسان. وفي نفس السياق يأتي تحذير رئيس البنتاغون، لويد أوستن، أثناء زيارته للهند، دلهي من الحصول على صواريخ إس -400 الروسية، ملوحا بالعقوبات الامريكية. ومع أن هذه التصريحات أطلقت في ظروف مختلفة (بايدن - في محادثة مستفيضة، بلينكين - في مفاوضات رسمية، أوستن - ردًا على سؤال أحد الصحفيين)، الا أنها تكشف عن الاتجاه العام للسياسة ألأمريكية في زمن بايدن.

ومع أن بايدن وأقطاب ادارته يعرضون أنفسهم على أنهم مختلفون عن ترامب تماما، ومن هنا تكرر شعار أن أمريكا عادت. أي أنها غادرت لمدة أربع سنوات في اتجاه غير معلوم، ثم ها هي تعود كما كانت. على أن هذا العرض ليس دقيقا تماما. فليس هنالك ارتداد كلي عن سياسة ترامب كما يدعون، كما أن سياسة ترامب، بكل استعراضاته الشخصية وفوضاه، كانت امتداد، ولو بخط متعرج، للسياسة ألأمريكية التي سبقته. فمنذ نهاية الحرب الباردة بين الولايات المتحدة ألأمريكية والاتحاد السوفيتي اتجهت السياسة ألأمريكية نحو انشاء نظام عالمي تقود فيه أمريكا العالم بأسره بأقل خسائر ممكنة.

في الواقع، طوال القرن الحادي والعشرين، في ظل ثلاثة رؤساء، كانت الولايات المتحدة تبحث عن مجموعة من الأدوات لتحقيق تلك السياسة، من التدخل العسكري على نطاق واسع تحت شعارات أيديولوجية في عهد بوش الى سياسة التهديد دون الاحتكاك على الأرض بقوات دول عظمى غريمه، كما كان الأمر في عهد أوباما وصولا الى سياسة الضغط السياسي والايديولوجي التي اعتمدها ترامب. واليوم لدى بايدن وفريقه الفرصة للبناء على التجربة الغنية لأسلافهم من أجل اختيار اليات مناسبة لتحقيق نفس الأغراض السياسية.

حتى الآن، بناءً على أحداث شهر مارس\اذار الماضي، يبدو لي أن إدارة بايدن اختارت أن تضيف الى اليات تحقيقها للتوجهات الأساسية للسياسة الامريكية عنصرا أيديولوجيا وسياسيا جديدا قلما استخدمه رؤساء الولايات المتحدة الامريكية السابقين وهو خلق تحالف دولي قائم على تبني مبادئ "الديمقراطية"، أو تحالف الدول "الديمقراطية" في مواجهة الدول "الاستبدادية".

بعبارة أخرى، تعتزم إدارة بايدن تنفيذ توليفة من أكثر الأساليب فاعلية من سابقاتها، من وجهة نظرها، متخلية بذلك عن المظاهر الأكثر دراماتيكية، كالعمليات العسكرية الضخمة أو الافراط بالضغط على الشركاء والحلفاء باعتبارها وسائل غير عقلانية. ولكن ما مدى فعالية هذا الاختيار؟

الافتراض الرئيسي الذي ينطلق منه مهندسو السياسة الأمريكية هو أن الولايات المتحدة تظل دولة "لا يمكن الاستغناء عنها" للعالم بأسره. أي أن جميع الدول دون استثناء، بغض النظر عن علاقتها بالمسار الأمريكي، مجبرة على التعامل مع واشنطن. ومن هنا جاءت فكرة "المشاركة الانتقائية" التي بموجبها، كما يوضح مهندسو سياسة البيت ألأبيض "سنناقش ما نحتاجه مع الدول غير الصديقة، ونكبح جماحها ونمارس الضغط أينما يتطلب ذلك".

تجدر الإشارة هنا الى أنه بالرغم من المكانة الفريدة للولايات المتحدة في النظام العالمي، والتي تمنحها مجال واسع في ترتيب خياراتها لتصنيف علاقاتها بالدول الأخرى وأسلوب التعامل معها، الا ان إدارة الرئيس بايدن بأسلوبها الذي اتبعته أخيرا في تعاملها مع روسيا والصين تخطئ، حسب العديد من المحللين السياسيين، في تقديرها لحجم التغيرات التي حدثت وتحدث في النظام العالمي. وهي غير محقة باستخفافها بقدرة الدول الأخرى، خاصة روسيا والصين، على الرد إن فرضت عليها الدخول في مواجهة مع الولايات المتحدة ألأمريكية وحلفائها. ولنناقش هذا الموضوع بتأني.

أولا، بالنسبة لمسألة وضع روسيا والصين في خانة واحدة كجبهة معادية، يضعف من قدرة الولايات المتحدة ألأمريكية على المناورة في اختيار أساليب المواجهة. فالصين قوة اقتصادية عالمية عظمى لا يستهان بها، كما أن روسيا تملك قدرات عسكرية هائلة، تتجاوز في بعض المجالات المؤثرة قدرات الولايات المتحدة ألأمريكية. وقد أدرك الرئيس السابق دونالد ترامب هذا الأمر بصورة واضحة، وان لم يضعه قيد التنفيذ بسبب المعارضة الديمقراطية الشرسة له.

ثانيا، بالنسبة لجبهة حلفاء الولايات المتحدة ألأمريكية، فإنها تبقى قلقة وغير متماسكة بسبب الخبرة المتراكمة على مدى أكثر من ثلاثين عامًا بعد الحرب الباردة، تبددت فيها ثقة أصدقاء الولايات المتحدة، من خارج حلف الناتو، بالتعويل على مساعدتها في حالة حدوث أزمة خطيرة. علاوة على ذلك فان مصالح الدول الحليفة للولايات المتحدة الامريكية قد تشعبت كثيرا بعد نهاية الحرب الباردة مما دفعها لأن تتخلى عن فكرة الانسجام مع المصالح الجيوسياسية للولايات المتحدة حتى عند التلويح بالعقوبات.

ثالثا، كان العامل الأيديولوجي خلال الحرب الباردة أساسا في تمييز العدو عن الصديق أو غير العدو. أما بعد الحرب الباردة، فلم تعد للعامل الأيديولوجي أية أهمية في تمييز الأعداء عن الأصدقاء، وحتى "القيم" الليبرالية الغربية التي تعكزت عليها أمريكا فقدت بريقها تماما في الفترة الأخيرة، على خلفية ما جرى في الولايات المتحدة ألأمريكية في الانتخابات الرئاسية، يضاف اليها مشاريع الثورات الملونة وموضوع التطعيم ضد فيروس الكورونا وما الى ذلك من احداث كشفت عن وجود معايير مختلفة لتلك "القيم".

على أي حال، فان نتائج تنفيذ الاليات الجديدة للسياسة الامريكية التي اختارها الرئيس بايدن وادارته لا توحي بأنها ستكون ثابتة، بصيغتها التي استعرضتها أعلاه، طيلة الفترة التي سيقضيها بايدن في البيت الأبيض، ما دامت روسيا تتجاهل والصين ترفض بشدة وألمانيا تناور والهند غاضبة من الضغط.

 

د. جاسم الصفار

 

أياد الزهيري: الإله في الأديان والأقوام البدائية (2)

التفاصيل
كتب بواسطة: أياد الزهيري

اياد الزهيريأتضح لنا من خلال الجزء الأول من بحثنا (الأله في الأديان والأقوام البدائية – الجزء الأول)، وهذا لم أأتي به من عندياتي، وأنما هي نتيجة لبحوث ودراسات تاريخية قام بها الكثير من الباحثين، وهي أن أنسان هذه الأقوام قد عبدَ العديد من الألهة بصور محسوسة ومعالم ملموسة، وضمن أطار ما يحيط به من كائنات وظواهر كونية، ولكن تبين أنه يضمر في نفسه أنه يعبد ألهاً كونياً، عظيماً، ذو قوة، وقدرة خارج المألوف، وأنه ذو طبيعة لا تمت لطبيعة الكون المادية، ولا يخضع لقوانين المخلوقات، أنه عالم ما ورائي، وقد عرفنا أن ألانسان البدائي ومن كل الأقوام، وفي كل أتجاهات الأرض شرقاً وغرباً، شمالاً وجنوباً، قد أطلق على الألهه الكوني أسماء مثل (لروح العظيمه، الأله الأعلى، النياما، القوة الأحيائية، القوة المقدسة..) ولكن وكما قلنا سابقاً أن الأنسان أسير قدراته المحدودة، وتجاربه القليلة، وما جُبل عليه من طبيعة من ميل للمحسوس، لذى حاول أن يتخيل هذا الخالق الخفي والمجهول كنهه،أن يجعله يتجلى في بعض مخلوقاته من مظاهر كونية مختلفة، حية، كبعض النباتات، وبعض الحيوانات، وحتى بعض البشر وذلك بسبب حسيتها ووجودها المادي الذي تألفها حواسه، بالأضافة الى قصوره بالتحول من المحسوس الى المتجرد، ولكنه أدرك، وبفعل فطرته وما حمله عقله من مسلمات المنطق العقلي أن أكتشف أو توصل من حالة المعلوم الى ما هو مجهول، وهذا تم من خلال ما أستنتجه بفعل أدوات العقل القائم على قدرة ربط العلاقات، والأسباب بمسبباتها، فكانت طفرة نوعية للانسان في عالم التفكير. بالحقيقة كان هذا الأستنتاج يسجل أول تفكير فلسفي للأنسان البدائي، والتحول الأول في الأنتقال من المادية الى الميتافيزقية . أنه خرج من المحدود الى اللامحدود، ومن المادة الى ماوراءها، وأنها محاولة جريئة بتجاوز موانع المادة الى ما وراءها، وهذه صفه أنسانية لا يتمتع بها غير الأنسان على سطح هذا الكوكب.

بالرجوع الى أصل البحث وفي الجزء الأول منه يتبين لنا ومن خلال الأبعاد الثلاثة (الخوف والرجاء والبحث عن البداية والمصير)، كانت هي الأصل في توجهه نحو الدين ليتمكن من خلاله معرفة الهدف وأدراك الغاية النهائية لهذا الوجود، وتبين لنا أنه توصل وبفعل فطرته النقية الى الوجود المقدس في عمق الأشياء المحدودة من خلال ما يحل بها من قدرة خفية تكون هي السبب والمحرك لكل هذا الوجود الكوني، وأن هذه القوة تمثل له حقيقة غامضة ولكنها تتجلى بما هو محسوس من ظواهر ظاهرة للعيان. هذا التفكير العابر للمحسوس هو الذي دعى بالهنود الحمر في أمريكا في الزمن الغابرأن يعتقدوا بما يسمى (بالكائن الأعظم) أو( الروح العظيمه )، وأنهم لا يستطيعوا تشخيصها، فهي قدرة بالمعنى المطلق، ويطلقوا عليه أسم الواكان، ومن القبائل التي تحمل هذا الأعتقاد هم قبيلة الماندان والهيداستا والداوكوتا والأيوا،وهو في نظرهم قوة فائقة الطبيعة، وهو أله السماء والحاكم للكون، وأن كان في نظرهم أن هناك سلسلة مراتب للألهة ولكن في سلم هرمي يتبوء الكائن الأعظم رأس هذا الهرم، وأن هذا الكائن الأعظم هو محور العالم، وهو من يرفع السماء ويثبت الكون، وما يقدمونه من طقوس فيها التعاويذ والأبتهالات والرقص الا تقرباً لهذا الكائن الخفي عن أنظارهم . ولو أنتقلنا الى مجموعة بشرية أخرى بدائية في القطب الشمالي، نرى هناك ممن يتمسك بما يسمى بالشامانية، وهو أعتقاد يؤمن بوجود الأرواح، وحلولها ببعض الكائنات وخاصة الدببة، وهناك مجموعة منها تسمى بالألغونكية تؤمن أيمان قوي بأله عليّ، ولو أنتقلنا الى جماعات في أمريكا الشمالية والتي تسمى بالشوشونية والفوسيوية والنومية نراهم في مواسم الحصاد يؤدون طقوس الرقص التي تُقدم فيها آيات الحمد للكائن الأعظم، وهذا ما يذكره الأستاذ الباحث فراس السواح في موسوعته تاريخ الأديان في جزءه الثاني. ولكي نثبت تعميم هذا المبدأ نذهب بعيداً نحو الجنوب الأمريكي في كاليفورونيا، فنجد الأقوام البدائية من شعوب  في Ake Hukrant أكده الباحث البوبيلو يؤمنون بكائنات خارقة للطبيعة تكون بعيدة عن تصور العقل كتابه أديان أمريكا الشمالية . أن طبيعة البحث تجبرنا بالأنتقال الى موقع أخر في قاره أخرى لأثبات شمولية الرؤيا، بل وكونيتها، الى مجاهل أفريقيا، حيث نشاهد أن تصورات أديانهم البدائية تحمل رؤى وتصورات متقدمة، ألا وهو أيمانهم بوجود ما يسمى بالقوة الحيوية، وهي قوة كما يدعون كونية لها وجود تسلسلي، ولكن القوة الكبرى فيها والأشمل هي قوة الله، الذي هو قوة في نفسه، يخلق ويبدد الحياة، وأن هناك فروع لهذه القوة في باقي الكائنات الحية، وهذه الفكرة بالحقيقة تقترب في تصوراتها مع فكرة وحدة الوجود التي تبناها بعض الفلاسفه المسلمين، وأن الأقوام التي تعتقد بهذه الفكرة هي أقوام الديولا في أفريقيا، كما يسموها بالنياما (القوة الحيوية) التي هي عبارة عن هرم يمثل الرأس به الله وقاعدته البشر، ولو ذهبنا الى ديانات أخرى في داخل القارة الأفريقية، والتي تسمى بالديانات الفولتية لنجد أن الأقوام البدائية هناك يؤمنون بأله سماوي أزلي غير مخلوق لا تدركه العقول، فهو من يقوم بعملية الخلق، وهو من ينزل المطر، ويحي الأرض وأحياناً يجعلوا مكانه بالشمس، وأحياناً ينزل الى الأرض، وهذه الأقوام تتخلل عقائدهم تصورات أخرى مثل الأيمان بأرواح الأجداد، وعبادتها، وهذا ما يجعل عبادتهم معقدة ومتشابكة وفيها ضبابية، ولكن تبقى هي نتاج عقل بدائي لا يخلو من التخبط والغبش الفكري مادام هو بعيد عن الوحي الألهي كما هو في الأديان السماوية، ولو أنتقلنا الى أقوام أفارقة أخرين وخاصة في غانا الحديثة لرأيناهم يعتقدون بالهه كبيره أم لم يخلقها أحد، ولكنها ذات نموذج قمري وتحمل أسم (أونيام) هنا يمكننا تلمس عند هذه الشعوب البدائيه بين ما هو مجرد وما هو مادي، ونلاحظ أنه رغم أعتقاده بما هو خفي وماورائي ولكنه ينحو نحو ما هو ملموس ومحسوس، ويجعل منه رمزاً وممثلاً له بين البشر، وذلك بحكم تكوين الأنسان الذي تجذبه المحسوسات التي يشعر بأنها تعطيه اليقين الكلي الذي لا يسمح بتخلل نوازع الشك أليها، وعدم تحمله بالذهاب بعيداً في عالم التجريد، الذي يحتاج الى ذهنية يمكنها التحليق بعيداً في عالم الميتافيزيق، والقائم على مقدمات مادية بلا شك، وهذه حالة متقدمة لم تستطع الأنسان البدائي التوصل لها لمحدوديته الفكرية وضعف أدواتة المعرفية، ولكن لا يعني أن الأنسان البدائي ضعيف الخيال بل بالعكس فهو أثبت من خلال ما قدمه من أساطير عديده تنم عن خيال خصب ولكنه خيال غير قائم على تصورات منطقية، فكان خياله عبارة عن تأملات سارحة تبحث عن تفسيرات لا يملك أدوتها العلميه والمعرفية . أن هذا الأمر يمكننا أستيعابه عندما نعرف أن الأنسان البدائي مشغول بشكل كبير بالصيد وألتقاط الثمار، وفقير بالتجربة، ويتمتع بذهنية غاية بالبساطة، وهذا هو ما جعله يخلط المادي بالمجرد، والمحسوس بالامحسوس . كما يجدر بالأشارة الى أن أوربا غير بعيدة عن هذا النوع من التفكير في زمن ما قبل الكتابة، فتراهم تركز شعوبها على الألهه الأم الكبرى، وهي ذات طبيعة أنثوية، ويمثلونها بأشكال بشرية وحيوانية وحتى نباتية، ويضفون عليها صفات ذات طابع ماورائي، فيصفونها بشمائل شمولية، مثل أيهاب الحياة، وزيادة الخيرات، وأنها الحاكم المطلق.

لو حاولنا التدقيق بكل هذه التصورات عن الألهه لجميع هذه الأقوام لوجدنا أن هناك الكثير من المشتركات، فنرى هناك نزوعاً كلياً بأتجاة الدين وأنه سمة عالمية، كما أنه يمثل محوراً مهماً في حياتهم، وحاجة لا يمكن الأستغناء عنها، وأن هناك شبه أجماع على أن وراء كل الألهة التي عبدوها، وبكل أنواعها وأشكالها، هناك قوة أكبر من جميع هذه الألهة، وهي قوة ماورائية عظيمة، ومطلقة. كما تكشف المعطيات أن الفطرة الأنسانية واحدة، وحاجاتها واحدة، وتنزع في ميولها النفسية والروحية بأتجاه واحد، وهو الله سبحانه وتعالى، وأن ما عبدوه، وماجلوه ودعوا له بمختلف الأساليب والممارسات من أمثال الطوطمية والوثنية التي عبدت الصخور الصماء، ومن عبد الكواكب والنجوم والحيوانات والأشجار كلها كانت تقصد من وراء ذلك هو ما أسموه بالروح العظيمة، والسيد الأكبر والقدرة المطلقة، التي لا يمكن تصورها أو تحديدها وحتى أدراكها، وأذا كان هناك من يتصور أن الدين يمثل فترة تاريخية من حياة الأنسان، فكيف لنا أن نفسر وجوده وبقوة في القرن الواحد والعشرين، وفي عصر العلم والتكنلوجيا الفائقة التطور، فليس لنا ألا التسليم والأعتراف بأن الدين حاجة ضرورية لا يمكن للأنسان الأستغناء عنه، بل الأستجابه له من صلب تكوينه. يتبع....

 

أياد الزهيري

 

 

نجيب طلال: في أفـق تنظير للمسرح الكـُوروني؟ (1)

التفاصيل
كتب بواسطة: نجيب طلال

نجيب طلالمَــدخل الفـجـوة: نشير بالقول الواضح؛ أن المسرح في المغـرب لم يؤرخ لـه بعْـد؛ ولن يؤرخ له عن المدى البعيد أو القريب؛ ولا تستقيم له  أية منهجية كانت؟ سواء بالمنهاج التوثيقي أو النوعي/ الوصفي أو الإستردادي/ التاريخي...لأن مسرحنا أساسا يـراوح انوجاده بين المؤتلف والمختلف، وبين الواضح والتلفيق وبين الاختلاق والغامض؛ وبين المعنى واللآمعنى؛ وبين الحقيقة والتضليل؛ وبين التضليل والافتراء.... لأنه ذو تركيبة جـد معـقدة؛ نتيجة التداخل والتهجين والتدليس والتجميع ! إذ يتداخل فيه الإبداعي بالحزبي والحزبي بالمسرحي؛ والفني بالبيروقراطي المسرحي؛ و الإداري بالمسرحي السلطوي؛ والسلطوي بالإداري؛ دون أن نغـفل أن بداية المسرح في شكله العام، كانت فرنسية تحْـت غطاء فرقة جوق التمثيل الفاسي وقدماء ثانوية مولاي ادريس (فاس) وبعْـدها كانت الجمعيات إما تابعة لحزب الشورى أولحزب الاستقلال؛ تحت غـطاء المدارس الحرة؛ وبعدها تمظهر مركز الأبحاث المسرحية تحت إشراف (الإستعمارالفرنسي) والذي شحن أغلبية المتدربين المغاربة على مفاهيم وأنماط التفاعل مع المسرح الشعبي؛ وكيفية توظيفه؛ وبالتالي  كان هو الموجه والمنظم للمسرح بعد الاستعمار....وفي لــحظة تأسيس أحزاب سياسية ذات تـوجه ليبرالي صـرف؛ في أواخر السبعينات من (ق، م) بإيعاز من الدولة لتوطيد النسق الليبرالي في المشهد العام، والذي خلف ردود أفعال سياسية بين الأحزاب التي تعتبر نفسها أحزاب وطنية / تاريخية؛ وما جاء بعَـيد 1976 ما هي إلا أحـزاب إدارية (كوكوت مينـوتية) ففي خضم الصراع  الذي كان وردود الأفعال، التي لم تـقـتصر رحاها في المشهد السياسي/ الحزبي؛ بل امتدت لفضاءات أخرى؛ شبابية / جمعـوية / مدرسية/ جامعـية / ..../ مسرحية / ففي رحاب هاته الأخيرة تمظهر التنظير المسرحي ببلادنـا؛ وهذا الأمر ليس مصادفة  أو من قبيل التقاطع العـفوي أو نتيجة شروط موضوعية فرضتها الظرفية التاريخية؛ بل المسرح في المغرب كان  ولازال تابعا للتيارات الفنية التي  تتسرب من الشرق والغرب . إلا أن أغلب الأعمال المسرحية؛ في حقبة ما بعْـد الستينات من (ق.م) كانت تميل وتحاول تأطير نفسها  في إطار فلسفي وإيديولوجي؛ مفعَـم  بالتحـرر للخروج من شرنقة التبعية والتخـلف (هكـذا كان يبدو لنا) نتيجة الأمل المفقود فيما بعْـد الاستقلال؛ وإن كانت بعض الدراسات تربط المسألة ، بسـبب النكسة العـربية . ومن ثمة هي محاولة البحـث عن [هـوية] حتى أن هنالك من جعَـلها خيارا استراتيجيا ! هـنا نتساءل هل كان خيارا مسرحيا / إبداعيا / فلسفيا؟  أم خيارا سياسيا / ديماغـوجيا / إيديولوجيا؟ وبالتالي فالبحـث عـن الهوية هل كانت  تلزمنا إلا نـحـن؟ ولا خلاف بأن أغـلب المسرحيين العـراقيين والسوريين وبعض من التونسيين؛ قدموا تجارب ومحاولات في إطار التأصيل والبحث عـن الهوية؛ ولكن لم تصغها كصيغ [تنظـيرية] للمسرح بالشكل الذي قـٌدم في المغـرب؟ علما أن تصوراتهم كانت سابقة عما تمظهر في بلادنا؛ ولاسيما أن بعض المفكرين العـرب؛ حاولوا البحث في التراث والهوية؛ فهل توصلوا لنتائج  تطـبيقية ترضي أبحاثهم وقضاياهـم؟ بالعكس فالتراث في شكله المادي والشفوي أضحى يندثر بحكم التحولات العَـولمية؛ وطغيان عوالم التوصل الإجتماعي والنظام الرقمي وقوة الشبكة العنكبوتية؛ دون أن نغفل بأن أغلب الدول العَـربية مازالت ترزح تحت مخلفات الاستعمار بأشكال جديدة ومتعـدّدة، أهمها الاستعـمار غير مباشر الذي يهدف لاستنزاف ما تبقى من الثروات وتسريب التجهيل والتسطيح وسلب الهوية والحضارة

فــجـوة للاستئناس:

لكن السؤال الذي لم يطرح؛ فهل البحْـث عن الهوية العـربية لا ينوجد إلا في [المسرح]؟ فهل فنون القول الأخرى كانت لا تحتاج لتأصيل هويتها والبحث عن الذات؛ لأنها كانت متأصلة  أصلا ؟ وهي في الأصل ذات قوالب وتركيب جمالي وفني  أوروبي صـرف كالمسرح؟ ولاسيما أن قضية البحث عن  (الذات والهوية) ومحاولة استرجاع ملامح الشخصية الوطنية (؟) أساسا طرح إيديولوجي؛ فرضته طبيعة تفكير واستراتيجية الغـرب نحونا؛ لأن العالم العربي منذ انهيار الإمبراطورية العربية الإسلامية إلى يوم الناس هـذا .وهو  منخور وتائه  في عـدة اتجاهات  ومفكك بشكـل محبوك لكيانات محْـدودة القوة وإلى دويلات صغيرة منعَـدمة التأثير في القرار الجيوسياسي؛ وفي المنتظم الدولي . مما انهارت وتلاشت الأحلام والأماني؛ وكـل الإنجازات فشلت واضمحلت؛ بواسطة الهدم والتدمير الممنهج وسط حالة من فقدان التوازن الداخلي في كل قطر عـربي؛ وهناك عِـدة أقطار عربية تعيش أزمات عميقة ومشكلات جـد عـويصة؛ من خلال اللاتوازن والاضطرابات والفوضى العارمة  التي تعْـرفها وتعـيشها يوميا. وبعض الدول تعـيش لحظات الاحتقان واللامنتظر؛ بحيث المشهد أضحى أكثر سوريالية؛ والذي زاده قتامة  ملحمة الخـراب والتهجير والدمار  للروح العَـربية بعَـيْـد الربيع العَـربي؛ إنه لوضع مريب ومُخجِل... ففي ظل كل هذه التداعيات التي نعـيش على إيقاعها يومياً، عبر الصحف ووسائل الإعلام؛ ثمة تساؤلات تطفو على السطح حول المستقبل والمصير؟ وبناء على كل هذا فلا خلاف بأن الإبداع المسرحي لا یمكن أن يمتلك مشروعية  تطوره وتقـدمـه إلا من خلال نظریة فنية / فلسفية / جمالية / في نسق مترابط ومتجادل مع الواقع الإجتماعي/ السياسي/ الثقافي؛ فالجمع بین النظرية والممارسة، مسألة أساس . ففي هـذا السياق فالمسرح العَـربي والمغـربي على وجه أخص؛ عاش ويعـيش – ميتا سوريالي– لأسباب متعَـددة . مسؤول عنها المسرحي بالدرجة الأولى ثم الإدارة في الدرجة الثانية؛ لأن الاتجاه الذي بدأ يسير عليه شق المسرح في المغرب؛ الذي كان أغـلب رواده وممارسيه من العاطلين والمعطلين و الطلبة والأساتذة وموظفي القطاعات؛ راديكالي بفعل تجاذب الصراع  الطبقي الذي أمسى يعانيه الإنسان العَـربي بشكل عام. والذي زاد من حـدة الفعل الراديكالي؛ انخراط طلبة تقدميين وبعْـض من أعضاء الإتحاد الوطني لطلبة المغرب في الجمعـيات المسرحية؛ مما أفرز تيارات سياسية وثقافية وفـنية؛ طرحت من خلالها أسئلة المرحلة المقلقة ، من قلب الفعل الجمعوي. الذي كان موجه سياسيا / حزبيا بشكل أو آخر. هنا تشكل المسرح في معَـسكرين (يسار/ يمين) طبعا فصيل(اليمين) بإيعاز من الإدارة المشرفة عن المسرح؛وبطريقة غير مكشوفة . وخاصة – مركز الأبحاث المسرحية- الذي كان  يضم مسرحيين في المقام الأول؛ وبالتالي فذاك المركز كان يهدف لترسيخ مسرح شعْـبي (مبتذل/ مسطح/ مدجن) من عهد [أندري فوزان/ بيير لوكا /...] إلى ما بعْـد دمجـه في مديرية [الطفولة والشباب] ذلك أنه كان يدرك كل الدراية أن المسرح أداة فاعلة في تنوير الشعـب وتـثقيفـه ، ويمكنه أن يكون محرضا قويا ضد الاستعمار وبقاياه . مما أمست المناورات تجاه المسرح .  يتداخل فيها السياسي بالبيروقراطي؛ بشكل مكثف وملغـوم. و هنا لا يمكن تغـييب الدور السياسي للأحزاب؛ وخاصة الحزب الذي (كان) يتقلد مسؤولية تدبير الشأن الثقافي/ المسرحي؛ وإن كان (ذاك) (المسؤول) يتبع استراتيجية الدولة؛ ففي نفس الوقت يساهم في استقطاب مسرحيين لصفوفه؛ وتقديم امتيازات لأتباعه؛ كنوع من الإغـراء للمعارضين والمتنطعين؛ ويمكن أن نؤطرها في منهجية الضغط عليهم بشتى الوسائل المتاحة لتجعلهم خاضعين لها ولسياستها، لكي تجعـل منهم قناة فنية لتمرير خطابها الإيديولوجي، وذلك حفاظا على قوتهم ومواقعهم؛ ولا  نغالي بأن المبدع أصبح خاضعا لهذه الضغوطات والمضايقات والإقصاء؛ حتى أمسى لا يملك من عرضه إلا الجماليات . وهَـذا ما وقع للعَـديد من المسرحيين ولعـروضهم إلى حـدود نهاية الثمانينات من (ق ، م) لأن مسألة التنظير المسرحي في المغرب ، جاءت لتكسير ما لا يتوافق مع الاتجاه الإيديولوجي للسلطة. وهنا نشير بأن السلطة (كانت) تمارس المراوغة والمناورة  وأحيانا التضييق لتحجيم المسرح؛ ولم تعتقل مسرحيا واحِـدا[وهذا القول: للتاريخ والتوثيق]  حتى أن صفة (هـواة) كانت إشارة كاشفة لتقزيم الممارسة المسرحية؛ وضمنيا تقزيم درجة الوعي السياسي/ الفكري، لدى أغلبية  الهواة المتنورين/ المتحررين؛ الذين كانوا في صف اليسار بشكل أو آخر. هنا المطب فالتيار اليساري؛ خاض معارك ضد التنظيرالمسرحي؛ الذي فيه نفحات وأدبيات[ليبرالية] وقبل التنظير خاض معارك ضد[الجامعة الوطنية لمسرح الهواة] التي كانت الصوت والصدى لتعـليمات (الإدارة / الحزب/ السلطة) حتى أن بعض المسرحيين المحسوبين عن (اليسار) ربما خطأ؛ تقلدوا كراسي فيها؛ وأصبحوا يستأسدون ويأمرون وبتأمرون وتاريخ مهرجان مسرح الهواة شاهد على قبح ووقاحة بعضهم ، وبالتالي فالمهرجان بدوره كان بمثابة سلطة ناعمة؛ تحركه إيديولوجية السلطة الضاغطة؛ والتي كانت تـُفرش وتمهد لتفعيل للبيرالية بشكل مكشوف /اقتصاديا / ثقافيا / لأن العائق في مثل هاته القضايا – المثقف- لأنه متنور؛ ويستطيع أن يؤثر في محيطه؛ وخاصة المسرحي باعتباره القرينة الضدية للسلطة؛ وذو قـدرة وقوة الاتصال الجماهيري. فالسلطة باعتبارها الطرف النقيض  للمسرحي(المتنور/ المتنطع / المتحرر) لا تغفل عن السيطرة على المسرح؛ بأساليبها الخاصة لتحقيق مطالبها عَـبردعم إديولوجياتها؛ من هنا فتأسيس الأحزاب الليبرالية؛ باعتبارها كذلك سلطة في المشهد السياسي والاجتماعي؛ وتمظهر التنظيرات المسرحية؛ ليست مسألة جدلية؛ ولم تكن يوما (مـا) بمثابة مشروع نهضوي تحَـرري حداثي متكامل. بقدرما (كانت) مشروعا سياسيا لتشتيت المسرحيين شذر مدر؛ ولقد تحقق ذلك؛ مما سادت الغيبية والضبابية والعشوائية المتخبطة .  حتى وصلنا إلى إفلاس إبداعي/ مسرحي/ ثقافي/ فكري/.....

يــتبــع

 

نـــجـيب طــلال

 

 

 

عدنان عويّد: الثقافة في المنظور الفلسفي

التفاصيل
كتب بواسطة: د. عدنان عويّد

عدنان عويدالثقافة من حيث المفهوم، أصبحت مع التطور الهائل للعلوم الإنسانيّة، قضية إشكاليّة، بل هي شائكة ومعقدة، حيث راحت تتعدد دلالاتها وفقاً للعلوم التي تتناولها، الأمر الذي أعاق في الحقيقة قدرة الباحثين والمهتمين بالشأن الثقافي، على وضع تعريف أو مفهوم دقيق لها يمكن اعتماده كمرجع لمن يرغب في الاشتغال عليها، إذ تجاوزات مفاهيم الثقافة المئة ونيف. ومع ذلك قد نصل إلى جزء كبير من الحقيقة إذا ما غامرنا في وضع تعريف لها بقولنا: هي كل ما قام الإنسان بإنتاجه تاريخيّا في الجانبين المادي والفكري/ الروحي، والمهاراتي من خلال علاقته مع الطبيعة والمجتمع.

ما أريد التركيز عليه هنا في قضية الثقافة، هو الحقل الفكري (الأبستمولوجيي)، حيث تأتي الثقافة في هذا الحقل، بنيةً فكريّةً تتجلى في أنساق معرفيّة متعددة، كالفلسفة والدين والقيم الأخلاقيّة والأدب والفن ...إلخ. أو ما يمكن تسميته اصطلاحاً بالأيديولوجيا. فهي في هذا المضمار، لا تفرخ مجردة، بل هي نتاج إرادات ونشاطات لأفراد ومجتمعات يتعايشون مع بعضهم، ولهم مصالح ماديّة ومعنويّة تحرك هذه النشاطات، وتفرض عليهم التعبير عنها في أنساق فكريّة قد تكون مباشرة، يمثلها طبيعة الوعي التي تفرضه علاقات الناس اليومية المباشرة، أو تكون ذات نسق معرفيّ عالٍ المستوى، يغلب عليه التخصص من جهة، والبعد الأكاديمي والمنهجي من جهة ثانية.

والثقافة في حقليها المادي والفكري، هي نتاج الوجود الاجتماعي للفرد والمجتمع كما بينا أعلاه، وهي تاريخيّة، أي قابلة للتطور والتبدل في مضمار الوجود الاجتماعي الذي تنشط فيه، بيد أن الثقافة في حقلها الفكري (الأبستمولوجيي)، تظل في حركتها وتطورها وتبدلها، أبطأ بكثير من تطور الثقافة في حقلها المادي، أي من تطور قوى ووسائل الإنتاج، وما يرافق ذلك من عمران على كافة المستويات، كالبناء والزراعة والصناعة والمواصلات وكل ما يحدث من تقدم تكنولوجي، أو ما تحققه هذه التكنولوجيا من تطور على مستوى الطبيعة والمجتمع. وعلى هذا الأساس، نجد استمراريّة انساق البنى الفكريّة القديمة وسيادتها لفترات زمنية طويلة، وهذا حال العادات والتقاليد والأعراف وقيم (الماضي) التي تبقى متداولة بين الناس، في الوقت الذي تجاوز فيه المجتمع الظروف الماديّة التي انتجت هذه الثقافة، والسبب يعود برأيي للتالي:

1- إن التطور المادي (التكنولوجيا وما يرافقها من تطور في الزراعة والصناعة والتجارة وحركة العمران) يتم بصورة أسرع بكثير من التطور الروحي/ القيمي كما بينا أعلاه. وهذا التطور السريع في الجانب المادي على حساب الروحي/ القيمي، يرتبط بالضرورة بحاجات الناس الماديّة والروحيّة أثناء نشاطهم  وإنتاجهم  لخيراتهم الماديّة ذاتها، ففي مجال هذا النشاط المكرس من قبل الإنسان لتأمين حاجاته الأساسيّة من طعام ولباس ومواصلات وغيرها، يدفعه إلى الاهتمام بالجانب العملي أكثر من اهتمامه بالجانب الفكري. وهذا ما يساهم في استمراريّة او ثبات البنية الفكريّة لفترات طويلة، أو بطء حركتها، وبالتالي تكلس وجمود الوعي لدى الإنسان ممثلاً هنا بثقافته الماضويّة، وكذلك بنيته النفسيّة والأخلاقيّة، وحتى السلوكيّة التي تُحكم بالغالب بهذا الوعي، وبهذه البنية النفسيّة والأخلاقيّة الموروثة لدى الفرد والمجتمع،

2- ومن الأسباب الأساس في هذا التفاوت غير المتكافئ بين حقلي الثقافة المادي والفكري، يأتي استخدامنا لوسائل إنتاج ماديّة (تكنولوجيّة) ليست من صناعتنا، وإنما نقوم باستيرادها واستهلاكها، وهنا يحدث الشرخ الكبير بين ما نفكر فيه بعقليّة ماضويّة، وبين ما نتعايش معه من وسائل إنتاج متطورة، لذلك لا نستغرب أن نجد من يحارب الوسائل التكنولوجيّة الحديثة والتطور العلمي المرافق لها، على أنها بدعة وضد عاداتنا وقيمنا وتعاليم ديننا، وهذا ما وجدناه على سبيل المثال لا الحصر، في السعوديّة مثلا عندما اكتشف النفط، وتدفقت الثروات الهائلة التي ساهمت في استيراد التكنولوجيا الحديثة إلى السعوديّة، كالسيارة والطيارة والهاتف وكل ما هو حديث من الوسائل التكنولوجيّة القابلة للاستخدام الفردي أو الجمعي على مستوى نشاط مؤسسات الدولة، حينها وقف رجال الدين من الوهابيّة ضد هذه التكنلوجيا وربطوها بـ (الشيطان الرجيم) الذي يعمل على إفساد الإنسان. ولا نستغرب أن (الباز) مفتى السعوديّة الراحل، لا يقر بدوران الأرض، ويفتي بقتل من يقول بذلك، وإن تاب تصادر أمواله.

إن حالات التفاوت في التطور بين الحقلين الثقافيين المادي والفكري، أدى إلى ظهور نخب ثقافيّة راحت تشتغل باتجاهين مختلفين أيضاً، هما:

الاتجاه الأول: وهو الاتجاه التقدمي، الذي يسعى جاهدا لخلق وعي فكري تقدمي يؤمن بدور العقل وحريّة الإنسان، ومكانته في تقرير مصيره وإعمار هذه الأرض التي نعيش عليها، وضرورة تقبل الحداثة على كافة المستويات الاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة والثقافيّة. وهذا الاتجاه كثيراً ما لاقى ويلاقي الاقصاء والمحاربة من قبل القوى السياسيّة والفكريّة والاجتماعيّة التي لها مصالح ماديّة ومعنويّة في تجهيل الفرد والمجتمع، وتعمية بصيرتهم عما يجري حولهم، وعن إمكانية تغيير واقعهم نحو الأفضل.

الاتجاه الثاني: وهو الاتجاه الذي تمارسه قوى سياسيّة ونخبويّة ثقافيّة، تعمل هنا على عرقلة حركة الفكر الإنساني العقلاني النقدي، والسعي إلى تنشيط وتغذية الفكر القائم على الغيب والامتثال والاستسلام، أو على الحدس والذاتيّة، والدوافع الغريزيّة والنفسيّة، أو الوعظيّة. وعلى هذا الأساس تأتي مسألة قوة وحيويّة الفكر الظلامي الاقصائي والتكفيري أيضاً عند أفراد ومجتمعات العالم الثالث بشكل عام، ووطننا العربي بشكا خاص، وبالتالي عمل هذه المجتمعات عبر فكرها المتخلف والمغوّت حضارياً على محاربة وتدمير نفسها.

 

د. عدنان عويّد

كاتب وباحث من سوريّة.

 

 

ضياء نافع: عن الجزء الثاني لكتاب - الادب الروسي والعالم العربي (3)

التفاصيل
كتب بواسطة: ا. د. ضياء نافع

ضياء نافعنعود – وللمرّة الثالثة – للكتابة عن هذا المرجع الوثائقي المهم في تاريخ العلاقات العربية – الروسية الثقافية، وذلك كي نتوقف قليلا عند الفصل الثاني للكتاب فقط، والخاص بالاديب والفيلسوف الروسي دستويفسكي في العالم العربي، وكما أشرنا في مقالتنا الثانية عن هذا الكتاب، عندما تكلمنا عن الفصل الاول الخاص بتولستوي .

 دستويفسكي ظهر باللغة العربية متأخرا مقارنة مع الادباء الروس الكبار بشكل عام، رغم انه يقف في طليعة هؤلاء الادباء، وكان اول ظهور له (حسب كتاب المستشرقة الميرا علي زاده المذكور) عام 1911 – 1912 على صفحات المجلة الفلسطينية (النفائس)، التي كان يصدرها خليل بيدس، اذ جاء – ولأول مرة باللغة العربية - اسم دستويفسكي و بعض مقولات له ليس الا في مقالة مسلسلة تم نشرها طوال عام 1911 بعنوان – (رزنامة تولستوي)، وجاء اسمه وبعض مقولاته واشارة الى خطابه عن بوشكين عام 1912 في مقالة اخرى ظهرت في نفس المجلة ايضا . تولستوي وتشيخوف وغوركي مثلا ظهروا في العالم العربي اثناء حياتهم، اما دستويفسكي، فقد ظهر بعد ثلاثين سنة تقريبا من وفاته (توفي عام 1881)، وهذه نقطة مثيرة جدا، و تستحق التأمّل والدراسة والتحليل بعمق من قبلنا، نحن العرب، لانها حالة واضحة المعالم تعكس مستوى وطبيعة الثقافة فعلا في عالمنا العربي الحديث، هذا الواقع الثقافي الذي بدأ بالتبلور منذ نهاية القرن التاسع عشر فصاعدا ليس الا. ان الظهور المتأخر لهذا الكاتب الروسي هو أول شئ يلاحظه قارئ هذا الفصل عن دستويفسكي من كتاب – (الادب الروسي و العالم العربي)، اذ يبرز رأسا السؤال في ذهن هذا القارئ عن سبب تأخّر ظهور كاتب كبير ومتميّز مثل دستويفسكي بهذا الشكل، ولا مجال طبعا للتوقف التفصيلي في مقالتنا هذه عند هذا الموضوع غير الاعتيادي والجدير بالدراسة التحليلية من قبل باحثينا، اذ اننا نستعرض هنا – ليس الا - كتاب المستشرقة المرحومة الميرا علي زاده عن الادب الروسي والعالم العربي.

الفصل الثاني (والذي جاء في الكتاب المذكور بعنوان دقيق جدا وهو – حياة وابداع دستويفسكي بعيون العرب) يقع في 133 صفحة بأكملها، ومن الواضح تماما الجهود التي بذلتها الميرا علي زاده في البحث عن المصادر العربية، التي تناولت دستويفسكي في بداية القرن العشرين، وهي جهود فذّة فعلا، اذ ان هذه المصادر تكاد ان تكون شبه منسيّة في عالمنا العربي، ولا يتذكرها القارئ العربي المعاصر بتاتا، رغم انها مصادر مهمة في مسيرة الثقافة العربية وتاريخها، وكم حريّ بنا – نحن العرب – ان نتذكّر تلك المصادر وندرس بعمق دورها في مسيرة الثقافة العربية منذ نهاية القرن 19 وبداية القرن 20، مثل مجلة (المجلة الجديدة)، التي نشرت عام 1929 مقالة بعنوان – في ساعة الاعدام، وفيها رسالة دستويفسكي الشهيرة الى أخيه حول الغاء اعدامه في اللحظات الاخيرة قبل تنفيذ عملية الاعدام وتبديل الحكم الى النفيّ الى سيبيريا، ثم تنتقل المستشرقة للحديث تفصيلا عن ترجمة سلامة موسى لرواية دستويفسكي – (الجريمة والعقاب)، والتي قام بترجمها عن الانكليزية ونشرها على حسابه الخاص لانه لم يجد اي دار نشر لاصدارها، وذلك عام 1914، ويعدّ هذا الاصدار الكتاب العربي الاول لدستويفسكي، وقد طبع سلامة موسى الجزء الاول فقط ويقع في 120 صفحة ليس الا، وفشل فشلا ذريعا بتسويقه، لدرجة انه اضطر في النهاية ان يبيع النسخة الواحدة من الرواية بمليّم مصري واحد فقط كي يتخلص منه، ولم يستمر طبعا باكمال ترجمته للرواية بعد هذا الفشل الذريع . تنتقل المؤلفة بعدئذ – وبالتدريج – للحديث عن المصادر العربية الاخرى التي تناولت دستويفسكي، ومنها مقالة شاملة كتبها الباحث الفلسطيني اديب سعد خوري عنه ونشرها في مجلة (الاخاء) الفلسطينية عام 1931، وتترجم الى الروسية مقاطع كبيرة منها، وتثبت تلك المقاطع – وبلا شك - المعرفة العميقة والدقيقة لهذا الباحث لابداع دستويفسكي، ثم تشير المؤلفة الى مصدر عربي مهم حول ذلك، وهو كتاب حسن محمود، الذي صدر عام 1943 في القاهرة ضمن سلسلة (اقرأ) الشهيرة عن دستويفسكي .

لا يمكن لنا التحدّث عن كل هذه التفاصيل الطريفة والمهمة، التي توقفت عندها الميرا علي زاده في هذا الفصل الخاص بدستويفسكي في الجزء الثاني من كتاب (الادب الروسي والعالم العربي)، اذ ترد هنا اسماء كثيرة لباحثين وادباء عرب كبار، منهم على سبيل المثال وليس الحصر، محمد حسين هيكل ويحيى حقي وميخائيل نعيمه وسامي الدروبي و..و..و، ولكني أود ان أختتم هذه المقالة بالتوقف قليلا عند اسم الدكتور عماد حاتم، صديقي و زميلي في كليّة الفيلولوجيا بجامعة موسكو في ستينيات القرن العشرين، والذي كان نموذجا للطالب الملتزم والمجدّ، واريد رأسا ان أذكر، انه الوحيد بيننا (نحن الطلبة العرب آنذاك في تلك الكليّة من سوريا والعراق ومصر)، الذي تخصص بادب دستويفسكي . لقد تحدّثت المستشرقة الميرا علي زاده عن كتابات عماد حاتم من ص 261 والى ص 273 باكملها، واستشهدت ببحوثه عن دستويفسكي، وترجمت مقاطع مهمة منها، وجاء اسمه (31) مرة في تلك الصفحات، وكم شعرت بالفخر وأنا أقرأ تلك الصفحات، وكلمات الثناء، التي كتبتها مؤلفة الكتاب عن الباحث السوري الكبير الدكتور عماد حاتم، والذي لا اعرف عنه الان – مع الاسف - اي شئ ولا أدري اين هو الان، ولكني أود هنا ان ابعث له بتحياتي وتمنياتي ومحبتي واعتزازي اينما يكون، يا ابن جامعة موسكو البار ورافع رايتها العلمية المجيدة، ويا (رفعة راسنا) ...

كتاب المرحومة المستشرقة الميرا علي زاده الموسوم – (الادب الروسي والعالم العربي) يعدّ مصدرا علميّا مهمّا جدا في تاريخ العلاقات العربية – الروسية الثقافية، ويجب علينا – نحن العرب – ان نأخذه بنظر الاعتبار ونوليه الاهتمام العلمي الجدير به، ونقدمه للقراء العرب، وان نكمل مسيرته الفذّة .....

 

أ.د. ضياء نافع

 

 

قاسم حسين صالح: خالد الشطري شاعر الوطن والفقراء

التفاصيل
كتب بواسطة: ا. د. قاسم حسين صالح

قاسم حسين صالحكنا في ستينيات القرن الماضي عصبة من الشباب تضم ابن أكبر تاجر في الشطرة، وابن رجل دين بارز فيها، وابن فلاّح يجيد قراءة " الأبوذيه" وشاب اسمر صار فيما بعد شاعرا غنائيا مشهورا.. (زامل سعيد فتاح)، وأنا. وعصرا كنا نتمشى بـ(كورنيش) الشطرة من مقهى عبيد الى قصر الحاج خيون العبيد (الذي خصه الملك فيصل الثاني بزيارة في قصره)، لنعبر جسرا صغيرا ونعود في الأتجاه المعاكس.. وكانت (الحلوات) يتمشين ايضا ويتهادين كاسراب الحمام، فنخص بعضهن بنظرة من طرف العين (وشحده) اليتعدى حدوده.

كان زامل وأنا نتبارى بارتجال دارمي حين نرى فتاة جميلة، وكنت في بعض المرات أغلبه واكثر المرات يغلبني.. فعلق أحدهم أن زامل اشطر منك فأجاب.. هناك من هو اشعر مني واجمل ارتجالا.

ظهر اليوم الثاني اخذني الى مصور كان اكبر من كلينا عمرا.. قال هذا الذي قلت لك انه اشعر مني.. فكان (خالد) الذي قرن اسمه بالشطري حبا بمدينته.

سأله: وشسمه الحلو؟.. يقصدني.

+ قاسم

نظر لي وارتجل دارمي:

زامل حلو وحباب   بس قاسم احلى.

وتدور الأيام فاذا بي ارى (خالدا) في مبنى الأذاعة والتلفزيون. أخذته بالأحضان وجلسنا في (كافتريا) الأذاعة.

- شجابك لبغداد ابو علي؟

+ جابني الأقوى مني.. وانت شجابك؟

-  انا اعمل مذيعا باذاعة بغداد

+ معقوله! شيوعي .. وسجنك حزب البعث.. وخاليك مذيع!

وفهمت انه يعمل مشرفا لغويا مع انه لم يحصل على شهادة الأعدادية، ومعه جميل الخاصكي الذي كان ضريرا.. يدخل معنا الأستديو ويصحح للذي يقرأ تقريرا اخباريا او مادة اعلامية.. قواعديا ولفظيا.

ومن طريف ما حصل اننا كنا ستة جالسين بغرفة في القسم الثقافي الذي كان يترأسه الشاعر (العمارتلي) حسب الشيخ جعفر. نظرت للجالسين واندهشت:

+ ولكم تدرون احنه الكاعدين بنص الأذاعة.. كلنا ناصريه!

كان بيننا طالب القرغولي، زهير الدجيلي (رئيس تحرير اشهر مجلة في حينها .. الأذاعة والتلفزيون)،

حسين نعمه، .. وخالد الشطري.

السجن والحرية

من خبرتي الشخصية استطيع ان اقول مقولة (لا تعرف حقيقة الحرية ما لم تعش خبرة السجن).. وخالد الشطري انموذجا لها بوصفه شاعرا.فهو فهو قد خبره في اقسى اماكنه.. (نقرة السلمان) التي امضى فيها عامين، وسجن الكوت مع الصحفي والشاعر الغنائي وابن مدينته زهير الدجيلي، وسجن بغداد المركزي.. وانتهى في العام 1992 الى اعتقاله في الأمن العامة بتهمة التهجم على رئيس النظام، وخرج منها فاقد الذاكرة ليغادر الدنيا بعد اقل من ثلاثة اشهر .

شهادات من كبار

كان للشعر مهرجانات تقام زمن الجمهورية الأولى يصدح فيها كبار الشعراء بقصائد في حب الوطن والناس. وكان خالد قد شارك في مهرجان شعري كبير في بغداد، وبعد ان القى قصائده اعجب به الجواهري فقال له (أتطلع اليك يا شطري مبدعا ومن خلائفي المنتظرين).. وكان كما تطلع، فيما وصفه الدكتور محمد حسين آل ياسين بالشاعر المظلوم نقديا وقرائيا ولم يعط حقه حتى الآن دراسة وكشفا ووقوفا على ابداعه الجميل .. وتعدت شهرته العراق ليصفه الموسيقار العربي فاروق الشرنوبي بأنه من أبرز الشعراء العرب.

وخالد الشطري، بوصف الراحل عريان السيد خلف.. ولد شاعرا، وهذا صحي.. فالشعر موهبة تولد مع صاحبها، ومن مؤشرات ابداعه انه ترك الدراسة مبكرا، كما فعل بيكاسو ومبدعون كثر وجدوا المدارس ليست بمستوى مواهبهم، فغادروها ليبحثوا هم عما يشبع شغفهم المعرفي ويطور ابداعهم في مدرسة الحياة حيث هي التي تصنع الشاعر وليس المدارس ولا الجامعات.

وخالد، بينه والشاعر المصري عبد الرحمن الأبنودي، شبه كبير. فكلاهما وقفا مع شعبيهما، وكلاهما يمتازان بحرارة الأنفعال وصدق المشاعر في تجسيد معاناة المقهورين، لكن الأبنودي سجن ستة أشهر فقط، فيما خالد سجن سنوات، والأبنودي حظي بالتكريم وعاش حياة ممتعة، فيما خالد عاش حياة قاسية ولم يكرمه حكّام يعرفونه حق المعرفة.

خالد.. شاعر متفرّد

ما تفرد به خالد انه كتب ثاني موشح بالوطن العربي من مقام اللامي (أجفوةٌ أم دلالُ.. حيرتني با غزالُ) الذي لحنه الموسيقار روحي الخماش وادته فرقة الأنشاد العراقية، واعتمد مادة دراسية لكل معاهد الموسيقى بالعراق، وفقا لنجله الكاتب والشاعر وليد الشطري.

وانه كان يجيد الأرتجال.فحين سالته طالبة جاءت تأخذ عنده صورة شمسيه بمحله أمام مبنى وزارة الدفاع، ان كان هو نفسه الشاعر الذي وصفه استاذها في محاضرته بالشاعر المبدع المغبون، اجابها ارتجالا:

(نعم أنا ياحلوة الضفيرة .. نعم أنا الشاعر ياصغيرة

نعم أنا المعدم غير اني .. أمتلك الخزائن الكبيرة

أعيش العمر للقوافي .. أكتبها بأدمعي الغزيرة

.. .. .. .)

والشاعر نبي زمانه، بمعنى انه يتنبأ بما سيحدث فيقوله شعرا.. ففي الألفية الثانية قال خالد:

(حيوا الحسين عدو كل منافق .. باع الضمير بزرقة الدينار). وقال في مناسبة المولد النبوي:

(حاشاك أن ترضى وانت محمد .. شعب يصاد وواحد يتصيد).. وهذا ما حصل للعراقيين في الألفية الثالثة، حيث باع كثيرون ضمائرهم ونهبوا المليارات بينهم من يدّعون ان جدهم محمدا وامامهم الحسين.

الكاظمي يبادر .. والنتيجة خيبة!

وفقا لما نشر في (الزمان) فان دولة الأخ مصطفى الكاظمي وجهّ مكتبه بمتابعة ملف الشاعر خالد الشطري. ولكن المبادرة توقفت لأنه لا توجد وثائق او كتب تؤيد أنه كان سجينا سياسيا برغم مراجعات نجله وآخرين الجهات المعنية، ليمنح راتبا وقطعة أرض (بالمناسبة.. انا، وآخرين، سجناء سياسيين ولم نحصل على قطعة أرض).

ولنقل، لنعفي السيد الكاظمي من منح الراحل راتبا وقطعة أرض لأنه لا يمتلك المستمسكات المطلوبه التي تخوله ولا تساءله.. ولكن خالد شاعرا كبيرا كتب قصائد في حب الوطن والناس وغنى له مطربون اغنيات بحب بغداد والعراق.. ومستمسكاتها موثقة.. أفلا يستحق التكريم لمن غنى للوطن والناس؟.ألم تصدح مائدة نزهت بأغنية (هذا انا الوطن)، ومهند محسن بقصيدة بغداد، وانوار عبد الوهاب وفاضل عواد.. والفنان الملتزم الكبير لطفي ابو شناق الذي أشجانا وابكانا بقصيدة خالد (ما للمدينة أغلقت ابوابها)..

الا يكفي هذا يادولة رئيس الوزراء ويامعالي وزير الثقافة لتكريم شاعر فيه تكريم لمدينته الشطرة ولوطنه العراق ولكل من وقف بوجه الطغاة مجسدا مقولة الحسين.. هيهات منّا الذّلة؟!

عتب لاهل الشطرة.. ودعوة

اعجبني اهل مدينة الحلة بنحتهم تمثالا لشاعر مدينتهم (موفق محمد) ونصبه في مكان بارز، ليعيش موفق هذا التكريم وهو حي.. وكان على اهلنا في الشطرة اقامة تمثال لخالد منذ زمن.ومع ذلك، ما تزال الفرصة قائمة، بتشكيل لجنة، يكون فيها الأتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق، تقوم بتوجيه الدعوة للتبرعات من اهلنا في الشطرة ومحبيه في داخل الوطن وخارجه. واقترح ان يتم نصبه مقابل مقهى عبيد في رأس الجسر الذي يتوسط المدينه.. يكتب تحته بيته الشعري:

(الارض أرضي والتراب ترابي& فعلام تسلب من يدي أتعابي)

ليكون رمزا لكل من لم يحني رأسه لطاغية، ولتتباهى به الشطرة.. مدينة الفنانين والأدباء والمناضلين والشعراء.

*

ا. د. قاسم حسين صالح

 

 

نابي بوعلي يحاور نبيل ياسين حول: مكانة الأخلاق في عالمنا اليوم

التفاصيل
كتب بواسطة: د. نابي بوعلي

2365 نبيل ياسين 2هذه الأسئلة يوجهها الأستاذ الدكتور نابي بوعلي (استاذ فلسفة جامعة مصطفى اسطمبولي، معسكر،الجزائر) الى د. نبيل ياسين

س - ماهي الأسباب التي دفعتكم للأهمام بفلسفة الأخلاق؟ ومن هي المذاهب والنظريات الأخلاقية التي أثرت في تفكيركم سواء الاتفاق معها او نقدها، اقصد مثل مذهب المنفعة، أخلاق الواجب، مذهب التطورية الأخلاقية، مذهب النسبية في الأخلاق، المذهب البرغماتية، وهكذا...؟

ج- فلسفة الأخلاق موضوع تم اغفاله في عالمنا العربي. وحتى لو عدنا الى تراثنا العربي والإسلامي سنجد ان موضوع الاخلاق قد توقف باغلاق باب الفلسفة بحجج دينية منذ عصر الوزير السلجوقي نظام الملك. وحتى على المستوى الديني فان الاخلاق والعدالة والحق لم تبحث بالمستوى المطلوب. وما تفضلت به من ذكر المذاهب والنظريات الأخلاقية هي جهود غربية ماتزال معزولة عن واقعنا العربي والإسلامي. فمن يبحث اليوم، من الباحثين الإسلاميين، أخلاق الواجب، باعتبارها جزء من نظرية الأوامر الإلهية على الأقل.

الاهتمام بفلسفة الأخلاق يقتصر على الأقسام الفلسفية في الجامعات باعتبارها درساً. ونادرا ما قدم لنا هذا الدرس تيارا مهتما بفلسفة الاخلاق، او انتج تطويرا لفلسفة الاخلاق بعيدا عن شرحها وشرح ما قدمه الفلاسفة الغربيون. ولكن لا يمكن الاهتمام بفلسفة الأخلاق بمعزل عن الفلسفة نفسها، الفلسفة التي يفتقر اليها عالمنا العربي والإسلامي على صعيد ترابطها مع شبكة منظمة ومتواصلة مع التطور الإنساني سواء في النظام السياسي الحديث او في المبادئ الليبرالية او في القوانين الأخلاقية التي تحقق المساواة والعدالة والتسامح الديني والتعايش الاثني بعيدا عن (الفرضيات) الدينية والايديولوجية التي تروج لمثل هذه المبادئ دون ان تحققها.

لا استطع ان انتمي لمذهب محدد او نظرية بذاتها لسبب بسيط جدا وهي انني باحث في فلسفة الأخلاق. كما انني لا أحبذ الإنتقائية والميل الى أفكار محددة او نظريات، وانما أسعى لمعرفة ظواهر الوجود بما في ذلك الوجود الغيبي الذي اوجدته الفلسفة في تاريخها لما اسمته الميتافيزيقا. ان الاخلاق الميتافيزيقية ليست نقيضا للأخلاق الطبيعية من حيث كونهما افتراضا، وانما تتحدد الفروق بما بعد هذا التصنيف قدر تعلق كل من الاخلاق الميتافيزيقية والأخلاق الطبيعية بالحقوق وموقع الفرد في كل منها، إما باعتباره فردا مستقلا يملك الارادة او فردا يتطوع في سياق الأيمان بواجب الخضوع لإرادة خارجية.

هذا يتعلق أيضا بالدين باعتباره ملزما لفرض الأوامر الإلهية التي يعطي ضرورة بسطها لسلطة مشتركة من السلطة السياسية وسلطة رجال الدين، لنصل الى مفهوم للدولة مرتبط بهذه الأوامر بغض النظر عن جوهر الفضيلة والخير.

ينطلق ارسطو من مفهوم الخير ويعتبر الدولة اجتماعا خيـرا او اجتماعا من اجل الخير

(كل دولة هي بالبديهة اجتماع، وكل اجتماع لا يتألف الا لخير مادام الناس، أيا كانوا، لايعملون ابدا شيئا الا وهم يقصدون الى ما يظهر انه خير، فبين إذن ان كل الاجتماعات ترمي الى خير من نوع ما) (ارسطو، السياسة، ترجمة احمد لطفي السيد، المركز العربي للابحاث، الطبعة الاولى للمركز ٢٠١٦ صفحةً١٣٥).

في هذه الحالة تنطلق الدولة من الفضيلة، وهذا افتراض لأن الخير في الدولة، على الصيد الواقعي. قليل او معدوم. هكذا نتوصل الى إن الاخلاق افتراض يسعى الى الخير ويفترض الالتزام بهذا الافتراض من اجل ان يعم الخير وبالتالي ان تتقلص الى اقصى حد الشرور والآثام.

س ـ هل تنكرون أم تؤيدون أن هناك معرفة أخلاقية موضوعية، وإذا كان الأمر هكذا ما هو تبرير ذلك أوما هو ردكم على من ينكرها أو يؤيدها؟

ج- الأخلاق فعل. ولكن هذا الفعل ليس إلزاميا. انه سلوك طوعي طبيعي للفرد يتناسب مع العرف الاجتماعي السائد عن الأخلاق باعتبارها خيرا وفضيلة لصالح ضمان تفوق الخير على الشر. لكن ذلك الفعل يحثنا على التساؤل المشروع عن ميزان قوى الخير مقابل ميزان قوى الشر. إذ يبدو، من خلال تأثير الأخلاق على الواقع البشري إن الأخلاق كانت وماتزال حالة دفاع ضد قوة الشر السائدة في الحياة. سواء في مؤسسات الدولة أو في مؤسسات المجتمع.هذا، ربما يجعلنا نعتقد ان هناك معرفة أخلاقية موضوعية بما في ذلك تقييم اخلاق المنفعة.

الوظيفة الأساسية للأخلاق هي فعل الخير كذلك؟ أي ان تكون الدولة أخلاقية، لا تنتج القيم الأخلاقية، وإنما تلتزم بها وتحرص على ان تكون سياستها ضمن الخير الأخلاقي. لكن ما هو الخير بحد ذاته أيضا؟ هل هو كل مظهر او فعل مقبول من اغلبية الناس، باعتباره يعود عليهم بالفائدة؟ فهل تكتسب الأخلاق مشروعيتها من إجماع إجتماعي، يشبه ما نطلق عليه العقد الإجتماعي المختلف عن عقد روسو؟

لماذا نبدأ بالدولة ونحن نتحدث عن الاخلاق؟ لأن الدولة نتاج تجمع بشري، وهذا التجمع او الاجتماع يكشف لنا طبيعة التوظيف الأخلاقي بشكل أوضح. فالمجتمع، في هذه الحالة، هو الذي يعطي الأوامر الأخلاقية. ولذلك فان العقد الاجتماعي هو عقد أخلاقي ملزم. وروسو حين يصف التحول من دولة الطبيعة الى الدولة المدنية بانه علامة بارزة على التحول في الانسان (jean -Jacques Rousseau. On The Social Contract.Dover Thrift editions.2003.p12) فإنه يفترض ان الخروج من حالة الطبيعة هو خروج الى أخلاق مرتبطة بالعقد، أي مرتبطة بالتاريخ الملازم لتحول الانسان. لكن التاريخ اذا كان ثابتا ويسير على هيئته المستقرة فان الاخلاق تصبح خارج التاريخ، وبالتالي لا يمكن ان ترتبط بالدولة لان الدولة، باعتبارها تجربة تاريخية ثابتة لم ترتبط بالأخلاق، فالتاريخ باعتباره محركا للحاضر لا يتطلب حضور الأخلاق، لأنه كان لا يملك فلسفة أخلاقية.

لكن ما هو معيار التمييز بين الخير والشر في الأخلاق؟ هل هو العقل أم الأوامر الإلهية التي توجه نحو الخير؟ هل الاخلاق (عدوى) على حد تعبير نيتشه (نيتشه. جينالوجيا الاخلاق. ص ٨٤) وان هناك (فعل) لبث عدوى الاخلاق؟ بمعنى أن هذه العدوى هي فعل توافقي مشترك لعقد بين الناس لفعل ما هو خير قدر ارتباط الأخلاق بالخير. ان (العيب) هو نقيض الأخلاق

في هجائية نيتشه المسماة (جينالوجيا الأخلاق) لا يصف الأخلاق الا بكونها (كل ما احتفي به على الأرض بوصفه أخلاقا)(ص٣٣). ورغم تهكم نيتشه فالأخلاق هي الاحتفاء بالخير باعتباره عقدا مشتركا بين الناس وبين مجتمعهم.وهو يميز بين حكمين مسبقين: الحكم المسبق اللاهوتي، والحكم المسبق الأخلاقي (ص٣٤). وبمان الحكمين سابقين للإطلاق على السلوك الإنساني المرتبط بقيم مسبقة فانهما حكمان افتراضيان، نبعا من اتفاق افتراضي عن (منظومة) معيارية.

س ـ هل تعتقد أن مشكلة المعيارية ستُحل إذا تمكنا من إيجاد مبادئ تفسر حقيقة وحال أحكامنا التي تعبرعن أفكار مهمة من الناحية الأخلاقية. ولكن ماذا لو فشلت المبادئ التي تفسر بشكل أفضل حقيقة وحال أحكامنا في تجسيد الأفكار المهمة من الناحية الأخلاقية؟

ج- بما ان المعيارية ليست مطلقة، وفي بعض الأحيان فإن المعيارية اذا ما تعلقت بأخلاق المنفعة، فإنها لا يمكن ان تقيس لنا مدى الشرعية الاخلاقية التي ترافق الحرب والغزو والاحتلال. والمعيارية هنا هي قاعدة تبريرية، وهذه القاعدة تقوم عليها (مبادئ العنف) اذا جاز لنا هذا الاستخدام. ليست الأديان وحدها ما تتحمل المنطقية المعيارية، فالأنسان يشن الحرب ثم يقوم بالسبي والقتل والاغتصاب واباحة ما نعتبره اخلاقا خيرة وعامة، اي الاخلاق التي احتفينا بها كأخلاق بتعبير نيتشة او كأخلاق باعتبارها امرا إلهيا. وفكرة نيتشة واقعية وهي تحيل الى أنساب الاخلاق، باعتبارها صناعة انسانية، او عقد بين افراد المجتمع للإتفاق على منظومة معيارية. ومن هذا الاتفاق تنشأ مشكلة المعيارية. اما الأخلاق في الدين فتحصل على معيارية مزدوجة، فما هو احتفاء دنيوي بالأخلاق يتحول الى احتفاء ديني. وتتحول الأخلاق من معيارية خيرية فضائلية الى معيارية تجارية.وموضوع الاستعباد او الاسترقاق وبيع الانسان الحر كعبد لقاء المال لا يجد استهجانا او تحريما دينيا تبريرا لهذه المعيارية.

تنطوي العدالة في المنظومة الاخلاقية باعتبارها خيرا يحقق المساواة ويحفظ الحقوق. وبذلك تدخل الاخلاق، من هذا الجانب، في مقاصد الشريعة. لكن ما نراه هو العكس، فما هو موقع المعيارية في هذا الشأن؟ فالشريعة في هذه الحالة تتحول الى معيار فضفاض. فالمقاصد موجودة بمعيار الشريعة ولكنها ليست موجودة كمبادئ قادرة على حل شرعية واخلاقية احكامنا.

يحفظ لنا تاريخ الاسلام ورقتين مهمتين سميتا محنة القضاء في الإسلام. الأولى في العهد الاموي حين رفض كثير من المثقفين المسلمين تولي القضاء للأمويين باعتبارهم يمثلون سلطة غاشمة لا تحترم استقلال القضاء وتتدخل فيه، منهم سفيان الثوري والحسن البصري وإياس بن معاوية وعامر الشعبي وغيرهم. والثانية في زمن مزدهر هو العهد العباسي حين تعرض القضاة، بسبب الفكر الإعتزالي، الى ان يقبلوا شرط المعتزلة، الذين تبنى المأمون افكارهم، بالإيمان بخلق القرآن. فأين دور المبادئ القادرة على تحسين أفعالنا او دور المعيارية في تحسين العدالة واستقلال القضاء؟

فحين نقول عن فعل ما انه عمل انساني فنعني انه عمل أخلاقي. وحين نقول لا انساني نعني انه لا أخلاقي. وبذلك نحيل الاخلاق الى الطبيعة الإنسانية. فالإنسان مصدر الاخلاق الطبيعية.

هنا نعثر على (معيار). فالأخلاق معيارية (ثابتة عند الغزالي). فلا يمكن ان يرتبط الشرف بالطغيان، ولا يمكن ان يرتبط الانسان النبيل بالسرقة والاستيلاء على حقوق الاخرين ولا بالتمييز والعنصرية وممارسة عدم المساواة بأي شكل. فمن الاخلاق ومن العدالة معا احترام الهويات رغم أهمية اندماج المهاجرين مثلا في المجتمعات التي هاجروا اليها. وهناك انشغال بهذا الشأن من قبل المفكرين المعنيين بسياسات الاختلاف

(Brian Barry. Culture &Equality.. Polity.Cambridge-Oxford 1998.P77)

ليس هناك تجزئة بين عناصر المنظومة الأخلاقية في الفكر الليبرالي المعاصر. انها منظومة مترابطة إلزامية للنظام السياسي بالدرجة الأولى، باعتباره مسؤولا عن الالتزام بالعقد الاجتماعي. وفي الوقت الذي ماتزال (الاحكام) الدينية تمارس التمييز في المجتمعات الدينية الإسلامية، مثل حكم (الذمي) و(الردة) وزواج القاصر، فان الاخلاق الدينية نزلت الى الحضيض تجاه الكرامة والحرية والاعتبار الإنساني وانعدام العدالة والمساواة وممارسة التمييز والاحتفاظ بأشكال مختلفة من العبودية والقهر وتعظيم وتمجيد الاستبداد والدكتاتورية بمختلف مصادرها العائلية والعشائرية والعصبوية المدنية والعسكرية والحزبية وتصرف الزمر بمختلف أنواعها بالقانون وفق مصالحها اطماعها وأهوائها..

س ـ كيف يبدو لكم سؤال الأخلاق في عالمنا اليوم؟

ج- اعتقد ان سؤال الأخلاق سؤال أنطولوجي اذا صح التعبير. لنأخذ ورطة آدم في السردية الدينية ودلالتها الأخلاقية.. اراد آدم ان يصنع بشرية وأن يواصل النمو البشري فوقع في المحظور الأخلاقي. فقد كانت البشرية مكونة من آدم وحواء وابنائهما، ذكورا وإناثا. يخبرنا الفقهاء، وليس القرآن، انه زوّج ابناءه وبناته من بُطُون مختلفة. بمعنى انه زوج الإبن من البطن الأولى للبنت من البطن الثانية، وهكذا. اي انه جعل فارقا زمنيا لا غير. ويكون الزمن بهذا التسلسل قد حل الورطة الأخلاقية بسبب الضرورة. ومعيارية آدم هذا انتفت الحاجة لها فيما بعد. لكننا لا نعرف على وجه الدقة، وفق نظريات الأنثربولوجيا، ما اذا كان زواج الاخوة قائما قبل التاريخ الأمومي؟ فاذا كانت البشرية بحاجة الى أخلاق فان المزاج النفسي في هذه الحالة قد لعب الدور الحاسم، اي الشعور النفسي بانه ليس هناك انتهاك، أو فعل لا أخلاقي. اي ان الأخلاق الآدمية هي للتخلص من الشعور بالذنب الناتج عن الدنس. اي فعل الفضيلة. ومن جهة اخرى، نعلم، من السردية الدينية ذاتها، إن آدم قام بانتهاك الوصية الإلهة، او الأمر الإلهي، وارتكب معصية. اي انه لم يلتزم بالأوامر الالهية ونواهيها، انه انتهك الجانب الأخلاقي. وبموجب هذا الانتهاك استحق العقوبة. فالأخلاق من ناحية، شعور بالراحة النفسية لعدم الشعور بالذنب، ومن الناحية الأخرى فان العقوبة هي تكريس الشعور بالذنب.

يبدو اننا نعيش ورطة آدم اليوم. وعلينا ان نجتهد لخلق معيارية من نوع ما. فنحن ورثنا معيارية الاستبداد باعتباره أساس الحكم، وباعتباره الذي يحقق مقاصد الشريعة. فكيف نجمع معيارية الاستبداد ومعيارية الاخلاق ونحن نتحدث عن ضرورة الدخول في الحداثة التي وضعت الاخلاق في وظيفة ضميرية وقانونية. أي ان الحداثة جمعت بين الطوعية الاخلاقية والالزامية الاخلاقية. وفي الحالين تربط الحداثة بين الأخلاق والقانون. سواء كان القانون الطبيعي او القانون الوضعي.اذ يذهب عدد من فقهاء القانون الى ان القانون مجموعة من النصوص المتعلقة بسلوك الانسان والتي يفرضها الله او الطبيعة، وان الهيئات البشرية التي تضع القواعد المعينة وتنفذها ينبغي ان تقترب من الأسس الأزلية والثابتة عن الخير والشر (اوستن رني. سياسة الحكم. ترجمة د. حسن علي الذنون. المكتبة الاهلة. بغداد ١٩٦٦. ج٢ ص٢٠٧).

ولذلك تضمن الدستور الأمريكي في ديباجته الحرية باعتبارها هبة إلهية. أي معطى أخلاقي لا يجوز انتهاكه دنيويا. الحرية جوهر أخلاقي. وبهذا يكون انتهاكها فعلا لا أخلاقيا. يدفعنا هذا التفكير الى أهمية الأخلاق ومكانتها الجوهرية في عصرنا باعتبارها (معيارا) لحقوق الإنسان السياسية والاجتماعية والإقتصادية. فصكوك فيينا الخاصة بهذا الشأن والصادرة عام ١٩٦٦ ملزمة أخلاقيا للجميع. لكن هذا الإلزام كان في ذهن المشرع وفي فكره وتفكيره، ولكننا لم نشهد مرحلة، خاصة خارج حداثة الغرب، قد التزمت بالمسؤولية الأخلاقية، بما في ذلك توفير المستلزمات الأساسية للعيش مثل الطعام، وللطفال، بشكل خاص، في زمن السلم فكيف بتوفيرها في زمن الحرب؟

ان مكانة الأخلاق في عصرنا متدهورة. هي موجودة في النصوص ولكن ليست هناك ضمانات متوفرة لتحقيقها وتطبيقها. فلا يكفي النص في القانون (والقانون هنا بمثابة الأخلاق) على الحق دون ان تتوفر الضمانات اللازمة لتحقيق القانون، مثل سيادة القانون واستقلال وعدالة القضاء، والأيمان بالتعددية والتسامح وقوة الرأي العام وسلطته وقوة المجتمع المدني بدون هيمنة المجتمع السياسي على نشاطاته كما يحدث في عدد من تجاربنا العربية. فمجال المجتمع المدني ضرورة قصوى لجعل المجتمع السياسي ملتزما بالقانون والأخلاق.

أليست صفات الاخلاق هي صفات القانون أيضا؟ ولكن ماذا يعني ذلك؟ ان علينا دراسة الاخلاق والتخصص بها مثل دراسة القانون والتخصص به. فنحن مازلنا، على كثرة من درسوا القانون وتخصصوا به نفتقر الى العدالة. مثلما نفتقر الى الأخلاق.

2365 نبيل ياسين

س - لماذا لا يزال الإنسان يعاني من المآسي بالرغم من كل هذا الإرث الأخلاقي الذي خلفه التاريخالبشري؟

ج- في دراسة سابقة لي عن التاريخ والفرد تبحث في هيمنة التاريخ، بما يمكن ان اسميه The Hegemony of History بمفهوم الهيمنة الغرامشي والذي تبناه فوكو حول الهيمنة الأيديولوجية في اجهزة الدولة الأيديولوجية، فأننا، في المنطقة التي تعيش خارج الحداثة، مازلنا نعيش في التاريخ. ونعاني من القدسية التي يتمتع بها التاريخ. فالتاريخ لا يتركنا ويهيمن على وجودنا، بحيث يتم محاكمتنا وتصنيفنا وفق منطق التاريخ. ان احد اهم أسباب رفض الحداثة، بما فيها النظام السياسي، الديمقراطي والعلماني، هو التاريخ. وخاصة تاريخ الخلافة الذي كرس نفسه في النظام السياسي العربي الحديث من خلال شخصية الخليفة المتسلطة والاستبدادية والمتفردة والذي يملك، دينيا وسياسيا، حق السلطة التنفيذية وحق السلطة التشريعية معا. وهذا مجسد في نظام الطغمة الحزبية والعشائرية والعائلية والعسكرية، وهذا، بذوره، كرس ما اسميه (الأخلاق الطغيانية) في الحكم وامتدت الى العائلة والمجتمع الذي يملك سلطة الاخلاق الطغيانية في فرض الاخلاق.

ان موضوعية الأخلاق او ذاتيتها موضوع نسبي. لنأخذ امثلة واقعية وتاريخية. في اثينا كما يذكرمونتسكيو هناك اخلاق ذاتية فرضتها الأرستقراطية اليونانية. وفي عالمنا المعاصر، وبعد الحرب العالمية الاولى والثانية ظهرت مباديء القانون الدولي، وهو يعتبر قواعد أخلاقية بين الأمم والدول. في اتفاقيات جنيف لعام ١٩٤٩ وضعت قواعد أخلاقية، لنأخذ واحدة منها وهي اتفاقية الحق في مشاركة المصادر الطبيعية بين المتحاربين، ومنها حق الحصول على مياه الشرب. هذه الاتفاقية تنتمي للأخلاق الذاتية التي تطورت لتكون أخلاقا موضوعية. وقد ظهرت في معركة صفين حين استولى معاوية وجيشه على مصادر المياه في نهرالفرات لاستخدام التعطيش كسلاح إبادة جماعية ضد جيش الخليفة علي بن أبي طالب. وحين علم الخليفة بذلك طلب من أحد قواده، وهو مالك الأشتر، ان يقود خمسمائة من المقاتلين لإجلاء جيش معاوية عن مشرعة الفرات. وقد نجح الأشتر في اجلاء جيش معاوية وقرر حرمان الجيش الأموي من الماء، مستخدما سلاح الإبادة الجماعية نفسه الذي استخدمته الأخلاق الذاتية. ولكن الخليفة علي بن أبي طالب استخدم الأخلاق الذاتية كأخلاق موضوعية فقرر حق جيش معاوية في الحصول على المياه.

لكن هذا لا ينفي الموضوعية عن الأخلاق. فموضوعية الاخلاق قاعدة، وذاتية الاخلاق استثناء يحدث في مراحل معينة ولدوافع معينة لا تتصل بدوافع نيتشه عن القيمة الاخلاقية.

ولكن لا توجد في الحروب قيمة أخلاقية رغم التمجيد بالأبطال والمآثر العسكرية. فالحرب هي (بؤس)، وهذا البؤس ينتج عن انعدام الاخلاق وفقدان وظيفتها كرادع للشر.

إن هيجل مثلا، لم يكن يملك الشجاعة دائما مثل معظم رجالات عصره. لقد ارتضى أحيانا بالأوضاع القائمة آنذاك، ومثال ذلك الموضوع المتعلق باقطاعيات البكر Majorads والذي كان يرفضه مبدأيا، لكنه كان يقبله لأسباب ترتبط بالسياسة العليا، ولم يركز دائما على النقاط التي كانت تسبب له المضايقات والمشاكل من قبل وزارة العبادات (هيجل والدولة. آريك وايلي. المكتبة الهيجلية ١٣٣. ترجمة نخلة فريفر. ار التنوير. بيروت. الطبعة الثالثة ٢٠٠٧ ص١٩)

يقول توماس بين في كتابه (Rights of Man)، وهو من كلاسيكيات الحقوق المدنية وفلسفة حقوق الانسان منذ القرن الثامن عشر، وبين اشترك في الثورة الامريكية وفي حركة الاستقلال وفي تقديم المساعدات الامريكية للثورة الفرنسية (لقد رأيت في الحرب ما يكفي من البؤس بحيث صرت ارغب بان لا تجد الحرب اية امكانية للحدوث في العالم، وان يكون هناك اسلوب اخر لتسوية الاختلافات التي لابد ان تحدث بين مدة واخرى بين الامم).

يعتقد ارسطو ان الدولة هيبتها، وبذلك كون الدولة اخلاقا، ولكن متى كانت الدولة، على مر التاريخ، دولة اخلاقية؟ فتاريخ الاستبداد، وهو طابع غير اخلاقي، كان الممارسة الأكثر شيوعا للدولة في التاريخ،

دعنا نأخذ مصير اثنين من الفلاسفة فيما يتعلق بالأخلاق، ديكارت ونيتشه.

هل يتناسب الطغيان، بأساليبه المختلفة ومنها التخطيط للإغتيال مع الاخلاق باعتبارها السعي لوصول الإنسان الى الخير لتحقيق سعادته كما يعتقد اوغسطينوس مع كثير من فلاسفة الاخلاق، وبضمنهم المروجون لنظرية الأوامر الالهية؟

هل التقبيح والتحسين الأخلاقي من فعل البشر وإرادتهم وهم يقومون بها مع ايمانهم بالله وأوامره؟ رأينا كيف قام الفقهاء ورجال الدين المحيطون بالملكة كرستينا، ملكة السويد، بتدبير عدد من المكائد، وآخرها كانت خطة لقتل ديكارت بفعل الطبيعة،لا بفعل الإنسان المباشر. فقد طلبت الملكة من ديكارت ان يعطيها دروسا في الفلسفة. فدبر له الفقهاء، الذين يطلبون من المؤمنين اتباع الأوامر الإلهية والإبتعاد عن غوايات الدنيا،، مكيدة فحواها ان تكون الدروس في الساعة الخامسة صباحا وفي شتاء جليدي قاس جدا وفي قصر بعيد جدا عن مكان اقامته. فأصيب بذات الرئة ومات بعد تسعة أيام. (معجم الفلاسفة.. إعداد جورج طرابيشي. دار الطليعة. بيروت. الطبعة الأولى ١٩٨٧ص٢٧٥).

س - لقد دعا المفكر المغربي في كتابه "سؤال الأخلاق مساهمة في نقد الحداثة الغربية" إلى تخليق الحداثة، بمعنى البحث عن أخلاق تتجاوز سطحية الحداثة الغربية لتمتد إلى أعماق الإنسان، فكيف يتسنى ذلك؟ وهل ذلك ممكن في ظل هيمنة الحضارة الغربية؟

ج- كان الفيلسوف طه عبد الرحمن قد طرح شرطا دينيا لنقد الحداثة بينما كانت الحداثة طرحت آفاقا لنقد الدين. ان النقد الديني الحداثة محدود ومقيد بينما النقد الحداثي جدلي وله خصوصية الاختلاف Argument. لاشك ان طه عبد الرحمن فيلسوف عقلاني وينطلق من اسلاميته، وهذه الإسلامية تتميز بعيب كبير هي انها تعتقد ان الحل للمشكلات الانطولوجية يكمن في هذه الإسلامية وحدها. ولذلك نجد دائما مفردة (نقد) في اغلب ما ينتجه المفكرون العرب عن الغرب. نعم يجوز نقد العلمانية بالإسلام. كما جاز نقد الإسلام بالعلمانية. لكن الأمر يتجاوز الشعور بالحق في النقد الى محتوى هذا الحق وراهنيته.

ان الحق في (نقد) الغرب لم ينقطع منذ ظهور حركة الإصلاح الديني. وهذا النقد موجه من خير الدين التونسي الى محمد عبده مرورا بالأفغاني وليس انتهاء بمحمد رشيد رضا. ان هذا الحق في النقد حق متعسف. فنقد الغرب لا يزيل عن تراثنا القروسطي جماده وعدم راهنيته وانعدام فعاليته في مجتمعاتنا العربي والاسلاية. وقد اشرت في دراستي عن (تألق وتدهور حركة الإصلاح الديني) الى عجز لغة الإصلاحيين عن تقديم محتوى عقلاني وواقعي في التجديد الديني. فقد اجمع الإصلاحيون تقريبا على استبدال لغة الحداثة الغربية بلغة سلفية فقدت محتواها منذ زمن بعيد. فاستبدلوا الديمقراطية بالشورى، والبرلمان باهل الحل والعقد والانتخابات بالبيعة. وفي الوقت الذي كانت وماتزال المفاهيم الغربية في الحداثة السياسية فاعلة ومقررة لطبيعة النظام السياسي وعلاقته بالمواطنة وحقوقها دستوريا وقانونيا وثقافيا فان مفاهيم الخلافة لم تعد حية وقد ماتت خلال عهود الخلافة منذ الأمويين مرورا بالعباسيين وانتهاء بالسلاطين العثمانيين، وهم الأقرب لظهور حركة الإصلاح. لقد اختصرت (الحداثة) لدى خير الدين التونسي وغيره بتحديث الأسلحة ونظام الجيش فحسب.

لقد ارتبت حركة الإصلاح إثما قاد الى تدهورها وانتهائها على يد رشيد رضا الى ان تكون مشاريع الإصلاح فردية لم تشكل تيارا او جبهة منذ علي عبد الرازق، لذلك يأتي مشروع طه عبد الرحمن فرديا هو الآخر رغم بهاء أفكاره.

ان شغب العرب والمسلمين بمفردة نقد قادت ان توضع قبل عنوان هيغل (فلسفة الحق) فاصبح العنوان (نقد فلسفة الحق) وكأننا لانريد من فلاسفة الغرب سوى انتقاد انفسهم. ومن ذلك نقد مفاهيم الحق والعدالة والأخلاق.

الأخلاق هي عقد قانوني بين الدولة والمجتمع. في كتابه (Philosophy of right) يستعرض هيغل بعد الفقرة الرابعة والسبعين من الفصل الثاني المعنون (Contract) فكرة العقد قائلا: عام 1821، (انها رؤية شائعة في الازمنة الحديثة ان الدولة هي عقد الجميع مع الجميع، الجميع يعقد ويتفق , وبعد هذا تنطلق منظومة التعاليم للعمل). اطلق روسو مصطلح العقد الاجتماعي على مثل هذا العقد. لكنه في الواقع عقد أخلاقي ملزم قانونيا. ينطلق من المسؤولية الأخلاقية التي تتحملها الدولة تجاه الطرف الأول من العقد. هذه المسؤولية هي ضمان وحماية حقوق الطرف ا لأول من العقد وهو الشعب الملزمة للطرف الثاني وهو الدولة.

يغيب هذا الالتزام في العقد الديني. ان المدونات الفقهية الإسلامية تستنتج بنفسها من نفسها. انها تعيش في دائرة مغلقة من التراكم الزمني خارج الزمن الذي تعيش فيه. وصلت هذه المدونات الى طريق مسدود ومغلق بفقه (الاحكام السلطانية) الذي يوجب حقوق السلطان بدلا عن حقوق البشر. وقد تراكمت هذه المدونات المغلقة، والتي استمرت منذ القرون الوسطى، فأخذت طابع التشريع المقدس. وهي مدونات ادعت اخذ احكامها من الشريعة بحيث أصبحت هي الشريعة. وهذه الشريعة تعيش خارج النص رغم انها تدعيه.

ليس لدينا، في التاريخ الإسلامي، مدونات عن الحقوق. الحقوق الوحيدة هي الواجبات. وحين كانت اوروبا تقدم لوائح الحقوق منذ القرن الثالث عشر، على شكل اتفاقات ومساومات بين السلطة والطبقات، كان العالم الإسلامي يقدم مزيدا من القيود عازيا كل ازمة الى ضعف التمسك بالشريعة دون إعادة النظر أصلا بتعريف الشريعة. كان التدهور قد تكرس قبل سقوط بغداد بيد المغول عام ١٢٥٨ فقد كان هذا السقوط الفاجع نتيجة لتدهور استمر ثلاثة قرون بدأت منذ خلافة المتوكل وتغلب الطابع العسكري على السلطة واهمال الجوانب العلمية السابقة منذ منتصف القرن التاسع وتغلب القادة الاتراك على السلطة، هذا التغلب الذي اضعفها وجعلها مسرحا للغزوات والاحتلالات البويهية والسلجوقية وفروعهما المختلفة فيما بعد.

س -هل يمكن الحديث عن أخلاق شاملة ذات قيًم كونية أو عالمية من باب احترام البشر دون استثناء سواء يتعلق بالعرق او الدين وغيره...؟

ج- كانت العولمة مشروعا يقدم نفسه أخلاقيا في البداية. بدأت العولة مبشرة بأخلاق عالمية معززة بالإعلان العالمي لحقوق الانسان.

الواضح ان الأديان سعت الى تحويل الحقوق الطبيعية الى أوامر فأحالتها الى مصدر إلهي. لكن توما الأكويني أعاد إحياء فلسفة الحقوق الطبيعية التي أخذت تظهر، في قراءات دينية على ضوء الفلسفة اليونانية، وهو ما فعله الفلاسفة العرب بشأن اتباع خطى أرسطو.

وضع اتحاد أوتريخت أساسا لانطلاق حقوق الانسان من جديد بالتأكيد على الحرية الدينية. في عام ١٥٧٩ تم الإعلان عن (إن كل مواطن سيكون حرا في أن يقيم على دينه)، وكان والد سبينوزا اليهودي البرتغالي الذي تعرض للاضطهاد قد احتمى بهذا الإعلان حين انتقاله الى هولندا. وحرية المعتقد هذه أصبحت المادة ١٨ من الإعلان العالمي لحقوق الانسان(لكل شخص الحق في حرية التفكير والضمير والدين، ويشمل هذا الحق حرية تغيير ديانته او عقيدته، وحرية الاعراب عنهما بالتعليم والممارسة وإقامة الشعائر ومراعاتها سواء كان ذلك سرا ام مع الجماعة).(موقع الأمم المتحدة. إدارة شؤون الاعلام ٢٠٠٣)

هل جاء الإعلان العالمي لإلغاء الاستلاب عن البشر؟ اعتبر فويرباخ الاستلاب فاعلا لتأسيس الظاهرة الدينية. أما جورج لوكاج (يلفظ باللغة المجرية لوكاج، بجيم فارسية ويلفظ بالعربية لوكاتش) فقد اطلق على الاستلاب مفردة (تشييء)، وفي كلا الحالين فان الاستلاب شعور سلبي يقود الى فعل سلبي. انه الشعور بعدم القدرة على اتخاذ قرار واضح وحر وإرادي. والاستلاب، سواء كان دينيا او اجتماعيا- اقتصاديا أو سياسيا هو ظاهرة يمكن ان تنشأ عن مختلف الأسباب ومنها الخضوع لاحتلال او سجن او تعذيب أ عجز من مختلف الأنواع. بمعنى نزع القدرة على التصرف الحر والارادي، وبهذا المعنى تكون نظرية الأوامر الإلهية تكريسا للاستلاب وفاعلا لجعل الانسان مأسورا من قوة غيبية. وبهذا الشكل يتشيأ الانسان ويتصرف كأسير لأوامر عليا بدون إرادة وتفكير عقلي.لأن الفاعل الأخلاقي أمر إلهي يصدر لائحة إلزامية غامضة الأصل والمنشأ ولكنها مقررة بالقوة العليا التي كشف عن جبروتها أنبياء ورسل زعموا انها هي من أمر بهذه اللائحة التي تحتاج الى حراس للآلهة كي يتم تطبيقها، وانيطت مهمة حراسة هذه الأوامر لتنظيمات متعسفة بصفة دينية.

يقود الاستلاب الى التعصب لتعويض حالة الاستلاب بفعل عنيف متى ما شعر الفرد بان الدين هو قوته الوحيدة. فالتفاوت الطبقي بين الأغنياء والفقراء هو أمر إلهي كما ورد في القرآن مختصرا هذا التفاوت بانه إرادة الهية، كما ورد في الآية ٧٠ من سورة النحل (والله فضل بعضكم على بعض في الرزق، فما الذين فُضلوا برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم فهم فيها سواء أفبنعمة الله يجحدون). فالفقر الطبيعي هو استلاب فكيف اذا اصبح قرارا يلغي إرادة وطموح الفرد بأمر الهي؟

يأتي الإعلان العالمي لحقوق الانسان تتويجا لأخلاق العالم الحديث، ويبشر بأخلاق جديدة تكاد تكون ملزمة حالها حال الأوامر الإلهية. وقد وقعت الدول كافة تقريبا، ومنها دول عربية وإسلامية على الالتزام ببنود وفقرات الإعلان العالمي، ولكن لم يتحقق هذا الالتزام. فقد مارست الدول الديكتاتورية طغيانها المطلق على الرغم من توقيعها على الإعلان.

والاعلان العالمي لم يظهر فجأة، فقد كان عمل ثلاثة قرون تقريبا منذ الثورة الفرنسية التي أصدرت حقوق الإنسان والمواطن، التي عاد اليها الحقوقي الفرنسي رينيه كاسان لاختصار مسودة الإعلان الطويلة التي اعدها الكندي جون همفري. ومواد (العهد الأعظم) الماكنا كارتا الذي أصدره نبلاء بريطانيا مع الملك وليم عام ١٢١٥والثورة الامريكية ولوائح الحقوق البريطانية اللاحقة، وساهم في الصياغة الإنجليزية اللبناني شارل مالك الذي كان مقرر لجنة إعداد الإعلان وكان وقتها يشغل وظيفة رئيس المجلس الاقتصادي والاجتماعي التابع للأمم المتحدة. والإعلان هو نتاج العلمانية والليبرالية في تجلياتها الحقوقية.

الإعلان العالمي لحقوق الانسان عمل غربي. أوروبي وامريكي. انه عقل غربي أيضا. انه نتاج المستوى العقلاني لليبرالية. لم يأت من فراغ، وانما كان نتيجة لتطور فلسفي وسياسي كان متجانسا مع التطور في البنى الاجتماعية -الاقتصادية التي انتجت الرأسمالية. لذلك يبدو عملا غربيا، خاصة وانه يقف من الدين موقفا حياديا لضمان الحريات الدينية. ان الاعلان العالمي هو اعلان الحداثة التي تسعى لأن تكون عالمية.

يتكون الإعلان من ثلاثين مادة سنرى انها الحقوق الطبيعية قبل التدخل التعسفي للسلطة والدين.

وهذا سيكون عائقا إمام تبني الدول الإسلامية للإعلان العالمي خاصة في ما يتعلق بحق حرية العقيدة، وحرية الرأي، كما أقرته المادة ١٨ المذكورة آنفا والمادة ١٦ الفقرة (١) التي تلغي أي قيود دينية او جنسية على الزواج. والفقرة (٢) التي تنص على عدم ابرام الزواج الا برضى الطرفين. والمادة الثانية التي تنص على (حق كل إنسان التمتع بكافة الحقوق والحريات الواردة في هذا الإعلان دون تمييز، كالتمييز بسبب العنصر او اللون او الجنس او اللغة او الدين او الرأي السياسي، أو أي رأي آخر.أو الأصل الوطني أو الاجتماعي او الثروة او الميلاد او أي وضع اخر، دون اية تفرقة بين الرجال والنساء، وفضلا عن ذلك فلن يكون هناك تمييز أساسه الوضع السياسي او القانوني او الدولي لبلد او البقعة التي ينتمي اليها الفرد سواء كان هذا البلد او تلك البقعة مستقلا او تحت الوصاية او غير متمتع بالحكم الذاتي او كانت سيادته خاضعة لأي قيد من القيود)

صوت لصالح الإعلان ثماني واربعون دولة وامتنعت ثماني دول هي الاتحاد السوفياتي وجمهورية أوكرانيا الاشتراكية السوفياتية وجمهورية بيلاروسيا الاشتراكية السوفياتية وتشيكوسلوفاكيا ويوغسلافيا وبولندا وجنوب افريقيا والمملكة السعودية.

هذا الامتناع يعني شيئا واحدا وهو سيادة النظام الشمولي في تلك الدول. وبذلك تضل موضوعة الاخلاق الكونية امرا مشكوكا به وربما متعذر التحقيق. فكم دولة إسلامية او قومية ستعارض اخلاقا كونية ينتقل فيها الانسان وفق حريته من دين لآخر وفق رؤيته واختياره؟

هل يتطلب الحديث عن أخلاق شاملة ذات قيًم كونية أو عالمية من باب احترام البشر دون استثناء سواء يتعلق بالعرق او الدين وغيره المضي بفصل الدين عن الدولة في اغلب دول العالم؟ قد يكون ذلك أمرا مستبعدا بعد فشل أوروبا وامريكا في فرض نظام عالمي يقوم على احترام حقوق الانسان من جهة، ومن جهة أخرى، ماتزال معظم الدول العربية والإسلامية تضع الرسلام في مواجهة العولمة وتعتبر الدين حارسا للدولة، والدولة ضامنة لتطبيق الشريعة.

كرس الإعلان العالمي لحقوق الانسان علمانية الدولة وحياديتها تجاه الحرية الدينية.كما كرس حيادية الدولة تجاه الأعراق والثقافات. كان هذا الامر قد تحقق فعليا قبل الإعلان العالمي. وهو أمر واجه حركة الإصلاح الديني في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. كانت الحريات السياسية والاجتماعية والدينية قد أمام أعين الإصلاحيين خاصة الذين زاروا وتعلموا في باريس مثل رفاعة. الطهطاوي وخيرالدين التونسي، اللذين رأيا عيانا اختلاط الجنسين ووجود الملاهي الراقصة وشرب الخمر، هي رفض الشريعة الإسلامية لهذه الممارسات غير الأخلاقية، وكانت النتيجة هي رفض الشكل الحداثي للدولة والمجتمع والإبقاء على الاستبداد والعودة للسلفية التي كان عمرها آنذاك ثلاثة عشر قرنا واعتبار الخلافة الشكل الوحيد المرتبط بالأخلاق.

سعت لين هانت في كتابها المؤثر Inventing Human Rights الى العثور على تاريخ العمل الفلسفي والثقافي لحقوق الانسان. انها تتابع مبدأ المساواة في رواية، تعتقد، هي لين، إنها مهدت للعقد الاجتماعي لروسو. وهي رواية روسو نفسه التي تعيد قصة حب من القرن الثاني عشر بعنوان (جوليا)، فصل بعنوان جمالي هو (سيول العاطفة: قراءة روايات وتصور مساواة) يتابع موقف النقاد في القرن الثامن عشر من الرواية ومن القيم الانسانية الكبرى التي اسهمت في تحول القيم الثقافية الانسانية إلى قيم حقوقية وقانونية. فالرواية ارست مبدأ المساواة كحق اساس من حقوق الانسان.

2365 نبيل ياسين 2

س - ما وظيفة الأخلاق أمام التحديات مثل الحروب وخطاب الكراهية والتعصب والطائفية الدينية والمذهبية؟ وهل هناك فهم متطابق وموحد لوظيفة الأخلاق؟

ج- في الحياة الواقعية فان الاخلاق معزولة عن القرارات السياسية، وهي ضحية لها. لذلك لا تملك الاخلاق وظيفة مادية قادرة على مواجهة التحديات. فالحروب تتكاثر رغم كثرة منصات الحديث عن الأخلاق. فالدول الديمقراطية، التي تقوم على أسس أخلاقية، تنتهك هذه الأسس خارج حدودها القومية. بدءا من فرنسا التي عبرت حدودها الى الجزائر على سبيل المثال، الى بلجيكا التي عبرت حدودها الى الكونغو، مرورا ببريطانيا التي عبرت حدودها البحرية متجهة الى الهند وامريكا التي اجتازت حدودها على المحيط الأطلسي لتتجه الى قارات العالم الأخرى.

فالعولمة، الكولونيالية التقليدية سابقا، والأمبريالية الألكترونية الحديثة، تؤديان دورا موحدا في نفي الاخلاق عن العالم. فالأخلاق النفعية هي اخلاق مصالح متغيرة، وهي السائدة الآن في حقل الاخلاق.

طبيعي ان لايكون هناك فهم متطابق لوظيفة الأخلاق. ويظهر ذلك في تكييف الأخلاق لنظرية الأوامر الإلهية من جهة ونظرية الأخلاق الطبيعية من جهة أخرى.

لنتساءل، ايهما كان في أولويات إنسان الكهف، التنظيم العائلي ام اكتشاف الأخلاق؟، من المرجح جدا ان التنظيم العائلي وتوفير الطعام للأسرة عن طريق الصيد كان يتفوق على الاهتمام الأخلاقي، الا اذا اعتبرنا ان توفير الطعام للأسرة هو مسؤولية أخلاقية دون ان يتم اظهارها كمسؤولية أخلاقية.

قبل ان تظهر الحروب وتظهر الكراهية والتمييز الديني والمذهبي والعرقي كانت الأولوية هي العيش بسلام، سوى شن الحرب على الطرائد الحيوانية من أجل توفير لقمة العيش. قد يكون اكتشاف الزراعة بداية للخلاف البشري (هناك تفسير للصراع بين قابيل وهابيل بانه صراع بين الرعي والزراعة) وظهور الحرب والكراهية والتمييز بين الآلهة التي ظهرت بداية من أجل توفير الحماية لممتلكات الإنسان. لذلك فإن ارتباط الأخلاق بالأوامر الإلهية يقوم بفعل سلبي وليس إيجابيا. لنلقي نظرة على وظائف الآلهة في بلاد الرافدين فقد كان للسومريين آلهة مختلفة من أجل الحماية. فهناك إله الصيد وإله الرعد(الإله أدد) وإله المطر وإله الرعي (سموقان) وإله المياه(أنوناكي) وغيرها من ثلاثة آلاف إله تم ذكرها في الحوليات الرافدينية. وقد كانت هذه الآلهة تشن الحروب بعضها ضد بعض مقلدة أفعال البشر.

إن تأويل الدين يعتبر مصدرا من مصادر الحرب وبث الكراهية بين الأديان والمذاهب والقوميات. وبدل ان تقوم الاخلاق الدينية بنشر السلام ومنع الحروب ونبذ الكراهية، فإننا نعثر على احد مصادر العنف الشائعة اليوم في الاخلاق الدينية نفسها الناتجة عن التأويل. ان تاريخ الأديان والعنف الذي رافقه يجعلنا نشكك بأصل نظرية الأوامر الإلهية باعتبارها من اختراع الفقهاء ورجال الدين في كل الأديان. فاذا كانت هذه الأوامر مشتركة،وهي من الله، فلماذا تتعطل بين الأديان المؤمنة بهذه الأوامر وأصلها الإلهي واعتبارها دافعا لفعل الخير؟ بينما تمارس الأديان فعل القتل، وهو فعل غير أخلاقي ورد النهي عنه في الوصايا العشر. ان القتل هو عنف ينتهك الاخلاق. وتكسب التأويلات الأخلاقية اعمال العنف بطابع عقلاني وحيد مفتعل على الرغم من انه ينافي العقلانية. ذلك ان المنطق الأخلاقي مختلف عن المنطق الديني، وإن المنطق العقلاني ينفصل عن المنطق العقلي.

يحاول الفيلسوف الأخلاقي بيرنارد جيرت  Bernard Gert الذي قضى خمسين عاما في فحص احدى النظريات الأخلاقية المرتكزة على المفهوم المعتدل للحيادية وتوضيحها وتطويرها، الإجابة على سؤالين محددين: ماهي اعمال العنف وكيف يتم تبريرها؟. وفي تعريفه لأعمال العنف يصفها بانها الانتهاك المتعمد لخمس قواعد أخلاقية أساسية تجاه الأشخاص الذين ليست لديهم رغبة عقلانية لخرق القوانين لصالح نفسه او نفسه وتنحصر تلك القواعد في : لا تقتل. لا تتسبب في إحداث ألم. لا تحدث إعاقة. لا تحرم شخصا من حرية اغتنام الفرصة. لا تحرم شخصا من السعادة (فيتوريو بوفيتشي. العنف. مختارات فلسفية. ترجمة ياسر قنصوه.المركز القومي للترجمة. ٢٠١٧ ص١٣١)

لكن التبرير، يرتكز على مفهوم السبب (ولهذا فأن التبرير في صورته الأساسية – تبرير أحد الأعمال -هو إيضاح ان ذلك العنف يعد عقلانيا (نفس المصدر والصفحة). لكن هذه العقلانية لا تكمن في جوهر الفعل وانما في تسويغه وتبريره.

 

س -هل تعتقد أن الأخلاق تلعب دورا في الفضاء العمومي من أجل التأسيس لديمقراطية حقيقة في العالم العربي، وتعمل على إعادة ترميم انهيار منظومة القيم الاخلاقية في الممارسة السياسية؟

ج- خلال سنوات طويلة، وبدافع من اهتمامي بالعدالة لم اجد مؤلفا عربيا إسلاميا بهذا الموضوع في تراث الفكر الإسلامي. واذا كانت الفلسفة المعاصرة تتحدث عن العدالة بتفاصيل جديدة وتسوية عقلانية من أجل الإنصاف مثلما يشير رولز في كتابه نظرية العدالة (A Theory Of Justice.الصادر عن The Belknap Press Of Harvard University Press. Cambridge. Massachusetts. 1999)، والصادر بالعربية بعنوان نظرية في العدالة) حين يؤكد في التفاتة مهمة وكأنها شرط قائلا: من احدى خصائص العدالة إنصافا ان نفكر بالأطراف في الوضع المبدئي على انهم عقلانيون ولا توجد مصالح متبادلة بينهم (جون رولز. نظرية في العدالة. ترجمة ليلى الطويل. الهيئة العامة السورية للكتاب. دمشق ٢٠١١)، فإننا نفتقر تماما الى نظرية في العدالة وبالتالي نفتقر الى دور الأخلاق في انشاء مثل هذه النظرية. فتاريخنا لا يفكر بأطراف وانما بطرف واحد ونتيجة لذلك نفتقر الى العقلانية. لان العقلانية وفق رولز بحاجة الى عقد او تعاقد.

إن ما وردنا عن الأخلاق في الفلسفة الإسلامية يشكل فهما عميقا، ولكن مشكلتنا اننا توقفنا عن انتاج الفلسفة، واعتبر الفقهاء، عموما، ان انتاج الفلسفة لا يتوافق مع الشريعة، ونحن نعرف النكبات التي تعرض لها الفلاسفة المسلمون، ففي زمن المعتضد على سبيل المثال، تم تحليف الوراقين على عدم استنساخ كتب الفلسفة في اسواقهم. فقد كان الفلاسفة المسلمون يؤكدون على العلاقة بين الفلسفة والشريعة للوصول الى الحقيقة، وهو ما رفضه الفقهاء.

س - من الشائع أن يتقاطع القانون والأخلاق ويتداخلان في جميع مجالات صنع القرار القانوني؛ فيجبمن أجل فهم مسائل الدستور أو التشريع أو القانون العام، على القضاة وغيرهم من صانعي القرارالقانوني أولاً حل بعض القضايا الفلسفية التي تشمل الأحكام الأخلاقية للصواب والخطأ. يتضح هذا بشكلخاص فيما يتعلق بالتفسير الدستوري، ولاسيما عندما تعطي الدساتير تفويضًا لحماية المعاير أو القواعدوالقيم الموضوعية - الجوهرية كحقوق دستورية في هذه المواقف، كما لاحظ ذلك رونالد دوركينالفيلسوف القانوني المعاصر الرائد في كتابه " أخذ الحقوق على محمل الجد"، يدمج الدستور القضاياالقانونية والأخلاقية، من خلال القضايا أو المشاكل. بالطبع لا تقتصر الحاجة إلى توضيح القيًمالموضوعية الجوهرية على التفسير الدستوري بموجب وثائق أو مشاريع قوانين الحقوق فقط. يثير هذافورًا معضلة متأتية من التنوع الأخلاقي والتعددية في المجتمعات الحديثة. كيف يمكن أن يظل القانون حساسًا لهذه التعددية ومع ذلك يقدم إجابات واضحة للمشكلات التي تتطلب حلًا قانونيًا؟

ج- يدين مونتسكيو الترف باعتباره ينتهك الاخلاق في الجمهورية. (فحين فسد الرومان اتسعت شهواتهم ويمكن تقدير ذلك مما وضعوه ثمنا للاشياء ٠ومن ذلك ان دن خمر فالرن كان يباع بمئة دينار روماني،.. وان ثمن الطاهي الماهر أربعة تلنتات، ولا ثمن للخدم.واذا ما اقبل جميع الناس على الملاذ بصولة شاملة فماذا تصبح الفضيلة؟(مونتسكيو. المجلد الأول. الباب السابع. الفصل الثاني. ص١٤٧). وهو الاعتقاد الذي سبق اليه ابن خلدون بقوله ان الاخلاق الحاصلة من الحضارة والترف هي عين الفساد، لان الانسان انما هو انسان باقتداره على جلب منافعه ودفع مضاره واستقامة خلقه للسعي في ذلك، والحضري لايقدر علـي مباشرته حاجاته، اما عجزا لما حصل له من الدعة، او ترفعا لما حصل له من المربـي في النعيم والترف، وكلا الامرين ذميم. ابن خلدون. المقدمة. ج ٣ ص ٨٨٠-.نقلا عن جوامع الاخلاق والسياسة والحكمة. ج ١. منشورات المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة.١٩٩٣ ص٦٨.

لدى شرائع مونتسكيو نعثر على مفهوم للأخلاق يرتبط بالقانون الوضعي. ومن ذلك كيف تدير قوانين المصالح الأخلاق ادارة متعسفة لصالح افراد او مجموعات.

فالربا، على سبيل المثال، انتقل من فعل لا أخلاقي الى فعل أخلاقي عن طريق تشريعه ضمن قوانين المصارف. فالربا لم يعد، أخلاقيا، خرقا او تصرفا مذموما.فقد تحول الى خرق أخلاقي مشروع.

لقد تطورت أوروبا الى الديمقراطية بصعود البرجوازية. وكان الربا شائعا، ولكنه كان يواجه معارضة أخلاقية. وكانت البرجوازية التي تسعى الى السيطرة بحاجة الى تشريع الربا وجعلة مقبولا أخلاقيا، وتم هذا عن طريق تأسيس البنوك وجعل الربا مشروعا، وتحول الربا الى (فائدة) قانونيا.

ان المرابين الذين كانوا يُنظر اليهم نظرة لا أخلاقية اصبحوا يحكمون عن طريق الربا القانوني، وتحول حكم النهي عن الربا في سفر التثنية (لا تقرض أخاك بربا. ربا فضة. أو ربا ذهب، أو ربا طعام. أو ربا شيء مما يقرض بربا. لأجنبي تقرض بربا، ولكن لأخيك لا تقرض بربا، لكي يباركك الرب إلهك)(التثنية.٢٠:١٩:٢٣). وورد مثل ذلك في سفر المزامير،(السالك بالكمال، والعالم بالحق والمتكلم بالصدق في قلبه، فضته لا يعطيها بالربا ولا يأخذ الرشوة في البري)(مزمور ٥:٢:١٥) وكذلك في سفر حزقيال ونحميا.

وحرم القرآن الربا في ثلاث مواضع في السور الطوال الجامعة لكثير من الاحكام، هي البقرة وآل عمران، والروم. (الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس، ذلك بانهم قالوا انما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره الى الله ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون)(البقرة ٢٧٥، ثم تتبعها الآيات ٢٧٦و ٢٧٧و٢٧٨).

قامت فكرة البنوك اذن على خلق تسويغ مقبول لتحويل فعل لا أخلاقي الى فعل أخلاقي يرعاه القانون.

يقوم المؤمنون من اتباع الأديان الثلاثة، بالطقوس الجسمانية كالصلاة والدعاء اكثر بكثير من الالتزامات الروحية الأخرى ومنها السلوكيات الأخلاقية. لقد عبر الغرب والمجتمعات المسيحية التي كانت تشهد نمو عمليات الربا عبر مرابين يهود في الغالب، الذين يؤمنون، حسب التثنية، بإقراض الأجنبي بالربا، هذه المشكلة بأن حولتها الى عملية شرعية وقانونية، فيما لاتزال المجتمعات الإسلامية تناقش حتى الآن الطريقة التي يمكن فيها تشريع الربا عبر ما يطلق عليه البنوك اللاربوية. ويحضر في هذا الشأن محاولة الفقيه الإسلامي محمد باقر الصدر (البنك اللاربوي في الإسلام: أطروحة للتعويض عن الربا ودراسة لكافة أوجه نشاط البنوك في ضوء الفقه الإسلامي).

لقد أصبحت البنوك إدارة أساسية من مستلزمات الاقتصاد العالمي، الذي يقوم على الإقراض والفائدة ولذلك لم تعد مشكلة الربا في العالم غير الإسلامي مشكلة معوقة للنمو الاقتصادي. فما هو الدور الأخلاقي الذي انهى التحريم بتحويل الربا الى مؤسسات بنكية كبرى تدير اقتصاديات العالم؟ هل هي الأخلاق الجديدة أم ان الوصايا الإلهية يمكن تكييفها وتسويغها بتغيير شكلها والإبقاء على اسلوبها؟

ما يشير الى طبيعية الاخلاق قبل ان يأتي دور الفقهاء والمفسرين. وقبل ان يقدم لنا الفقهاء اوامرهم باعتبارها أوامر الهية يشددون فيها على العفة للمرأة باعتبارها (لقلق الخلاص) على حد تعبير ماكس فيبر حين بث الكالفينيون المذاهب الطهرية من اجل النجاة من الهلاك.

تخضع المرأة في الأديان الى سلسلة طويلة من الأوامر والنواهي تنبع من منطلقات متعددة ومتناقضة. فالعفة لا تخص الرجل في الأديان بقدر ما تخص المرأة. وتسربت هذ الإشكالية الى المجتمعات المختلفة، ليس بالضرورة كالتزام ديني وانما كترسبات اجتماعية تقوم بتأويل الفضيلة ونقلها من الدين الى الفرد والمجتمع. فالأخلاق، في جوهرها اجتماعية.. يقول جون ستيورات ميل في كتابه The Subjection of Women)) الى ان كثيرا من القطاعات الاجتماعية والدينية نالت حقوقها عدا المرأة التي لم تنل حقوقها بسبب الدين والإخضاع الاجتماعي في المؤسسات الحديثة وبقيت تعاني من الحرمان والعزلة حتى لو تم انتهاك ما اصبح قانونا أساسيا (Penguin Classic 2006. p153) فهل هذا الإخضاع إخضاع اجتماعي آم إخضاع ديني؟ في كلا الحالين يعتبر هذا الإخضاع خرقا وانتهاكا مشتركا بسبب الترسبات الدينية والاجتماعية المنافية للحق الطبيعي التي كرستها الأديان.

 

............................

د. نبيل ياسين

* دكتوراه فلسفة من أكاديمية العلوم الهنغارية عام ١٩٨٦ عن اطروحته (التشكيلات الاجتماعية -الاقتصادية وتأثيرها على الدولة والمجتمع في العالم العربي ١٨٠٠-١٩٨٠

* عمل باحثا في معهد العلوم الاجتماعية في اكاديمية العلوم الهنغارية ١٩٨٦-١٩٨٩

* عمل أستاذا لدراسات الديمقراطية والمجتمع المدني وحقوق الانسان في العراق ٢٠٠٨-٢٠١١

* كاتب وشاعر نشر العديد من الدراسات حول الدولة والدستور والعولمة في صحف مثل (الحياة) اللندنية خلال أعوام ١٩٩٢-٢٠١٨ وفي صحف ومجلات أخرى

* مؤلف كتاب (الأصول الاجتماعية والفكرية للتيارات الإسلامية المعاصرة). لندن ١٩٩٤

* مؤلف كتاب (التاريخ المحرم) دراسة في الفكر السياسي. العراق نموذجا. لندن ١٩٩٨

* صدرت اعماله الشعرية في مجلد عام ٢٠١٧ عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت.

* له مؤلفات أخرى في الشعر والسيرة والتاريخ.

 

 

علي رسول الربيعي: علم النفس الأخلاقي

التفاصيل
كتب بواسطة: د. علي رسول الربيعي

علي رسول الربيعيسأتناول موضوعة علم النفس الأخلاق من خلال نظرية راولز في كتابيه: نظرية العدالة، والليبرالية السياسية، حيث يدرك تمام الإدراك أن علم النفس الأخلاقي ذو أهمية مركزية للسؤال الذي يطرحه: هل سيكون من العقلاني أن يختار شخص ما مبادئ ليكون محكوما بها إذا كان يفتقر إلى المعلومات المتعلقة بقيمه والتزاماته الجوهرية الموضوعية؟ 

 إذا نظرنا في مسألة ما إذا كان المطلوب اختيار مبدأ معين، وأن هناك ظروف محددة في المستقبل يعتقد فيها المرء أنه لن يكون هناك دوافع عقلانية لاختيار ذلك المبدأ، مع ذلك اختاره، يُبنى عليه، اذن، للمرء المبرر للحكم على أن تلك الظروف غير ذات صلة. بمعنى ستكون المبادئ العامة التي يجب أن تحكم المجتمعات عادلة وغير منحازة إذا تم اختيارها في حالة الجهل بمفاهيمنا الجوهرية عن الخير (وعن ظروفنا الاجتماعية). وعندما تكون هذه الاختيارات عقلانية، فذلك لأننا اخترناها من وراء "حجاب الجهل" بغض النظر عما نتخيله عن أنفسنا عندما يتم رفع الحجاب، أي بغض النظر عن الفكرة الجوهرية للخير الذي نتأمل الحصول عليه.

أن هذه هي الطريقة الأكثر إثارة للاهتمام لقراءة راولز، لأنه يقدم المشروع الأكثر طموحًا من الناحية الفكرية لهذه القضية. لكن، ومن نقاشي لنظريته، أرى أنه إذا لم نطالب باختيار المبادئ بصرف النظر عما نتخيله، فربما يراهن المتعاقدون على أنه لن يكون لديهم هذا المفهوم الجوهري للخير عندما يتم رفع الحجاب، وبالتالي قد يختارون المبادئ المنحازة لصالح مجموعة من القيم الجوهرية التي فضلوها. وهذا لن يفضي إلى مبادئ العدالة أو العدالة كأنصاف. المطلوب، حتى لا نصل الى مثل هذه النتيجة، أن توضع بعض قيود بخصوص معنى الأنصاف على أولئك المتعاقدين، مما سيجعل النظرية أقل طموحًا، أي أن الطريقة ستبدأ في الظهور كإجراء للعدالة كأنصاف.

دعنا ننتقل بعد ذلك إلى مسألة ما إذا كان من العقلاني أو غير العقلاني أن نلتزم بها في هذه الظروف. قد نقدم هنا، ثانياً، المجتمع كمثال حيث تم تعريفه بالتزامات سياسية ودينية. لنفترض حينئذٍ أننا نفكر في أيً مبادئ يتم اختيارها في حالة الجهل هذه، سنكتشف عندما يتم رفع حجاب الجهل بأن لدينا مفهومًا دينيًا جيدًا عن الخير، مع التزامات موضوعية مفصلة لنظام حكم يخضع لمجموعة من القوانين الدينية (مثل الشريعة)، وممارسة الرقابة على المعارضة الدينية الجادة (على سبيل المثال ضد كتاب تجديفي)، وأن معظم الآخرين في المجتمع يشتركون في هذه الآراء. هل يمكن للمرء أثناء التفكير في إمكانية العثور على دوافع لإلزام أنفسنا بمبدأ عدم التدخل مثل الذي نناقشه؟

من الواضح أنه يمكن أن يظن المرء أن المبدأ الأول للعدالة عند راولز يتحدث عن هذه الحريات المعيارية بالتحديد والتي يحملها المثل الأعلى لعدم التدخل، وأننا سنتعاقد بعقلانية من وراء حجاب الجهل، كما يعتقد راولز. لكني أرى من الصعب أن نتصور لماذا، إذا أعتقد المرء في أنه ينتمي الى أحد الطوائف الدينية، أنه سيختار، على سبيل المثال، بشكل خاص عدم التدخل وحق حرية التعبير. على أي حال كان هذا الاستياء العام من قبل الجماعاتيين أزاء راولز. أنهم يرون أن راولز لا يمكنه التعامل مع الالتزامات تجاه الجماعات الدينية وغيرها من جماعات؛ ويعتقدون إن نظريته موجهة فقط لنوع معين من المتعاقدين الذين يتمتعون بالاستقلالية الفردية أو المتحررين من الروابط الجماعية، والميالين الى الليبرالية. وإذا لم يكن الأمر كذلك، فلماذا يختار شخص ما مبدأ حرية التعبير هذه، إذا فكر في أنه عندما يتم رفع الحجاب، قد يكون شخصًا لديه قيم جوهرية لعقيدة دينية تطالب بتقييد التجديف؟ فيكون من غير المنطقي أن يختار حرية التعبير، وإذا كان الأمر كذلك، فلن يكون لليبرالية حجة في أحد مبادئها المركزية.

أن السؤال، في الحقيقة، هو سؤال في علم النفس الأخلاقي. وقد قام راولز بالإجابة عنه في كتابه الأخير "الليبرالية السياسية" الذي تلي كتابه "نظرية العدالة" من خلال تدعيم قضيته بحجة أخرى تلجأ بشكل جليً الى النظر الأخلاقي والنفسي لتبرهن: حتى لو فكر المرء أنه سيكتشف عندما يتم رفع الحجاب، لديه قيم دينية جوهرية، فسيكون من المنطقي اختيار مبدأ حرية التعبير. إن الاعتبار الذي يحتكم اليه راولز هو نظير نفسي لنقطة انطلاق الشخص من الجهل بالتزاماته الجوهرية الخاصة بالمستقبل. فيقول إنه حتى هذه الجماعة الدينية سيكون لها معرفة نفسية أولية، مثله مثل أي شخص آخر، يكون قادرًا أو عرضة للتغييرات في التفكير ووجهة النظر، وبالتالي تتغير رغباته، وتصوراته الجوهرية عن الخير. لذا، إذا كان المرء وراء حجاب الجهل يفكر في أنه عندما يرفع عنه قد يجد نفسه ضمن جماعة دينية، فإن المرء سوف يعارض أيضًا أنه في المستقبل قد يغير رأيه ويتوقف عن أن يكون واحدًا من تلك الجماعة. الآن إذا فكر المرء في هذا الأمر أيضًا، فسوف يرغب في التأكد من أن الفرصة ستحقق أي رغبات مستقبلية يريدها وليست رغبات الجماعة الدينية. لكن قد لا تتاح الفرصة للوفاء بها إذا تعاقد الفرد وألزم نفسه فقط بالمبادئ التي أقرتها الجماعة الدينية التي يتوقع نفسه جزء منها حالياً. قد لا يتحقق ضمان المرء لمستقبله، وحماية رغباته المتغيرة والحصول على أفضل عقد من أجل حرية التعبير وغيرها من الحريات الأساسية، في مجتمع يقمع المعارضة وغيرها من وجهات النظر غير الدينية.

تضع هذه الحجة عن قابلية رغبتنا للتغيير في الحسبان فقط الاعتبارات السيكولوجية المتاحة للفاعلين الذين يختارون هذه المبادئ، وهي ترجمة للجهل (وهذه المرة حول الالتزامات المستقبلية المحتملة لهم)، وتطلب منهم أخذ ضمان لالتزامات مختلفة للغاية في المستقبل، تمامًا كما في التجربة الفكرية التعاقدية الأولية في "نظرية العدالة"، يطلب منهم أن يأخذوا ضمان تأمين وذلك لاحتمال تغيًر مفهومنا الحالي للخير عندما يتم رفع الحجاب ونكون على علم بأنفسنا. أيً، ما أريد قوله هو أنه إذا كان شخص ما وراء حجاب الجهل، يفكر في نفسه كعضو في جماعة دينية، فإنه يفكر أيضًا في أنه قد يكون لديه مفاهيم عن الخير في المستقبل ليست مثل تلك التي يمتلكها حاليًا، وقد تكون مختلفة اختلافا جذريا عن تلك التي لديه حاليا، فأنه سوف يرغب بالتأكد من أنه لن يكون في وضع سيء في المستقبل، وهو ما سوف يكون عليه إذا تنكر لمبدأ الحقوق الليبرالية في عدم التدخل على أساس التزاماته الدينية المجتمعية الحالية المتوخاة وحدها.

 

الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ

 

 

حاتم حميد محسن: طبيعة العدالة والأخلاق في جمهورية افلاطون

التفاصيل
كتب بواسطة: حاتم حميد محسن

حاتم حميد محسنماهي الأسباب التي دفعت افلاطون للإيمان بان العدالة أرقى واكثر نفعا من اللاعدالة؟ وماهي العلاقة بين العدالة والاخلاق؟

في الجمهورية، يناقش افلاطون ويوضّح مفهوما مركزيا في جداله يعطي فيه الأفضلية للقيمة المتعالية للعدالة كخير انساني كونها تُنير وتُرشد السلوك الاخلاقي. حجة افلاطون تقوم على ان العدالة والاخلاق مترابطان بشكل وثيق لأن السمو والخيرية في الحياة الانسانية – وهما افضل طريقة ليعيش الانسان حياته –  معتمدان بقوة ومتداخلان مع الاشياء التي نجدها مرغوبة بذاتها وبنتائجها . لذا، نحن نعترف بان الاطروحة الاخلاقية لافلاطون لايمكن تفسيرها وفق حجة الحكم المعياري للاخلاق او وفق حجة محصلة الفعل. اطروحة افلاطون هي تنويرية، بالمعنى الفلسفي، لأنها تمكننا من ايجاد طرق جديدة اكثر نفعا في النظر الى تلك الاسئلة الاساسية المتعلقة بالعدالة والاخلاق، والاسلوب الذي يرتبطان به.

في كتابه (الجمهورية) يحاول افلاطون الاجابة على اسئلة معقدة حول العدالة وذلك بطرحه تفسيرا متميزا لماهية العدالة الحقة، والكيفية التي يتم بها ابلاغ وتعليم الناس المرهفين اخلاقيا حول الطبيعة الحقيقية للعدالة والاخلاق. ان فهمنا للعدالة سيكون اكثر عمقا لو ركّزنا بان ما يهم حقا هو ليس مجرد مراعاة المتطلبات الخارجية – الاحكام الاخلاقية المعيارية والتقليدية – وانما هو شخصية الفرد العادل حقا . العدالة والخيرية المرتكزتان على الحكم كفضيلة للحياة اللائقة، يُنظر اليهما باعتبارهما منسجمين في سياق المجتمع المنظم جيدا.

الادّعاء الأساسي لافلاطون في الجمهورية، هو ان العدالة عظيمة جدا لدرجة ان كل شخص يحتضنها بشكل تام سيكون أفضل حالا، حتى مع القلق والألم في المحن الشديدة. المعادلة الاخلاقية الاساسية التي أعلن افلاطون عنها صراحة،تقوم على ان:العدالة التي تأتي عبر تحمّل الألم والإهانة هي اكثر نفعا من لاعدالة الفرد الذي يتمتع بالمكافئات الاجتماعية المخصصة بطبيعتها للشخص العادل .

غير ان افلاطون لم ينجح طوال الحوار في ان يبرر بوضوح هذه الصيغة المعقدة وغير العادية. لكنه اعتقد صراحة بان الناس فعلا يتصرفون ضد رغباتهم المباشرة لأجل العدالة ولأجل خير الجماعة المدنية ككل. هو لم يؤمن بان الحافز الوحيد للتصرف العادل هو زيادة سعادة المرء. يعترف افلاطون بان الصراع بين الواجب والمصلحة الذاتية هو ممكن جداً، اي ان الواجب والمصلحة الذاتية هما مفهومان مستقلان لا يمكن اختزال اي منهما الى الآخر. لكي نحل هذا التوتر يجب ان نعرف ما هو الأحسن، ان نظرية الأشكال (عالم المُثل) تشغل مكانا مركزيا وحاسما في تبرير ما يبدو ادّعاءً استثنائيا بالغ الأهمية. الأشكال هي اشياء الفهم الأبدية، اللامتغيرة، اللامادية وغير المدركة حسيا،والتي هي اساسية لتعليم فيلسوف الجمهورية، حيث تخلق فيه تقديسا حماسيا لمثل هذه الافكار المطلقة كالجمال والخيرية والعدالة والحكمة.

الفيلسوف الافلاطوني او المثالي، كمحب للمعرفة والحكمة، يكافح دائما لأجل الفهم الواضح والمتميز لهذه الافكار المطلقة (الأشكال) وبعمله هذا ستصبح حياته أسمى من اي حياة اخرى لأن فيلسوف الجمهورية، ومن خلال دراسة الأشكال، سيكون أقرب الى  أعلى ترتيب للحقيقة  والتي تُعتبر أعظم خير حقيقي، وهو بهذا سيحرر نفسه من تلك الأخطاء المنهجية التي تُفقر وتشوه الحياة اللامفكرة .

جدال افلاطون في نظرية الاشكال يمكّن الفيلسوف من الفهم والمشاركة في شكل العدالة، وما لم ينجز الفيلسوف هذا المستوى من الفهم، فان اي حكم يصدر بشأن الأفعال والاشخاص او المؤسسات سيكون معيبا و خاطئا. ولهذا فهي نظرية او مفهوم يقودان افلاطون ضمنا،ان لم يكن صراحة، الى تحليلات اساسية تتعلق بطبيعة الحياة الاخلاقية، التي يجب ان تتطابق مع الحياة الخيّرة، لأن الحياة الخيّرة هي في الجوهر حياة عادلة.

لو ارتكبنا خطأ في أحكامنا بشأن العدالة والخير الجماعي، فنحن ايضا سوف نكون مخطئين عندما نتخذ قرارات حول الكيفية التي ينبغي ان نتصرف بها في علاقتنا مع الآخرين، وهذه هي التي تشكل الاساس للحياة الاخلاقية. أحكامنا الاخلاقية ستكون معيبة لأن تلك الاحكام لم ترتكز على ما هو عادل حقا. ولذلك نحن سنتصرف فقط  طبقا لمظهر العدالة ما لم نمتلك فهما واضحا ومتميزا لحقيقة العدالة او شكلها.

ان نظرية افلاطون في الأشكال تشكل قناة لنا تقودنا الى أعظم خير في بحثنا عن الحياة الخيّرة. ان البحث عن الحياة الخيرة – الحياة الاخلاقية – يقودنا الى الابتعاد عن السعي اللامتناهي وغير المقنع للمتع الفيزيقية والامتيازات والشرف والمنافع المادية التي تفترض  وجود أهمية في حياة الشخص العادي. ان تطهير النفس، من خلال التعليم والتأمل يقود الى تحوّل في حياتنا والى الإقرار بنوع من الخير الاساسي والمتميز المختلف جذريا - شكل الخير. هذا الانسلاخ او التحول يقود الى فهم واضح ومتميز، والى تقديس وتقليد الأشكال ذات السمو المتعالي، بما ينير ويسمو بحياة الفيلسوف، ويضع وجوده الاخلاقي في مرتبة تتجاوز الفرد العادي.

يعترف افلاطون بان المعرفة وادراك الاشكال هي قيمة بالغة الاهمية، لأنها خيرات متعالية ومتفوقة. حيازة الاشكال، وهي لا تعني الملكية، هي نتاج للعقل – وهي السمة الأعظم قيمة في روح الانسان – وان هذه الحيازة هي التي تقود الى السعادة الانسانية. هي سعادة  يشترك بها كل من يصل الى الادراك الحقيقي للاشكال، عبر سيادة وتفوق العقل الانساني. بالنسبة لافلاطون، يكون الفعل مقبولا ليس فقط لأنه مفضل من جانب العقل، وانما لأن العقل سوف يفضله حينما ينجح في ادراك الخير، ويطبّق ذلك الادراك في مهمة اختيار الافعال.

حيازة الاشكال تنطوي وتستلزم روابط عاطفية مترافقة مع تلك الفعاليات المتميزة بالحب والصداقة. نحن مرتبطون مع هذه الحيازات الثمينة، كأشكال، من خلال المشاركة العاطفية والفهم الفكري. هذه هي التي تُبلغ وتعزز قيمة حياة الفرد، وخاصة الحياة الاخلاقية.

أحد مظاهر خيرية الأشكال يكمن في مفهوم الانسجام والتوازن في النِسب. ان النوعية المتعالية والمتفوقة للاشكال، بالمقارنة مع الاشياء المرغوبة الاخرى، تُشتق وتتشكل بفعل طبيعتها اللامادية وحيازتها لأرقى درجة من الانسجام و الترتيب المنظم. ورغم انه من غير الممكن التعريف الدقيق والواضح لمفهوم الانسجام، لكننا في هذا السياق، نستطيع القول انه يتميز بمختلف انواع التناغم المتجسدة بالكائنات الحية والارواح والنجوم والاشكال. وعليه، نستنتج،من افلاطون، ان خيرية الشيء- الجماعة المدنية، روح او صحة الجسم – تتألف من نوع من النظام او التناسب الملائم للشيء. لذلك، اذا كان الشيء يحوز على درجة عالية من الانسجام او النظام ، عندئذ سيكون من الضروري ان يحوز على أعلى درجة من الخير – وبالنتيجة، سوف يشارك بشكل الخير.

يتبع ذلك ان الانسان العادل حقا – الفرد المتنور والراشد اخلاقيا – سوف يتمتع ايضا من خلال التعليم والتأمل بأعلى درجات النظام في روحه، وهو لذلك سوف يمتلك فهما واضحا ومتميزا ورغبة في المشاركة بأشكال العدالة والخير. هذا يوضح حسب افلاطون، لماذا الفيلسوف هو الأقدر ليصبح منخرطا بفاعلية في حكومة الدولة، لأنه من خلال تطبيق نظام متوازن للعدالة ولمبادئ اخلاقية سليمة – قائمة على سيادة العقل الانساني – فان تعليمه وتدريبه سيمكنانه من القيام بذلك.

ان تعليم وتدريب الفلاسفة الافلاطونيين للجمهورية سيضمن قدرتهم الفعالة في السيطرة على مشاعرهم وشهواتهم. انضباطهم واحترامهم لإنسجام الأشكال سيضمن ايضا انهم لا يحوزون الرغبة في التصرف بلاعدالة او بسلوك غير اجتماعي او في البحث عن مزايا دنيوية لا يمتلكها الناس الآخرون. الفيلسوف الذي يفهم ويشارك في انسجام الاشكال، ولديه المهارات الفكرية الفعالة، سيكون لديه ادّعاءً قويا بكونه نموذجا للفرد الاخلاقي العادل – حتى عندما لم يتجرد كليا من جميع نواقص الشخصية.

يجب التأكيد ان افلاطون لم يطرح ادّعاءً غير واقعي في الكمال، لأن هذا سيعمل فقط على إضعاف اطروحته والحط منها . مشروعه هو بالاساس تطبيقي  يعترف فيه ان  رغبة الفيلسوف الحاكم لا يمكن السيطرة عليها دائما وكليا بالعقل، لكن هذه بذاتها لا تبطل القوة المركزية لحجة افلاطون.

غير ان افلاطون وعد بإظهار تفوّق حياة الفرد العادل، على غير العادل، رغم النتائج السلبية التي يواجهها الفرد العادل من وقت لآخر . الجواب لهذا السؤال يكمن جزئيا في استكشاف المأزق السايكولوجي للفرد غير العادل كليا او المستبد. لو ان هذا الفرد يمارس اشكالاً متطرفة من اللاعدالة او اللااخلاقية، عندئذ ستكون لهذا العمل نتائج سايكولوجية مدمرة له. لو ان الرغبات اُطلق لها العنان بالكامل فانها سيستحيل اشباعها، والحياة ستصبح احباطا دائما بدلا من ان تكون حياة هادئة وقابلة للانجاز. ممارسة السلطة الاستبدادية تُفسد الثقة وتخلق خوفا دائما من الإنتقام من اولئك المضطهدين من جانب المستبد. الفشل في إخضاع الشهوات للعقل يخلق حتما طلبات داخلية فوضوية متكررة تقود الى المعاناة من الخوف والاحباط. من الواضح ان هذه ليست الصيغة لحياة سعيدة ومزدهرة وأخلاقية.

ان الشغف الطاغي للفيلسوف الافلاطوني هو حب الأشكال، الحب الذي لا يولّد الخوف او الاحباط او الفوضى في الحياة. وعكس ذلك، اولئك الذين يدرسون ويتأملون الاشكال ستكون لديهم شهوات متواضعة يمكن إشباعها بسهولة، كما ان وعي الفيلسوف بالانسجام في الروح سيقود الى حياة هادئة متحررة من الآثار المدمرة للرغبات المتصارعة. يجادل افلاطون بانه حتى لو ان الفرد العادل تعرّض للاذى والاهانة، فهو سيكون في سلام مع نفسه وسوف لن يعاني من الاحباطات الفوضوية التي تجعل حياة المستبد بغيضة وتافهة. ورغم ان الفرد العادل قد يعاني من آلام فيزيقية، فهذا لايعادل الألم السايكولوجي الذي يحوّل حياة المستبد الى عذاب دائم.

يعتقد افلاطون ان هناك توازن واضح في المزايا الايجابية لحياة الفرد العادل والاخلاقي الذي قد يعاني ظلماً على شكل اذى مؤقت او دائم. ان تفكير وعواطف الفيلسوف، يمنحانهُ مدخلاً لعالم منسجم كليا (عالم الأشكال) الذي يحوز عليه هو وحده، والذي هو الخير الاعظم الذي لا يدانيه شيء. فمتى ما تم الاعتراف بان المعرفة والتأمل بالأشكال – أشكال العدالة والخير – تمنح مثل هذه المزايا الهائلة للفرد العادل، عندئذ فلابد من الاعتراف ايضا بان الأذى المادي لا يمكن ان يقلل من القيمة العظمى  للعالم اللا محسوس للفرد الرشيد.

خلاصة واستنتاج

موقف افلاطون في الجمهورية هو ان الحياة الخيرة تُعرّف طبقا لعلاقتها بالحياة الاخلاقية. هناك، حسب افلاطون، الكثير من الحياة الخيّرة مقارنة بالاخلاق، لكنه من الضروري اعطاء افضلية مطلقة للاخيرة. وبالرغم من ان  حياتين اخلاقيتين اثنتين ربما ليستا خيّرتين بالتساوي، لكن الحياة الاخلاقية هي دائما أرقى من الحياة اللااخلاقية بصرف النظر عن المنافع التي تبدو في الاخيرة. موقف افلاطون يتضمن ان الصراع بين الحياة الخيّرة والحياة الاخلاقية هو مستحيل منطقيا، بسبب علاقاتهما الداخلية.

هناك فرق بين الواجب والعدالة،من حيث الطريقة التي يفكر بها افلاطون في هذين المفهومين. الواجب هو كلمة تنطبق اساسا على الفعل، بينما العدالة، في فكر افلاطون، تنطبق اساسا على الناس. ولكن رغم هذه الاختلافات، مقارنة افلاطون بين العدالة والمصلحة  تشبه كثيرا ذلك الفرق بين الواجب والمصلحة،وعليه نحن نستطيع اعتبار العدالة والواجب هما واقعيا مفردتان لهما نفس المعنى.

يعتقد افلاطون ان هناك اسباب موجبة للعمل ضد مصالحنا الفورية من أجل العدالة وخير المجتمع المدني ككل. القليل ذُكر حول الناس، كمنتجين، في الجمهورية، لأن افلاطون مهتم اساسا بمواقف ودوافع الفلاسفة وبنشاطاتهم في المدينة كحكام . هو لم يؤمن بان الدافع الوحيد الممكن والمعقول للتصرف بعدالة هو زيادة متعة وسعادة المرء.

وفق المنظور الفلسفي الحديث لابد من عمل خيار في حالات الصراع بين الواجب والمصلحة – الخيار بين مفهومين، مستقلين،لا يمكن اختزال اي منهما الى الآخر. الفرق الحاسم والاكثر اهمية بين الافكار الاخلاقية لافلاطون المعبّر عنها بالجمهورية، والافكار الفلسفية الحديثة حول الصراع بين الواجب والمصلحة، هو الموقف المتميز والمتعالي الذي اُعطي لفكرة الخيرية او شكل الخير، وهي الفكرة التي انطوت على كل اشكال الخيرية. ماذا تعني في الواقع الأهمية العظيمة للمفهوم المتفرد للخيرية؟ الخيارات التي تتم عادة بالعقل يعتبرها افلاطون كقرارات حول ما هو خير او حسن – وهي تمثل الخير الى أقصى درجة . رؤية افلاطون هي اننا يجب ان نعرف ماهو حقا الأحسن لكي نعمل الخيار بين الواجب وخير المرء. المشكلة بالنسبة لافلاطون،في هذا السياق، هي تطوير مفهوم للخيرية فيه ما يكفي من الوضوح والتميز لكي نستطيع عمل خيار بين الواجب والمصلحة،وهو الخيار المثالي في خيريته، او احسن الخيارين.

وبالضد من الافكار الحديثة في الخيرية – المنافع، الامتياز، الكمال وغيرها – افلاطون يسمح فقط بفكرة واحدة للخيرية وهي شكل الخير، الفكرة التي لا يمكن اختزالها لأفكار اخرى للخيرية. هو يؤسس نظرية تسمو على الافكار الاخرى للخيرية. ذلك لكي يتجنب امكانية الصراع،في التفكير العملي، بسبب مختلف افكار الخيرية غير القابلة للاختزال.

ان محاولة افلاطون في التعامل مع فكرة الخيرية كفكرة منفردة، توفر المعيار المطلق للاستخدام في ممارسة التفكير العملي. هو يحاول تبيان اننا نستطيع حل التوترات الظاهرة بين مختلف انواع الخيرية،عبر ادراك ماهية الخير النهائي، ورؤية كيف يمكن تمثيله في العالم الفيزيقي. هو لم يهمل العقل او العقلانية من مشروعه، لأن مهمة العقل  هي ادراك الخير ووضع خطة استراتيجية للفعل. الوظيفة السليمة للعقل هي الادراك الصحيح والدقيق للخير، واستعمال ذلك الادراك – بدلا من مفهوم العقلانية- حينما نأتي لنفهم بالضبط كيف يجب ان نعيش ونتصرف. وعليه فان ادراك شكل الخير هو الذي يساعد في توجيه حياتنا وافعالنا الاخلاقية، وليس العقلانية التي نستخدمها مباشرة في انجاز ادراكنا للخير.

يعتقد افلاطون ان فكرة الخير فيها السمات الضرورية لإبلاغنا وارشاد افعالنا، وايضا تعمل على تكوين وتوجيه شخصيتنا الاخلاقية. العدالة والمنافع الشخصية هما نوعان من الخير سنقوم بفحصهما لكي نكتشف منْ له الأسبقية على الآخر. فكرة العدالة تُعامل باعتبارها فضيلة او امتياز، او كنوع من الخيرية. اما فكرة المنافع او المزايا هي الخير لبعض الافراد او للمجتمع المدني. اي من هذين الخيرين اكثر اهمية في تلك الظروف التي تهم افلاطون؟ الفلاسفة او الحكام سيختارون خير المجتمع ويفضلونهُ على خير انفسهم،لأن ادراك شكل الخير لا يحتاج الى كفاءة او أهلية qualification ، الخيرات الاخرى هي خير فقط حين توجد درجة من الأهلية.

ان حكومة المدينة منشغلة بمنافع الجماعة المدنية ككل، وان خير الجماعة يُعتبر كخير بدون اهلية، ولذلك فهو يسمو على المصالح الفورية المباشرة للفرد. ان خير المدينة، باعتباره خير بلا اهلية، يأخذ الاسبقية على خير المرء لأن خير المدينة هو مُتضمن بتطوير العدالة في الجماعة المدنية. انه ايضا يتجاوز المصلحة الذاتية للفيلسوف الحاكم، المتحمس للتصرف بعدالة، ومن ثم بأخلاقية، بسبب معرفته السابقة بشكل الخير. وعليه، فان اطروحة افلاطون الاخلاقية تعطي مكانا فريداً لمفهوم موضوعي واحد للخيرية، وان جميع المفاهيم التقييمية الاخرى هي تابعة وخاضعة لفكرة الخير هذه (الفكرة بدون أهلية).

 

حاتم حميد محسن

.............................

Stuart Hopkins, Justice and Morality in Plato’s Republic, Pathways school of philosophy.

المصادر:

1- اناس جوليا (Annas, Julia)، مدخل لجمهورية افلاطون، اكسفورد 1981، فصل 3 صفحة 59- 71، فصل 6 صفحة 53- 169، وفصل 13، صفحة 331- 334.

2- اروين تيرينس (Irwin, Terence)، اخلاق افلاطون، اكسفورد 1995، فصل 12، صفحة 181- 202.

3- كراوت ريتشارد (Kraut, Richard)،دليل كامبردج لجمهورية افلاطون، مطبوعات جامعة كامبردج،1992، فصل 10 صفحة 311- 337.

4- ناجل توماس (Nagel, Thomas)، رؤية من البعيد،اكسفورد، 1986، فصل x، صفحة 189 – 207.

5- وترفيلد، روبن (Waterfield, Robin)، جمهورية افلاطون،1993.

6- وايت، نيكولاي (White, Nicholas)، دليل لجمهورية افلاطون، انديانابولس، امريكا، 1979.

 

 

سامي عبد العال: لا نظرية حول المرأة

التفاصيل
كتب بواسطة: د. سامي عبد العال

سامي عبد العال"المرأةُ لو أرادت هزيمةَ الأقدارِ لفعلّتْ".. عبارة خطيرة فلسفياً لنيتشه. ولكن ليس هناك شيءٌ أقل من دفع معناها إلى أقصى مدى، في اشارةٍ إلى روح الأسطورة داخل كيانها الأنثوي. والمعنى يمثل التواري الخلاّب لما هو خبْيء في إنسانيتها الثرية: هذا اللا متوقع، المستحيل، العجائبي، المذهل، الخُرافي.. إلى أخر التداعيات الحرة للخيال والرغبة والفعل. فلن تكون المرأة نظريةً في الفكر ولا حقيقة مادية قابلة للمعرفة. يبدو إنَّها استعارات مراوغة، صور مخاتلة فوق كل التحديدات، أي تمثل نزوعاً نحو الانطلاق والانعتاق والتحرر. وذلك بحكم طبيعتها لا بمجرد مساحيق خارجية. وربما تأتي من زاويتها عواصف لا يتخيلها "عاقل" بالتقنيات الفلسفية أو الاجتماعية. وقد تسقط تحت أقدامها جميعُ التصورات المسبقة رغم أنَّها كانت أول ضحاياها.

أبرز ما وقعت في حبائله المرأةُ هو نظريات النسوية ذات البعد الأيديولوجي. لأنَّها لم تحررها، بل وضعتها تحت الوصاية المقلوبة. أي بدلاً من هيمنة الذكورة الخشنة والعارية على كيانها، جاءت النظريات النسوية (بإبداع الذكور الإناث) لتضع المرأة في إطار وثير الجانب. واسمت نفسها توجُهات نسوية تحت موافقة النساء... وكأنَّ هناك توجهات أخرى ذكورية تترصدها عن كثب. وبالتالي تغذي النظرية أو الأخرى بعضاً من غرورهن المراق، فالنظرية النسوية باختلاف أشكالها لا تقف إلاَّ على ثنائيات: الذكر/ الأنثى، المرأة / الرجل، الحب/ الكراهية. وبناء على ذلك أخذت في تعريتها وجعلتها نهباً لسلطة الأديان والمجتمعات، كما أنّ صيغ النظريات عنف مغلَّظ بحماية معرفية غير قابلة للكسر.

حيث تُوْضع الأنثى في أغلفة نظرية مجازية كنوع من التكفين والدفن العلمي. لكن يأتي ذلك باسم التحليلات والآراء والانتقادات المتظاهرة بالحياد تلك المرة. فالمعرفة الفلسفية تحدد ماهية النساء كموضوع يفتقر لأية مفاجأة، لأي تمرد، لأي خروج من الأطر الموضوعة. تسلبهن ثراءً متنوعاً لا حدود له. ثم تستبدله بمعايير ومطالب تفقد بريقها عند الحد الأدنى من وجودهن. إنَّ المفاهيم المجردة تربط المرأة بالأنوثة الأقل من الذكورة. وهذا لا يعود إلى الطبيعة، بل إلى الثقافة.

والنظريات تقول أيضاً: ها أنْتِ سيدتي (كما أنْتِ)... بعبارة واضحة: إليك أيتها المرأة ماهيتكِ التي لا تتغير. أنت الجانب الضعيف حرفياً لا شيء سواكِ. لتعبر لها عما يكمن في أعماقها من أشياءٍ مفترضةٍ. بينما وجوه المرأة ليست كذلك بالضرورة. كما ترى الفرنسية سيمون دي بوفوار أنَّه: " لا تولد المرأة امرأةً بذاتها، إنما تصير إلى ذلك من خلال المجتمع".

وفوق ذلك تجمد بعض النظريات وجود المرأة كأنَّها مومياء في هيكل تاريخي واحد. فجاءت الأفكار السابقة عنها هي البديل غير العضوي لإمكانية فهم النساء كما يُراد لهن. وتدريجياً تختفي المرأة كعلامة وانكشاف لصالح المرأة المرغوبة أو المكروهة اجتماعياً. حتى أنَّ أغلب النساء قد لا يتعرفن على صورهن في مرآة الآخرين. أمام الناس يجب عليهن أن يرتدين أزياء ثقافية واخلاقية فُصلَّت إليهن من قبل. لم يتدخلن في شيء: أجسادهن، حياتهن، زواجهن، مصيرهن، رغباتهن، علاقاتهن، مستقبلهن، أحلامهن، أخيلتهن. أشياء لها إطار تمَّ انتاجه وتسويقه وترويجه كما يريد نظام المجتمع. إنها الصورة البرّاقة للمرأة من الخارج والكئيبة إلى حد الغسق في داخلها!!

يرى اوسكار وايلد: النساء وجدن لنحبهن فقط لا لنفهمهن إذ يستحيل فهم المرأة كموضوع للتفكير". ومع سلبية بعض هذه الآراء إلاَّ أنَّ أحد أسباب مشكلة المرأة فعلاً هو محاولة عقلنتها. أي وضعها في اطار عقلاني rational framework يتماشى مع القالب المفهوم والمدّجن في الحياة الاجتماعية. عندئذ تقابل المرأة أشباح الذكورة أينما ذهبت في جوف العقلانية. لأن تاريخ العقلانية هو تاريخ الذكورة منحازةً إلى ذاتها على الأصالة. سقراط قديماً قال: " لا تخفْ من كراهية الرجل.. ولكن تجنب حب المرأة". وهي فكرة ترمى أبعد مما تعبر لأول وهلة. فكراهية الرجل يمكن التغلب عليها ويمكن مقارعة الرجال بالقوة. أمّا الحب الأنثوي، فقد يأتي إلى عقلك بما يناقضه من الأساس. كما أنه ينتهي إلى أسر روحي وعاطفي لا تجد فكاكاً منه. وحب المرأة قد ينقلب إلى كراهية لا تبقي ولا تذر. هذا هو الغالب على صورة النساء في الخيال الشعبي.

كما أن الغرائز والرغبات والأهواء كانت دوماً في تراث المذاهب الفلسفية والنظريات والأيديولوجيات ضد العقلانية. لقد ربط ديكارت الأهواء- مثلا- بحيل الشيطان الذي يتلاعب بالإنسان، جاعلاً إياها مرحلة عابرةً وصولاً إلى الحقيقة. حيث يجب إظهار وضوح العقل وصرامته وتنصله من كافة المنغصات الأخرى. وهذا الرأي يعبر عن اقصاء لما هو غامض. وكأنه يطرد الهوى والحب- وهذان يرتبطان بالأنوثة- من مملكة العقل، وأنهما غير ضروريين مهما حاولا التسلل إلى ساحة الفكر.

وذلك كان وراء وضع المرأة نقيضاً للرجل: هذا بحكم أن الأهواء عكس التعقل. فهي ليست طرفاً في صراع حتى يناصبها الرجال العداء. لكنها دوماً حضور وغياب، تناقض ومفارقة وهذا بكامل كيانها. المرأة لا تتجزأ، ولا تتفصل عن بعضها البعض. أي هي كائن إنساني ضد التبعيض والتقسيم. وإذا كانت لتأتٍ هنا أو هناك، فهي كاملة تماماً. إن الوجود الحر لها ينشر مساحات الفراغ في حضورها. يرى جان جاك روسو أن المرأة لا تفصل تفكيرها عن رغبتها، أو هي رغبة مفكرة حتى الثمالة، لأنها " تعتقد بناء على ما تُحب". فالعالم لديها غني وطافح بتفاصيله وتكوينه وآثاره أيضاً. ولذا تشكل المرة عادةً ذاكرة حية ضد النسيان. هي الاستثناء الوحيد تقريباً: ذاكرة لا تُنسى ولا تُقصى بالوقت عينه. ولهذا كانت هي التهديد- المخيف عن قصدٍ أو غير قصدٍ- لكل الأنظمة الاجتماعية المتخلفة. فأينما حلَّت المرأة، تفتح مجالاً للغة، للمعنى. ونحن نعرف أن سلطة الخطاب في المجتمعات الإنسانية لا ترضى عن المركزية بدلاً. من هنا كانت الأنثى خيطاً في هذا الخطاب، مساراً هامشياً، لكنه يفتتح عمل كل شيء سواه.

ذلك بفضل أنها كأنثى تحمل زمناً في حالة كثافة سرديةٍ. وبالتالي كم ارتبطت النساء بفكرة الحكي وصياغة القصص والاحاجي والألغاز وسرديات الخيانة والإغواء. في الثقافة العربية كانت شهرزاد.. هذا النموذج للمرأة التي تُعطل المصير وتطيل الزمن وتقرر نهايات الأشياء. وتجاوزاً ليست شهرزاد هي الكيان المغلوب على أمرة. بل هي القص الغرائبي ذاته. حبكته الدرامية رغم أنها تنتظر في سكون اللغة. لأنها حملت الأعماق النائية لتأجيل الرغبة إلى مالا نهاية. وهي أيضاً مقدار التشويق الفائض نحو المزيد. وكل أدب لا ينقل هذا الطفر بمضامين المرأة ليس أدباً. لأنَّه لم يلامس قاع الرغبة الصامتة ضمن السرد. وتبدو المعرفة (حتى عاجزة) عن نقل إيقاع المرأة العصي على التجلي. مثلما هي دلالة التخييل بجميع ألوانه المجنونة. فالأخيرة هي الحياة، أي الاغواء المتوالي للمجهول وخلق الاشياء من غموضه.

ومن هنا لم يعد ليعرف المجتمع ناهيك عن الرجال كيف يسيطرون عليها. وذلك بتزامن مقولتي (الحضور والغياب) دون انفصالٍّ بينهما. فعلى من يتصور النيل من المرأة أن يكف فوراً عن مطاردة أشباحه قبل سواه. لأنه في الحقيقة يطارد وجوده. كما أنها ليست آخرَ بالمعنى التقليدي. بما يشيء كونها خارج الذات. فيتصور أنها ضحية ومفعول بها على الوجه الأقرب. إذن من يستطيع معرفة النساء؟ ومن بإمكانه تحديد موقعهن كأنَّه جهاز حداثي لاقط؟

ليست الفكرة هنا سخرية ولا تضخيماً لما هي المرأة. لكن الاشارة محتملة إلى تشيؤ الأنثى كما في المجتمعات الشرقية. فهي (متاع الحياة الدنيا ) بمنطوق التراث الديني. وبالتالي منذ اللحظة الأولى هي سقط المتاع. وإذا كانت الحياة دنيا (في وضع مُحقَّر بالأساس) فكيف بمن هي متاع المُحقَّر؟ بالتأكيد ستكون أقل من الشيء المحقر كما هو شائع. حيث تخضع اجتماعياً إلى مراقبة جمعية لا تترك في هيئتها صغيرة ولا كبيرة إلا أحصتها.

والتراث الديني المشار إليه يكرر معطى ثقافياً واجتماعياً. كأنه يؤكد ا =أ (أ هو أ) على طريقة قانون الهوية لدى أرسطو. لتسوِّق الثقافة قولاً كهذا بتراكم للأفعال والتصورات العنيفة حول النساء. مع أنهن قادرات على اتاحة زوايا مختلفة في الحياة الانسانية. فهن كائنات غير قابلة للتصنيف بسهولة كما قلت. المرأة خارج التوقعات: إرادتها، صورتها، أساليب تواصلها. جميع ذلك يجدد سؤالاً: من هو الرجل؟ كيف سيتصرف إزاء نفسه؟

كان نيتشه محقاً عندما قال: "المرأة لا تريد الحقيقة، الحقيقة أخر همها.. لا شيء تمقته المرأة وتعافه أكثر من الحقيقة". لديه كل الحق وإن كان يقصد التقليل منها. فالمرأة أبعد من الحقيقة. لأن الأخيرة هي الشكل العيني لمفاهيم العقل والمعارف التقليدية.. كيف ستكون موضعاً لعناية المرأة؟ لا تتطابق المرأة مع نفسها على نحو ثري وخارج السيطرة، فلماذا سيكون مطلوباً تطابقها مع شيء خارجي؟! بالتأكيد سيكون التطابق دخيلاً عليها بينما جوهرها هو الاختلاف. ولهذا أشار نيتشه أيضاً أن:" الحقيقة أنثى وعلى المرء ألاَّ يغصبها". أي الحقيقة غير ما نتصور عنها، أي غير ما تزعم. هي حالة خاصة تحت علامات الخطر. يجب وضعها بين قوسين (الأبوخية على طريقة هوسيرل).

والنظرة البعيدة أنَّ المرأة هي زخم الحياة. فهي الوجه الثري لما نحن عليه. رغم الحروب الاجتماعية والثقافية الطاحنة حولها. بدءاً من التقاليد وانتهاءً بتدجينها تحت مظلة الديانات بلافتات عديدة.

 

سامي عبد العال

 

مجدي إبراهيم: الإمام الجنيد.. سيد أولياء الإسلام (2)

التفاصيل
كتب بواسطة: د. مجدي ابراهيم

مجدي ابراهيمصحُبَ الجنيد خَاله السّريّ السَّقطي والحارث بن أسد المحاسبي وتأثر بطريقة كل منهما إنْ في التصوف الخالص كما في حالة السري السَّقطي، وإنْ في التصوف الممزوج بعلم الكلام والعقائد كما في حالة الحارث بن أسد المحاسبي. ولقد كانت صحبة الجنيد للحارث المحاسبي ذات أثر بالغ في تحويل التوحيد والعقائد الإسلامية الكبرى من ميدان علم الكلام والجدل العقلي إلى ميدان التصوف والتجربة الذوقية، وهذه في تقديري نقطة بالغة الأهمية؛ يمكن استخلاصها من لوازم الصحبة الشديدة بين الإمامين، وهى صحبة تكشف من الوهلة الأولى عن تلمذة الجنيد للمحاسبي بالمباشرة.

ومن الأهمية بمكان أن يركز على هذه النقطة كل باحث يعرض لأثار الجنيد من قريب أو من بعيد، أعني نقطة نقل التوحيد من مجال علم الكلام والجدل العقلي إلى ميدان التصوف والتجربة الذوقية، وذلك لأنها فيما نرى نقطة بالغة الأهمية حقيقةً: أن يصبح التوحيد شعوراً يُحَس ومعنى يُذاق وتجربة تعطي ممَّا عندها. أي نعم ! تجربة ذوقية لا عمل عقلي أو فلسفي !

ونحن نعلم أن للمحاسبي مكانة كبيرة في الفكر الإسلامي سواء كانت هذه المكانة مختصة بعلم الكلام أو بالتصوف، الأمر الذي أدى بصاحب "حلية الأولياء" أن يروي عن الجنيد أكثر من أربع عشر رواية توضح تأثره بأستاذه تأثراً شديداً بمقدار ما توضح تطور العلاقة فيما بينهما من طريق قائم أساسه على الشرع، ومنهجه على الاعتدال، وفحواه ومضمونه على العلم بالكتاب والسنة.

إنه ليقول:" كنتُ كثيراً أقول للحارث: عزلتي أنسي! وتخرجني إلى وحشة رؤية الناس والطرقات؟ فيقول لي: كم تقول لي أنسي في عزلتي؟ ولو أن نصف الخلق تقربوا مني ما وجدت بهم أنساً، ولو أن النصف الآخر نأى عني ما استوحشت لبعدهم ".

وما بين الأنس والوحشة تدور بين المحاسبي والجنيد مناقشات في أسرار الطريق فصَّلناها في كتابنا التصوف السُّني ( راجع كتابنا: التصوف السني .. حال الفناء بين الجنيد والغزالي، ص 266 وما بعدها).

وكما شهدت هذه المناقشات الروحية بين المحاسبي والجنيد، شهدت مثلها وأكثر منها بين الجنيد وخاله سري السقطي أستاذه أيضاً، ومربيه، ومرشده، ومعلمه أذواق الطريق الصوفي وأسرار المُضي فيه قدماً غير محدود.

فكما صحب الجنيد الحارث بن أسد المحاسبي وتأثر بمنهجيته السنية المعتدلة، صحب كذلك خاله ومعلمه فنون التربية الذوقية الروحية، كأرْوَحِ وكأفيدِ ما تكون الصحبة بين عظماء الطريق، وهو الإمام العالم العابد السري السقطي (ت251هـ) أول من تكلم ببغداد في لسان التوحيد، وأول من تحدَّث في حقائق الأحوال على طريقة القوم، وهو إمام البغداديين، وشيخهم في وقته على حد ما وصفه أبو عبد الرحمن السلمي، صاحب الطبقات, ص 48).

 ولنلحظ أن خصوصية منهج الجنيد في التوحيد قد انعكست عليه من خلال صحبته للحارث بن أسد المحاسبي وللسري السقطي مباشرة. ولقد كانت لهذه الشخصية الأخيرة ما كان للأولى ويزيد؛ من أثر بالغ على طريقة الجنيد وأسلوبه ومنهجه في الدعوة إلى الله، بمقدار ما كان لها من أثر بالغ أيضاً على نشاطه الروحي وممارسة منازلات الحال في عالم الشواهد الروحية؛ حتى إذا ما رأينا الجنيد يقول عن السري السقطي:" وكان إذا أراد أن يُفيدني سألني فقال لي يوماً: ما الشكر؟ فقلت: أنْ لا يُعصي في نعمة. فقال: ما أحسن ما أجبت، ما أحسن ما تقول. قال الجنيد: وهذا هو فرض الشكر: أن لا يعصي في نعمة"؛ جزمنا بوجود منهجية تعليمية ذوقية راقية بين الأستاذ والتلميذ، هى قوام العقل الدعوى لدى كبار شيوخ الطريق، أعني العقل الدعوي الإسلامي الصحيح بمفهومه الحقيقي لا المزيف، يقوم به "العارف" - ولا يطيقه الجاهل! - على أكمل وجه، على بصيرة من طريق الموافقة كما كانت عليه الحال في الصَّدْر الأول لدى رسول الله، صلوات الله وسلامه عليه، ولدى صحابته وخيرة التابعين؛ رضوان الله عليهم.

ولك أن تلحظ فرض الشكر هنا أنْ لا يُعْصَى في نعمة, تجد المعنى هو أنْ لا يعصى الله والعبدُ في نعمة, بل النعمة توجب الشكر ولا تدفع بالعبد إلى العصيان. وشكر النعمة مُوجب لبقائها لكأنما الشكر يصونها محفوظة من الزوال. والعصيان مُوجب لزوالها، فمن صانها بالطاعة والمولاة أدى فرض الشكر عليها، ومن شَاَنَها بالمعصية وأهمل حقها أسقط هذا الفرض، فأوْجَبَ على نفسه من فوره زوالها عنه في غير مَلامة. ومعناه عندي عميق جداً لكأنه يقول: تجرّد لنعم الله فيك، فإنِّ النظر إلى الأغيار وبال، يرفع الشكر عن النعم، ويقطع الاتصال بالمنعم ويجرد المرء لممارسة الحظوظ. كثرة التأمل في نعم الله فيك - بموجب شكرها - أنفع لك من أن تصرف نظرك إلى غيرك؛ لأن النظر إلى الأغيار وبال. والله الذي خلق سواك خلق لك أنت أفضل من السّوى، ولكنك محجوب عن فضله بالأغيار، وأشدُّ من هذا الحجاب قسوة وشناعة حجابك عن نفسك بنفسك، وحجابك عن ربك بنفسك، وإنما شغلك بالأغيار ليبتليك بالحجاب، وكل بلاء يحتاج إلى صبر واحتساب، وما من صبر أشدُّ وأقسى على النفس من كثرة الحمد على الحجاب؛ لأنه لو كشف لك كل حجاب لأدخلك حظيرة الهوس والفقدان، فاستحضار الحمد على الدوام هو غاية الغايات من قوام العبوديّة على الاستقامة.

هذه عندي منهجية أساسها التعليم ومفادها الترقية، وهى لا تقع في الغالب إلا بين كبار الأئمة: حُكمها حكم العارف الذي يدعو إلى الله على بصيرة، وليس حكمها حكم غير العارف الذي يدعو إلى الله على ظلمة وجهالة.

كانت بينهما - السري والجنيد - من الروابط الروحية والعلاقات المعرفية ما من شأنه أن يدل من الوهلة الأولى على اتصال الجنيد بالسري اتصال التلميذ النجيب بالأستاذ الكبير، وولائه له، ومكاشفة الأستاذ بما في قلبه للتلميذ فيما لو عَرَفَ عنه فراسة الروح وصفاء الفؤاد وخلوص السريرة. فمن بين تلك الروايات التي يذكرها الجنيد عن خاله وأستاذه ما يؤكد هذه الروابط المعرفية أو العلاقات الروحية الدالة من أول وهلة على تخريج ذوقي كاشف في وضوح عن تلك الروابط أو هذه العلاقات.

قال الجنيد: " دخلت يوماً على السري فوجدتُ رجلاً مغشياً عليه فقلتُ له: ماله! فقال: سمع آية من كتاب الله تعالى فغُشيَ عليه. فقلتُ له: يُقرأ عليه الآية مرة أخرى. فقرئت، فَأفَاقَ الرجل. فقال السري: من أين علمت هذا؟ فقلت: إنّ قميص يوسف عليه السلام ذَهَبْ بسببه عينا يعقوب عليه السلام، ثم عاد بصره به، فأستحسن ذلك مني". وفيه ما يدلُ على تخريج ذوقي من الجنيد يستنبط منه فن الإشارة بمقدار ما يدل بالقطع على علمه العميق بكتاب الله.

وعن الجنيد أنه قال:" كُنْتُ أعود السري في كل ثلاثة أيام عِيَادة السُّنَّة، فدخلتُ عليه وهو يجود بنفسه فجلست عند رأسه فبكيت وسقط من دموعي على خده، ففتح عينه ونظر إليَّ فقلت: أوصني فقال:" لا تصحب الأشرار، ولا تشتغل عن الله بمجالسة الأخيار". وهنالك من أساتذته شخصية صوفية ذات أثر عليه في الطريق يذكرها الجنيد بكل فضل وكل خير، وهى شخصية محمد بن على القصاب (ت 275هـ)، وكان الجنيد يقول عنه:" الناس ينسبونني إلى سري السقطي، وكان أستاذي محمداً القصاب ". وعلى الرغم من قول الجنيد هذا في القَصَّاب؛ وهو تقدير منه لأستاذه كعادة القدماء في الالتفاف حول جميل القيم إلا أن أثره الذوقي والعلمي عليه - ولو فيما نراه نحن - لم يكن بالأثر الذي كان للحارث المحاسبي أو للسري السقطي.

اكتسب الجنيد من أساتذته، ومن تجربته الشخصية، ومن جهوده العلمية والتعليمة، مكانته في الحياة الروحية الإسلامية؛ فكانت له شخصيته البارزة على التصوف بإطلاق. دَفَعَ في وجه كل منظة يمكن أن تنسب إلى هذا الطريق أو إلى أهله. وكما تأثر بمن سَبَقه من رجال الروح أثرَّ كذلك في المدارس الروحية الكبرى التي جاءت فيما بعد.

ومن المؤكد أن جهلاء الصوفية في عصره قد وقعوا في أخطاء شَنِيِعَة، كان التصوف من قِبَل المغرضين بمقتضاها عُرْضَةً للقدح في الصالح والطالح على السواء. ومن هذه الأخطاء القول بإسقاط التكليف، فما كان منه وهو العالم العامل الورع إلا أن يكون سيفاً مسلولاً على رقاب هؤلاء الخارجين على الشريعة حتى إنه سمع يوماً رجلاً ذكر المعرفة وهو يقول:" أهل المعرفة بالله يصلون إلى ترك الحركات من باب البر والتقوى إلى الله تعالى"؛ فلم يكد يسمع منه هذا الكلام الفارغ من المعنى، المضيع لحقوق الشريعة حتى أنتفض على القائل من فوره قائلاً:" إنّ هذا قول قوم تكلموا بإسقاط الأعمال، وهذه عندي عظيمة. والذي يسرق ويزني، أحسن حالاً من الذي يقول هذا. وأن العارفين بالله أخذوا الأعمال عن الله، وإليه رجعوا فيها، ولو بقيت ألف عام لن أنقص من أعمال البرِّ ذرة إلا أن يُحَال بي دونها، وأنه لأوْكَد في معرفتي وأقوى في حالي". وليس معنى إسقاط التكليف ترك الأوامر أو النواهي الإلهية أو إسقاط الحركة فهذا ما لم يقل به مَنْ ينتسب إلى الإسلام حقيقةً بل معنى الإسقاط هنا هو إسقاط الكلفة والمشقة الغالبة لا إسقاط التكليف.  

وإنك لترى في قوة هذا التشديد على حق الشرع دلالةً قاطعةً على أن التصوف في الأساس تعظيمٌ للشريعة، إذْ لولا الشريعة ما كانت الحقيقة؛ بل لن يشم أحد مطلقاً رائحة الثانية وهو على حال التقصير في أمر الأولى. ولما أن قِيلَ له إن جماعة يزعمون أنهم يصلون إلى حالة يسقط عنهم فيها التكليف، قال ساخراً:" وَصَلوا وَلكن إلى سَقَر".

لقد ضبط الجنيد علم التصوف ضبطاً محكماً على تلك الأصول الشرعية، وحفظه بحفظ الكتاب والسنة:"علمُنا مضبوط بالكتاب والسنة، ومن لم يحفظ القرآن، ولم يكتب الحديث، ولم يتفقه في الدين؛ لا يُقْتَدى به في هذا الأمر": أمر التصوف؛ كونه علماً للباطن. أمر التصوف الذي قال فيه:" لو عَلِمْتُ أنَّ لله تعالى تَحْتَ أدِيم السماء أشرف من هذا العلم الذي نتكلم فيه مع أصحابنا وإخواننا لسعيتُ إليه ولقصدته ".

ومن أجل هذا؛ من أجل تعظيم الحركة في الإسلام لا إسقاطها كما يدعي الأدعياء واللصقاء، من أجل تعظيم الشريعة الظاهرة، وانتصاب "أعمال أدلة العمال" من ذوي الخدمة؛ كان أول من ظهر عليه هذا التعظيم لأمر الشرع هو الجنيد نفسه، فلم يترك أوراده حتى في حال نزعه، فلما أن قيل له في ذلك! قال:" ومن أولى مني بذلك وهذه صحائفي تطوى"؛ فلم يترك الخدمة - رضى الله عنه - ولا ترك العمل وهو في مثل هذه اللحظة، "لحظة الموت"؛ فكيف بسواها؟. وقد عُرف عنه جده واجتهاده؛ الأمر الذي يتبيَّن معه أن الصوفي الحق لا تفارق أقواله أفعاله، ولا توجد هوة وسيعة بين ما يقول وما يفعل، وأن قوله هو فعله، وأن فعله يؤكد قوله. يؤسس فكره دائماً وأبداً على الإخلاص.

وإنه ليس برجلٍ مزدوج الشخصية ولا هو بمزدوج المعايير الخلقية: لغته حياته، وحياته يمكنها أن تظهر في مقولته: بساطة في عمق، وعمق تتولاه بساطة. على نحو ما يقول يفعل، وعلى نحو ما يفعل يقول، وليس فيما يفعل أو فيما يقول من فجوة بينية تنقض الشخصية وتحقرها أمام ذاتها فضلاً عن تحقيرها أمام الله وأمام الناس. ليس هناك انفصام بين الاعتقاد والسلوك. الخطاب الأيديولوجي هنا موافق تماماً للممارسة العملية، والنظرية هى هى التطبيق الفعلي، والتطبيق الفعلي متسق مع النظرية.

إن مقام الجنيد في الرسوخ والتمكين، ومقاومة الانحراف البادي عند من يدعي الطريق ادعاءً لا حقيقة فيه، ومقامُه بين أقرانه في التصوف لهو الذي أهله - كما قلنا فيما تقدَّم - لأنْ يتصدر الطائفة البغدادية ويلقب عن جدارة بــ " طاووس العلماء". فأما مقاومة الأدعياء ممَّن انحرفوا عن جادة الاستقامة وأرادوا إسقاط التكليف فقد عَرَفناه.

وأما مقاومة أقرانه ممن اختلفوا معه نظراً لمنهجه المعتدل القويم - ونظراً لهذا المنهج نفسه فقد أختلف معهم وشَنَّ عليهم حملاته الضارية، كالحلاج والشبْلي - فنحن نسوق لك فيها روايتين، الأولى ذكرها الهجويري عن رفض الجنيد صحبة الحلاج، والثانية أوردها السراج الطوسي عن مناقشات دارت بين الشبلي والجنيد.

فأما الرواية الأولى فإن الهجويري يقول فيها:" مما قرأته في الحكايات أن الحسين بن منصور الحلاج - في حال غلبته - تَرَكَ صحبة عمرو بن عثمان المكي، وأتى إلى الجنيد، فسأله الجنيد: ما الذي أتي بك؟!. فقال الحسين: طمعاً في صحبة الشيخ. فقال الجنيد: أنا لا أجتمع بالمجانين، والصحبة تتطلب كمال العقل، فإذا لم يتوفر ذلك، تَصَرَّفتَ معي كما تصرفت مع سهل بن عبد الله التُّسْتَريّ وعمراً. فردَّ الحسين: يا شيخ! الصحو والسُكر صفتان للعبد، ومادام العبد محجوباً عن رَبّه تفنى صفاته. فقال الجنيد: يا ابن منصور، أخطأت في الصحو والسُكر؛ لأن الصحو بلا خلاف عبارة عن صحة حال العبد في الحق، وذلك لا يدخل تحت صفة العبد واكتساب الخلق، وأنا أرى يا ابن منصور في كلامك فضولاً كثيراً وعبارات لا طائل تحتها ".(كشف المحجوب, ص 225- 226, وأيضاً: أخبار الحلاج؛ ص 39).

لم يكن الجنيد ممن يبغضون الحلاج لهوى في نفسه أو لمنافسة كانت بينهما في ديوان الولاية, ولم يكن هنالك بغض أصلاً اللهم إلا إذا عددنا الخلاف في وجهات النظر بغضاً !

ففي هذه المناقشة خلافٌ في المنهج: منهج الجنيد في التصوف ليس كمنهج الحلاج، ولا منهج الرسوخ والتمكين كغَلَبَات الحال حركةً وانزعاجاً. يؤثر الجنيد الصحو؛ لأنه عبارة عن صحة حال العبد. ويفضل الحلاج المحو؛ لأنه صفة للعبد يزول بها عنه - نظراً لفنائه - الحجاب. إن قسوة الجنيد مع الحلاج مَرُّدها إلى منهجه الصحيح المعتدل، وحفظه للشرع من منظة الظانين، وإنه لمنهج إلى الغيرة على الطريق يرجع لا إلى شيء فوق هذا أو أبعد من هذا. وبنفس المنهج المضبوط بالشرع ضبطاً محكماً، المقيد بتعاليمه على ما يعطيه العلم، المؤثر للصحو والحضور في حالات انفلات الباطن؛ رفض الجنيد الحلاج ولم يقبله من اللقاء الأول بينهما؛ لخروجه في نظره عن آداب الطريق.

وفي أخبار الحلاج مما رواه أبو محمد الجسري رواية تفسر تَوَلُّهه وقلة قبول الجنيد له أنه قال:" رأيتُ الجنيد ينكر على الحلاج، وكنتُ عنده إذْ دَخَل شاب حسن الوجه والمنظر، وعليه قميصان وجلس سويعة ثم قال للجنيد: ما الذي يصد الخلق عن رسوم الطبيعة؟ فقال الجنيد: أرى في كلامك فضولاً أي خشبة تفسدها؛ فخرج الشاب باكياً وخرجتُ على أثره. وقلت: رجلٌ غريبٌ قد أوحشه الشيخ. فدخل المقابر، وقعد في زاوية ووضع رأسه على ركبته. وقال: فأتيت الشاب وجلست بين يديه ألاطفه وأداريه .. ثم قلتُ: الفتي من أين؟ فقال: من بيضاء فارس إلا أنني رُبيتُ بالبصرة. فاعتذرت منه للجنيد فقال: ليس له إلا الشيخوخة, وإنما منزلةُ الرجال تُعطى ولا تتعاطى ".

فهذا الخلاف البادي بين كبار شيوخ التصوف إنما خلافُ في المنهج تتقوَّم به أسرار الطريق؛ خلاف في سياسة النفس إزاء مفاوز الطريق وقواطعه؛ ليس إلا. فبينما يكون منهج الحلاج مُعبراً عن طفرات روحية عالية أساسها الوجد وغَلَبَات الحال، يجئ منهج الجنيد راسخاً ومُمَكناً؛ مسنوداً على أسس شرعية، متصلاً بقيم البقاء في حظيرة الشرع، والسلامة من الغلو والإفراط، واعتراض الظاهر من العلم أو التشريع. وهنا في الرواية المساقة تلحظ تنبئ الجنيد بصلب الحلاج واضطلاعه من وراء حُجُب الغيب بالخشبة التي سيفسد عليها. وعندما كان يصيح بقوله وهو في حضرة الجنيد بعبارة الجذب "أنا الحق!" يجيبه:" أنت بالحق أية خشبة تفسد!"؛ فتحقق فيه ما قاله الجنيد؛ لأنه صُلب بعد ذلك "؛ وكان الجنيد يقول له كما جاء في أخبار الحلاج وعلى حسب رواية نيكولسون:" أحْدّثتَ في الإسلام ثغرةً لا تَسدُّها إلى رأسك ".

لم يكن الجنيد يرضى عن شطح الحلاج، ولم يكن يقر صَرَخَات الجذب التي تتولاه وتَتَغَشَّاه، الأمر الذي دفعه في الغالب إلى أن يقسو عليه، ولم يقبله ليكون في صحبته. وليس رفض الصحبة من بعدُ بالدليل على خروج الحلاج من ديوان الولاية.

هنالك خلافٌ في منهج التربية الذوقية الذي يدين به الجنيد، وينكره الحلاج؛ لأنه من أصحاب الجذب المُوَلَّهِين. ومن غريب الملاحظات رغم هذا الخلاف الظاهر بين المنهجين أننا نجد البعض منَّا يروح ويسوي بين مذهب الحلاج ومذهب الجنيد؛ ويخلط بين الاتحاد والحلول ووحدة الشهود أو حتى وحدة الوجود، وكأن الثلاثة مذهبٌ واحدٌ لا خلاف فيه أو كأن مذهب الحلاج ومذهب الجنيد ينطلقان في الطريق من حالة واحدة ويستقران سوياً على حالة واحدة، أو أن الحلول الذي يقول به الحلاج هو نفس الحلول الذي يقول به الجنيد، هذا إنْ كان وجد عند هذا الأخير - وهو قطعاً مما لا يوجد - حلول, وأن الاتحاد (Union) بين العبد والرَّب، وهى حالة نطقت بها أقوال البسطامي، إنما هو حالة واحدة هى حالة الحلول (Incornation) التي قال بها الحلاج، وَعَبَّرَ من خلالها عن مذهبه كما استخلصه منه الباحثون.

هنالك فرقُ؛ وفرقُ كبير؛ بين الاتحاد والحلول ووحدة الشهود من جهة، ووحدة الوجود من جهة ثانية، والوحدة المطلقة من جهة ثالثة، وليس المقام مما يقتضي الكلام في هذه التفرقة, فمن شاء الاضطلاع عليها فليرجع إلى فصل بعنوان" حال الفناء في الفكر الصوفي "؛ من كتابنا التصوف السُّني.

أما المناقشة التي دارت بينه وبين الشبلي؛ فهى صريحة الدلالة على منهجه السُّني المعتدل كذلك: منهج التعليم، والتهذيب، والتصحيح، والترقية. ففيما رواه السراج الطوسي بسنده:" ربما كان الشبلي يجيء إلى الجنيد، فيسأله مسألة، فلا يجيبه ويقول: يا أبا بكر، هو ذا أشفق عليك وعلى ثباتك؛ لأن هذا الاضطراب، والانزعاج، والحدة، والطيش، والشطح، ليست هى من أحوال المتمكنين، وهى منسوبة إلى أحوال البدايات والإرادات". فكأنما كان كل ما هو موصوف من أحوال الحركة والانزعاج والحدة والطيش والشطح والاضطراب وقلة امتلاك الحال إنما هو في رأي الجنيد تعبيراً عن حال البدايات، وصاحبه لم يصل بعدُ إلى أطوار الكمال كما هو عند أصحاب النهايات.

فمن أجل هذا؛ من أجل اعتدال المنهج في الطريق، ومن أجل الغيرة على هذا الطريق نفسه من أن تلوثه أغراض الحانقين، اختلف الجنيد مع أقرانه وأصحابه من الصوفية اختلاف ذوق واختلاف حال، أو إنْ شئت قلت اختلاف منهج تتقوَّم به أسرار الطريق، وليس هو بالاختلاف الذي يطرد المتخاصمين بعضهم بعضاً من ديوان الولاية.

فمن يظن بالأولياء الكبار هذا الظن لم يعد يفهم خلافاتهم بمقدار ما لا يفهم  توجهاتهم الروحية، حتى إذا ما كان هناك خلافٌ يبدو فيما بينهما فهو الخلاف الذي يمضي بعيداً عن سيطرة أهواء النفوس على أصحابها، ويقترب - بمقدار ما يبتعد عن حظوظ الهوى ومصادمة القلوب - من خلاف في الرؤية، أعني في الفكرة النظرية تعبر عن اختلاف الاتجاه والرؤية ولا تعبر عن الخروج من الميدان خروجاً نهائياً .. وإلا فليس أحبُّ إليه من الشبلي، وليس أعْذَرُ عنده في شطحاته من البسطامي.

(وللحديث بقيّة)

 

بقلم: د. مجدي إبراهيم

 

فريدون خاوند: العاقات الايرانية الصينية بين الأوهام والواقع

التفاصيل
كتب بواسطة: عادل حبة

2362 فريدون خاوندترجمة: عادل حبه

لقد طغى الشبح الصيني على السياسات الداخلية والخارجية للجمهورية الإسلامية أكثر من أي وقت مضى. وتم سماع الهمسات الأولى حول ظهور تغيير نوعي غير مسبوق في العلاقات بين طهران وبكين في شباط عام 2015 عند زيارة رئيس جمهورية الصين الشعبية إلى إيران. وفي آذار عام 2021، وقّع وزيري خارجية البلدين على "برنامج التعاون الشامل بين إيران والصين"، وإنتقل الأمر من الهمسات إلى كون البلاد تتعرض إلى اجتياح من قبل دولة كبرى ناشئة تحت مسمى "الإمبراطورية المعتدلة".

فهل بدأ فصل جديد في العلاقات بين البلدين بالتوقيع على "برنامج التعاون الشامل بين إيران والصين"؟ وهل قررت الصين بتوقيعها على هذه الوثيقة وكما يشاع في الأوساط السياسية الإيرانية داخل وخارج البلاد، أن تجعل جمهورية إيران الإسلامية أهم قاعدة لها في الشرق الأوسط؟

أياً كانت هذه الوثيقة، فإن السؤال الذي يطرح نفسه أولاً هو لماذا تنخرط الصين وإيران، على الرغم من الاختلافات المهمة للغاية فيما يتعلق بالنظام السياسي والمكانة الدولية، في مثل هذه العلاقات الوثيقة والمعقدة.

الاختلافات والتشابه

للوهلة الأولى، ينتمي نظامي الحكم في إيران والصين إلى عالمين مختلفين تماماً:

1-الفلسفات التي تحكم الطبيعة والهياكل الحاكمة للبلدين، أو بعبارة أخرى، الأسس العقائدية حول مصدر السلطة، ومسار تطور المجتمع البشري، وكيفية إدارته. فالطرفان يقفان على  مواقف متناقضة ومتعاكسة.

إن المادة الثانية من دستور الجمهورية الإسلامية تنص على أن هذا النظام يقوم على "الإيمان بالله الواحد (لا إله إلا الله) وترجع إليه السيادة والتشريع وضرورة الانصياع لأمره". وعلى النقيض من ذلك، يعتبر الدستور الصيني في مقدمته أن الماركسية اللينينية وفكر ماو تسي تونغ مصدر الانتصارات الثورية والتي حولت الصين إلى دولة "اشتراكية غنية وقوية وديمقراطية ومتحضرة". في حيت تعتبر ثيوقراطية طهران أن الإرادة الإلهية هي المصدر الوحيد لسلطة الدولة،  في حين أن فلسفة النظام السياسي الصيني تقوم على عدم الإيمان بالله.

2- لقد أدرك النظام السياسي الصيني أهمية الاقتصاد باعتباره الدعامة الأساسية للسلطة في العالم المعاصر، وأصبح الرابح الرئيسي في عملية العولمة على مدار نصف القرن الماضي. فمن بين جميع الأنظمة الشيوعية التي استلمت السلطة في العالم بعد أكتوبر عام 1917، كانت جمهورية الصين الشعبية أول من وجد حلاً مستوحى من هزيمة نظرائها في "المعسكر الاشتراكي"، والحفاظ على الهيمنة بلا منازع للحزب الواحد. فقد انفتح الحزب أكثر على الإصلاحات الاقتصادية في العالم المعاصر وحقق أسرع نمو اقتصادي في تاريخ الحضارة الإنسانية.

ويرجع جزء كبير من هذه القفزة المذهلة إلى المشاركة الهائلة للشركات متعددة الجنسيات الأمريكية والأوروبية واليابانية في عملية التنمية في أكبر دولة في العالم من حيث عدد السكان. وانضم قادة بكين أيضاً بذكاء إلى هياكل الحوكمة الدولية، وخاصة المنظمات الاقتصادية الدولية، وأزالوا العقبات الواحدة تلو الأخرى من خلال تواجدهم الشامل في الأسواق العالمية.

ولكن سبح قادة الجمهورية الإسلامية، على عكس الإصلاحيين الصينيين، في الاتجاه المعاكس للتيار، وعلى قدر إستطاعتهم، وحرموا بلادهم من الروافع المادية التي ولدت القوة والثروة في عالم القرن الحادي والعشرين. وأدى العداء اللامتناهي للجمهورية الإسلامية لمظاهر الحداثة إلى تهميش جزء كبير من القوى الحية في البلاد، وإن حقدها اللامتناهي على الغرب، حرم الإيرانيين من رأس المال والتكنولوجيا والأسواق والسياح الأمريكيين والأوروبيين. إن الجمهورية الإسلامية متعطشة للقوة الإقليمية دون أن توفر الوسائل المادية والمستلزمات لتمويل قوة دبلوماسية وعسكرية مستقرة لإشباع هذا التعطش.

لكن إيران، شأنها شأن سائر بلدان العالم، لا يمكن أن تبقى على الهامش، فهي تبحث عن حلفاء أقوياء لها بسبب ضعفها الشديد في مختلف المجالات، وخاصة الاقتصادية.كن إيران، مثلها مثل سائر دول العالم، لا يمكن تبقى على ا

ومن بين جميع القوى القديمة والناشئة في العالم، يميل النظام الإسلامي في طهران إلى جمهورية الصين الشعبية (إلى جانب روسيا)، بسبب أوجه التشابه بين الأنظمة السياسية في البلدين:

ألف – إن النظام العقائدي للجمهورية الإسلامية والنظام الأيديولوجي لجمهورية الصين الشعبية، على الرغم من تناقضاتهما الأساسية، يشتركان في العداء المشترك للحريات العامة، وإن أولوياتهما الأهم هي الحفاظ على السلطة واحتكارها من خلال تهميش المطالبين الآخرين في المشاركة بإدارة دفة البلاد. فكلا النظامين لا يرون بديلاً لأنفسهم، وسيعارضان بشدة أي اتجاه أو شخصية تسعى لكسر هذا الاحتكار.

ومع ذلك، فإن النظام الشمولي في الصين أكثر استقراراً من نظام ولاية الفقيه بسبب إنجازاته الاقتصادية الكبرى. وفي الواقع، تجري الاحتجاجات على الاستبداد الديني الحاكم في إيران، والأهم من ذلك، وتعرضه للتحقير من قبل الشعب بسبب الكارثة الاقتصادية التي سببها. لهذا السبب، يأمل جزء من الهيئة الحاكمة الإيرانية إلى "صيننة" اقتصاد البلاد، ويعتبر ذلك ضرورة حتمية لبقاء النظام. كما بُذلت جهود في هذا الصدد لم تتحقق لعدم توافقها مع طبيعة نظام ولاية الفقيه.

ب) إن التشابه الآخر بين النظامين الإيراني والصيني هو الموقف السلبي تجاه الغرب. فكلا النظامين، وبسبب الإنحطاط الذي حل بالبدين في القرن التاسع عشر وفي العقود الأولى من القرن العشرين ودور الدول الغربية في هذا الإنحطاط، مما أدى إلى ظهور خطابات سداها ولحمتها الانتقام. ولكن على عكس الجمهورية الإسلامية، فإن الصينيين لا يسجنون أنفسهم في حصن ضيق من التشاؤم والانتقام، ولا يقفون عند الماضي، بل يسعون إلى تعاون اقتصادي مكثف مع القوى الغربية لمصالحهم الخاصة.

ج) النظام الشيوعي في بكين فاسد، مثله في ذلك مثل النظام الإسلامي في طهران، وإن كان على نطاق أضيق. ويستغل "الأمراء الحمر" الصينيون مثل "الأمراء الإسلاميين" موقع أسرهم في قمة هرم السلطة والثروة في ظل انعدام الحريات. لكن في الصين، لم تصبح المافيا التي نشأت من حضن السلطة، على عكس الجمهورية الإسلامية، إلى "دلالي محرمات"، بل ربطت مصالحها بصفقات وبالتعاون الوثيق مع الشركات الغربية.

"خارطة طريق"

خلال اثنين وأربعين عاماً بعد الثورة الإسلامية عام 1979، كان هناك عاملان رئيسيان جعلا جمهورية الصين الشعبية الشريك التجاري الأكثر أهمية بالنسبة لإيران. كان العامل الأول هو الصعود الذي لا يقاوم لاقتصاد الصين، مما حولها إلى "مصنع العالم" وإلى أول قوة تصدير على المستوى الدولي. العامل الثاني هو انهيار عدد كبير من الجسور الاقتصادية بين إيران والعالم الغربي، ولا سيما مع الولايات المتحدة، والتي وفرت بطبيعة الحال بيئة مواتية لـ "آسيوية" التجارة الخارجية الإيرانية.

في ظل هذه الظروف، بلغ حجم التبادل التجاري بين طهران وبكين ذروته منذ التسعينيات فصاعداً. وفي نهاية العقد الأول من القرن الحالي، لعبت الصين دوراً رائداً في التجارة الخارجية الإيرانية، والتي لا تزال مستمرة حتى يومنا هذا، على الرغم من تراجع حجم هذه التبادلات خلال السنوات القليلة الماضية تحت ضغط العقوبات الاقتصادية ضد الجمهورية الإسلامية ووباء كورونا.

أثارت هيمنة الصين على جزء كبير من سوق السلع المستوردة الإيرانية احتجاجات من حين لآخر عند جزء من الرأي العام الإيراني (على سبيل المثال، لماذا يُجبر الإيرانيون على استهلاك سلع صينية "غير مرغوب فيها")، ولكن لم يتحول هذا الإحتجاج كثيراً لدرجة أنه أصبح مصدر استياء واسع.

وبدلاً من ذلك، تسبب توقيع وزيري خارجية البلدين على "برنامج التعاون الشامل بين إيران والصين" في 27 نيسان من هذا العام، في موجة واسعة من الانتقادات والاحتجاجات ليس فقط في الأوساط السياسية والمهنية، ولكن أيضاً بين الناس العاديين في البلاد وفي الشوارع والأسواق.

إن ما تم نشره من قبل وزارة الخارجية للجمهورية الإسلامية تحت عنوان "Leaf Statement" في هذا البرنامج لا يبدو مثيراً للغاية أوغير عادي بشكل عام، فهو إلى حد ما على غرار نفس الوثائق التي تم توقيعها بحسن نية في العلاقات بين الدول.

وجاء في بيان وزارة الخارجية المؤلف من خمس صفحات أن: "الوثيقة الحالية تحدد خطة شاملة على المدى البعيد (25 عاماً) لنهج قائم على الاحترام المتبادل والمصالح المتكافئة في العلاقات الثنائية والإقليمية والدولية".

إن الوثيقة، التي تنطوي على مجاملات وكليشيهات دبلوماسية، هي "برنامج سياسي واستراتيجي واقتصادي وثقافي يعالج مختلف مجالات التعاون بين إيران والصين".

يؤكد نفس "البيان المنشور" على أن هذه الوثيقة هي مجرد خارطة طريق، ولا تحتوي على أية اتفاقية، ولا تتضمن أية أرقام محددة، بما في ذلك في مجال الاستثمار أو الموارد المالية والنقدية، أو نقل أي منطقة أو أي احتكار متبادل أو أحادي الجانب.

غموض وأسئلة

يرفض عدد من معارضي ومنتقدي الجمهورية الإسلامية التقرير الرسمي لوزارة الخارجية حول "برنامج التعاون الإيراني الصيني الشامل"، ويعتقدون أن الجمهورية الإسلامية أخفت طبيعة هذه الوثيقة ومحتواها الحقيقي عن الإيرانيين. ويعلنون إن الوثيقة المعنية ليست مجرد مذكرة تفاهم على "خريطة الطريق"، بل أنها معاهدة دولية حقيقية.

ومن الملاحظ أن مذكرة التفاهم ليس لها أية آثار قانونية ملزمة، وتشير فقط إلى أن الموقعين قد اتفقوا على عدد من القضايا والأهداف العامة وأعدوا الأرضية لإبرام المعاهدات بما يتماشى مع المبادئ التي تم التوصل إليها. بدلاً من ذلك، فإن المعاهدة، أو بأي اسم يطلق عليها (معاهدة، ميثاق، اتفاقية، إعلان)، تعقد بين أطراف خاضعين للقانون الدولي (الدول والمنظمات الدولية)،وتؤدي إلى آثار ملزمة حقوقياً.

وبعيداً عن الجدل حول عنوان الوثيقة، التي تم التوقيع عليها في طهران في 27 آذار، يقيّم المعارضون والمنتقدون للجمهورية الإسلامية محتواها الحقيقي على أنها أكثر أهمية وحساسية وأكثر إثارة للجدل مما أشارت إليه المصادر الرسمية للجمهورية الإسلامية.

وحسب  رؤيتهم، فإن العقد مدته 25 عاماً مع توقع توظيف 400 مليار دولار من الاستثمارات الصينية المحتملة في المنشآت والبنية التحتية الإيرانية. وستدفع الجمهورية الإسلامية تكلفة هذا الاستثمار خلال فترة العقد عن طريق بيع النفط والغاز إلى الصين بسعر تفضيلي (بخصم مرتفع للغاية). ومن أجل تجنب العوائق التي تحول دون سيطرة الدولار، سيتم دفع كمية النفط والغاز المشتراة من إيران باليوان (العملة الوطنية الصينية). ومن أجل حماية الاستثمارات الصينية في إيران، سيتمركز 5000 جندي صيني في قواعد لها في إيران. وهناك مهمة أخرى للجيش الصيني هي توفير الأمن اللازم لنقل النفط من إيران إلى الصين.

هذا ملخص لما ورد في الملاحق السرية للاتفاقية الإيرانية الصينية، حسب ما أورده عدد من المعارضين والمنتقدين للجمهورية الإسلامية، وليس حسب ما ورد في المذكرة. ومن المناسب أن نتعرف على جزء مما يطرحه معارضو ومنتقدو الجمهورية الإسلامية حول المحتوى السري لـ "برنامج التعاون الشامل بين إيران والصين" الذي أثير في النصف الثاني من العام الماضي من قبل مختلف المسؤولين الحكوميين أو شبه الرسميين في النشرات التابعة لمختلف أجهزة الجمهورية الإسلامية. حيث نرى أن وثيقة 27 من آذار واجهت مصيراً غامضاً وأثرت بشدة على الرأي العام الإيراني.

وأخيراً، وبالنظر إلى ما قيل، سنتعامل مع بعض الغموض والأسئلة التي أثيرت حول هذه الوثيقة وهوامشها.

1- تجتاج إيران الأزمة التي تمزقها، وتعاني من القطيعة عن العالم الغربي ومحرومة من دعم المنظمات الدولية. وبطبيعة الحال تتجه إلى الصين، ثاني أكبر قوة اقتصادية في العالم. وبالنسبة للصين أيضاً، تعتبر موارد السوق والطاقة الإيرانية مهمة بالطبع، لكنها ليست على نفس القدر من الاستعداد لتعريض علاقاتها مع الغرب والدول المؤثرة في الشرق الأوسط للخطر.

2-تعتبر الصين الشريك التجاري الأكثر أهمية لإيران، ولكن حجم التجارة بين البلدين في أحسن الأحوال لم يتجاوز في عام 2014 نسبة 1.2٪ من إجمالي التجارة الخارجية للصين. فكيف يمكن للصينيين المخاطرة بعلاقاتهم التجارية مع الولايات المتحدة التي تتراوح حجمها بين 500 مليار دولار و 600 مليار دولار، والتي تمثل حوالي 13 في المائة من تجارة الصين الخارجية، مقابل هذه الحصة الصغيرة من تجارتها الخارجية مع إيران؟

في الشرق الأوسط، تعتبر إيران ثالث أكبر شريك تجاري للصين بعد المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة. فلماذا ينبغي على الصينيين إقامة علاقات متميزة واستثنائية مع الجمهورية الإسلامية وتعريض علاقاتها مع السعودية والإمارات للخطر، ناهيك عن العلاقة مع إسرائيل؟

3- ولماذا يجب أن يلتزم الصينيون للجمهورية الإسلامية بشراء النفط والغاز الإيراني على مدى 25 عاماً في الوقت الذي يتغير وضع الوقود الأحفوري في سلة الطاقة بسرعة ولا أحد يعرف ما إذا كانت الصين ستكون محتاجة في 25 عاماً القادمة إلى النفط والغاز الايراني ام لا؟

4- إذا كانت الصين مهتمة جداً بإقامة علاقات مميزة استثنائية مع الجمهورية الإسلامية، فلماذا لا تعيد أصول إيران في البنوك الصينية، والتي تقدر بنحو 20 مليار دولار، إلى الجمهورية الإسلامية؟ ولماذا تمتثل بكين للعقوبات الأمريكية العديدة ضد إيران عبر السنوات القليلة الماضية؟ ولماذا غادرت الشركات الصينية إيران بعد وقت قصير من رحيل واشنطن عن الإتفاق النووي؟ ولماذا أغلقت البنوك الصينية الحسابات الإيرانية؟

5- وهل ستقوم بكين ببناء قاعدة في إيران للحفاظ على أمن استثماراتها ونشر 5000 جندي في دولة ساحلية في الخليج العربي؟ ألن تشكل حملة عسكرية في مناطق خارج نفوذ بكين في المحيط الهادئ، وهو أمر غير مسبوق في تاريخ "الإمبراطورية الوسطى"، أعباء على الصين؟. لماذا تدخل الصين في مواجهة مع القوى الغربية ودول الخليج العربي وإسرائيل؟ ولماذا تتورط الصين في هذه المغامرة وفي واحدة من أكثر المناطق الإستراتيجية حساسية في العالم؟ هل سيكون نشر القوات الصينية إلى جانب أهم مصادر النفط والغاز ذات الاهتمام في العالم أمراً مقبولاً بالنسبة لعمالقة آسيويين آخرين، بما في ذلك الهند واليابان؟

 

..........................

* فريدون خافند اقتصادي إيراني ومحلل اقتصادي وأستاذ الاقتصاد بجامعة باريس بفرنسا. وقد حظيت تحليلاته، خاصةً اقتصاد إيران والشرق الأوسط، بتقدير كبير من قبل وسائل الإعلام الناطقة باللغة الفارسية والإنجليزية. كما شارك في التحليل الاقتصادي والبرمجة في راديو فرنسا الدولي. وشارك خافاند كخبير في العديد من وسائل الإعلام الناطقة بالفارسية، بما في ذلك بي بي سي الفارسية  راديو زمانه  راديو فاردا وإيران الدولية.

 

 

مريم لطفي: الترهل الفكري..

التفاصيل
كتب بواسطة: مريم لطفي

"ليس صحيحا مايشاع بأن الاطفال ينسون بسهولة.. فكثير من الناس يعيشون حياتهم وهم رهائن لافكار انطبعت في اعماقهم منذ سنوات" اجاثا كريستي

تطلق كلمة الترهل على الزيادة بوزن الجسم، تلك الزيادة التي تؤثر سلبا على صحة الانسان ونشاطه باداء عمله بل وتسبب له الكثير من الامراض، وكما ان الجسم يصاب بالترهل فالعقل والتفكير ايضا يصاب بالترهل نتيجة لركوده، فشانه شان البحيرة الراكدة التي تعشعش فيها الطحالب وتنعدم بها رؤية الاعماق، فالعقل الراكد تصاب به الشخصية الاحادية العقلية ذات الاتجاه الواحد الذي يتخذ نمطا واحد من التفكير ويقفل عليه كل حواسه حتى يصاب بالجمود.

ان القدرة على التفكير من خصائص الانسان الذي كرمه الله بها ودعاه الى التفكر والتدبر، فاذا احسن الانسان استخدام هذه الخصيصة ارتقى في سلم النجاح، واذا عطل الفكر وجمد وركد كان ذلك من اسباب الفشل في الحياة، فالتفكير هو عملية معالجة المعلومات وتصنيفها وتقييمها وفق استراتيجية معينة ينتج عنها نمط سلوكي يترجم الى افعال واقوال تساهم في تطور الحياة.

ان اتساع مفهوم الفكر يشمل الموروث الفكري للانسان ويكون ذلك في كافة المراحل المعرفية، ويضم النشاط الانساني بالعموم كالثقافة والحضارة.

وان تطور الفكرللفرد يؤدي بالتاكيد الى تطور المجتمع ، لان صلاح المجتمع بصلاح الفرد، والتطور الفكري ينشا من تطور المنطق الاساسي لتكريس قيم الاصالة والتواصل بين الماضي والحاضر والمستقبل والتفاعل مع المعطيات الخاصة بكل زمان ومكان.

لذا فالتدهور الفكري او ما يطلق عليه بالترهل الفكري هو نتيجة الركود والتوقف عن العطاء، والدوران في حلقة مفرغة وبقاء العقل في مساحة مغلقة تمنعه عن تقبل الجديد وتغلق امامه ابواب الاختلاط مع الاخر والتقوقع داخل الذات وضعف التقدم بل ان اتخاذ خطوة ما تعتبر من اصعب الامور والاستغناء عن ذلك يتيح للعقل الشعور بالامان وعدم المجازفة لاتخاذ اي خطوة مهما كانت بسيطة، هذا التفكير يكون عاجزا عن ادراك العلاقات بين الاشياء وحجمها ويعجز عن التعبير عما يدور في نفسه ، وكل العقد وكل داء يرجع بصورة مباشرة اوغير مباشرة الى السنين الاولى في حياة الطفل وطريقة تربيته وطبيعة شخصيته في تقبلها اور فضها لكل موروث او مكتسب، واذا تتبعنا المراحل العمرية لشخص يتصف بالترهل الفكري فلابد اننا سنصل الى حقيقة وصوله الى هذه المرحلة من التفكير المرضي، والترهل الفكري يتسم بالاتي:

- خمول الفكر ودورانه في حلقة مفرغة ترفض التغيير او التجديد.

- النمطية والقولبة في قالب واحد ورفض الاعتراف بالخطا.

- تقليص مساحة الفكر لصالح اي موضوع كان تكون المادة مثلا.

- ضعف البصيرة وعدم الالمام بعجلة الحياة التي تتطلب حراكا فكريا مستمرا.

- التفكير المبالغ:وهو تهويل الامور واعطاءها حجما مضاعفا ، في حين ان الامر عاد جدا بل وابسط من ذلك بكثير.

- الحكم على ظواهر الامور دون الولوج الى بواطنها .

- الاعتداد بالراي والتطرف باصدار القرارات دون مشورة احد.

- التظاهر بالبطولة واختراع الروايات الفارغة التي تدل على فراغ فكري كمن يكذب الكذبة ويصدقها.

- السلبية بالتعامل وهو توقع الاسوء دائما والبحث عن مسببات واسباب ونتائج ومقاصد كل عمل.

-العيش في الاوهام والخيالات الفارغة والاحلام البعيدة المنال التي يعيش صاحبها على التمني فقط.

- الكساد الفكري والاستسلام والعجز وعدم القدرة على فعل اي شئ ، فيصيب العقل عوق فكري نتيجة لكساد الافكار وتراكمها دون استثمارها لفعل الخير.

- التردد والاضطراب والاحتجاج عند معارضة اي فكرة جديدة لافكاره ومحاربتها لتفويت الفرصة على اي خيار جديد يتعارض مع افكاره.

- ضيق الافق والكسل والخمول والخوف الشديد من التجديد وتعويد النفس على القبول بكل ماهو قديم، لان التعويد بحد ذاته مرض يصعب التخلص منه.

- الابتعاد عن الناس الايجابيين والمبدعين خوفا من اصابته بالعدوى الفكرية.

- عدم السماح للعقل باضافة افكار جديدة وبذلك يضمن الحفاظ على ديمومة جموده الفكري.

- البلادة الحسية، فان نوافذ الفكر هي الحواس الخمسة والفراسة هي السادسة، فاذا عود الانسان حواسه على الخمول والكسل تعطلت عن اداء وظائفها فلا يكون هناك تمييز بين الاشياء ولاادنى اعتبار لاي لون او رائحة او منظر جميل وكما قال الله تعالى"لهم قلوب لايفقهون بها ولهم اعين لايبصرون بها ولهم اذان لايسمعون بها اولئك كالانعام بل هم اضل اولئك هم الغافلون"

- الانشغال بتوافه الامور واثارة البغضاء والشحناء بدلا من اشاعة ثقافة التسامح والالفة وكل الامور السيئة هي نظام تشويش لايقاف الفكر وتعطيله عن الابداع والتقدم.

- التمرد والثورة على كل من يحاول ان يمرر فكرة ما تتعارض مع افكاره.

- اصراره على انه افكاره صحيحة وكل المحيطين على خطا.

 وعليه فان الترهل الفكري هو افة تشل العقل البشري وتمنعه من التقدم وتتخذ من الامور البالية والافكار الرجعية ورفض كل ماهو جديد واقصاء اي فكرة تدعو الى التحرر الفكري من دوامة الجمود والركود وتنتج عن حالة من التشرذم والتشظي الفكري والنفسي والاجتماعي والاغتراب الثقافي والتزمت الفكري الذي يدعو الى الاتجاه الاحادي الرافض لفكرة التطور، ولابد من الوقوف عند اصحاب هذه العقلية ومحاولة ايجاد فضاءات تستوعب تغيير مجريات افكارهم ، فالانسان لم يخلق لياكل ويشرب ويتكاثر والا لبقي يعيش حالة البدائية وانتهى الامر ، لكن الموضوع فيه ابعاد حياتية قائمة على التفكر والتدبر وهو مادعانا اليه الله جل وعلا .

ولعلاج الترهل والجمود الفكري علينا ان نفتح بوابات الفكر ونسمح للافكار النيرة ان تحتل فضاءاءاتها بدلا من سيطرة الافكار الظلامية التي تدعو الى تقوقع الانسان وتقزم اراءاه وتكسيحها عن القيام بدور فاعل عن طريق التطور والتجدد الذي ينعش عصب الحياة من خلال تجديد الطاقات الفكرية والسماح بمرور التيارات الايجابية التي تسعى الى تشذيب الفكر والتخلص من الزوائد العالقة به التي تجعل منه كسيحا كمن تمكنت منه البدانة فاصبح مقعدا وعبئا ثقيلا على نفسه والاخرين.

واخيرا اقول: دع النسمات النقية تأخذ طريقها لتنعش وتجدد ماركد في عقلك من افكار..

 

مريم لطفي

 

رنا خالد: تحديات التعليم عن بعد.. آراء متعددة!

التفاصيل
كتب بواسطة: رنا خالد

رنا خالد"التعليم عن بعد" هو مفهوم متداول بين أصحاب الشأن منذ مدة وليس غريبا على الاسرة التعليمية بكافة مراحلها، ففي أواخر سبعينيات القرن المنصرم بدأت بعض الجامعات الأمريكيّة والأوروبيّة العمل به حيث كانت ترسل الموادّ التعليميّة المختلفة على شكل كتب أو شرائط فيديو أو شرائط تسجيل للطلاب عبر البريد، وبعد ذلك يرسل الطالب بدوره الواجبات المفروضة عليه بنفس الطريقة، وفي النهاية كان لا بدّ من حضور الطالب بنفسه إلى مقر الجامعة ليقدم الامتحان النهائي ويتسنى له بعدها نيل شهادة التخرج، ثمّ تطورت طرق التواصل لتصبح عبر قنوات الكابل والقنوات التلفزيونية في أواخر الثمانينيات، ثمّ ظهرت شبكة الإنترنت في أوائل التسعينيات فكانت وسيلة جيدة ومناسبةً للاعتماد عليها في هذا النوع من التعليم.

اذن، فان للتعليم عن بعد تاريخ عريق، وقد استفاد منه المجتمع كثيرا في الظروف الطارئة، لكن هذا النهج التربوي له تحديات عديدة.. أبرزها معاناة العوائل في تلقي التعليم بهذه الطريقة، وقد التفتنا الى هذه الجزئية التي تمثل موضوعًا شغل فكر الكثير من العوائل العربية وغيرها، فالتعليم عن بعد مشكلة من مجموعة مشاكل جاءت بعد انتشار فيروس كورونا عبر العالم، تأثرت به العديد من فئات المجتمع، غير ان الفئة الأكثر تضررا كان الطلبة وخاصة الأطفال في سنواتهم الدراسية الأولى كونهم، بأمس الحاجة الى المدرسة وهي المكان الأمثل للتعليم، وفي ضوء ذلك أجرينا حوارا مهما، يوم الخميس 11/ اذار / 2021 عبر رابط الزوم مع مجموعة من الأمهات، استضفنا فيه الكاتبة التونسية والباحثة في مجال الارشاد التربوي أ. اشراف بن مراد تحت عنوان (الأمهات وتحديات التعليم عن بعد).

 ما بعد كورونا

وبين سلبيات الموضوع وإيجابياته والتحديات التي يواجهها العالم عموما والعالم العربي خصوصا، سألنا أ. اشراف عن جانب مهم:

** ما هي تحديات وصعوبات التعلم عن بعد التي تتعرض لها العائلة بعد ازمة كورونا؟

2364 حوار 1ـــ هذا الموضوع ذكرني في رسالة الماجستير التي حصلت عليها، وتناولت فيها الجامعة الافتراضية فكانت تحت عنوان (تمثلات المجتمع الطلابي التونسي للجامعة الافتراضية) حيث فتحت لي بابا لفهم عملية التعلم عن بعد بكل ما تحتويه من خلفيات نفسية وأبستمولوجيا (دراسة فلسفة المعرفة). توصلت الى نتيجة علمية ان الطلبة الجامعيين كانوا يرفضون التعلم عن بعد لحبهم للحياة الجامعية، فكيف للأطفال وتعلقهم بالمدرسة واجوائها الخاصة حيث اخذت تصوراتهم لأني لم أجد شيئا على ارض الواقع.. واليوم نرجع الى نفس الموضوع الكثير من الدول كانت تدعي تطورها بهذا النظام، لكن وبعد جائحة كورونا ينطبق المثل القائل (ذاب الثلج وبان المرج) والصعوبات التي تواجه العوائل ككل هو توسع المشكلة في الدول العربية تحديدا وفي النظام التعليمي يعود الى ان بعض الدول العربية وحتى غير عربية ومنذ عدة أعوام تعيش صراعات وحروب داخلية وخارجية وفساد عام واجهت صعوبة أكبر لضعف البنى التحتية المتعلقة بتكنلوجيا الاتصال لديها. ورغم التطور التكنلوجي الحاصل في العالم لم تتم الاستفادة منه. حيث اليوم مرة على انتشار فيروس (كوفيد – 19) أكثر من سنة ولا تزال بعض الدول تعاني من تخلف واضح في تعامل مع البرامج الحديثة لخدمة الطلبة في المدارس مع ضعف مهارات المعلم في استخدامها.

** هل أصبح التعليم عن بعد عبئا على العائلة وواجب إضافي من واجباتها اليومية؟

ـــ بصراحة نعم وخاصة على الام في عملها تبقى بقلق على سير دراسة أبنائها وربما يتصلون بها لأخبارها عن بعض المشاكل التي تواجههم وهذا يقلل من مردودها الوظيفي وأيضا يضعف نفسيتها، خاصة وان ازمة كورونا لازالت مستمرة وهذا يشكل ضغوطات كثيرة إضافية. وهناك للطلبة حتى قبل كورونا مشاكل وخاصة مع الطالب الضعيف الذي كان يعتمد على مساعدة الاهل.

** نصيحة للام لتعزيز الجانب النفسي

ـــ لا تهتم دوما بالعلامات العالية وتنسى جوانب مهمة، منها ان يتعلم ابنها عمل الواجب بنفسه وكتابة درسه بنفسه حتى وان لم يكن خطه جميل، تعليمه ان يتحمل حل مشكلات التي تواجهه اثناء الدرس بنفسه، لان الام أيضا لديها عملها. عليها ان لا تتوتر في وقت الامتحانات وتتحول من حالتها الهادئة الى حالة العصبية لذلك ينقل الى ابنها ويقلقه، وهنا نحتاج من المعلم أيضا تغيير طريقة إعطاء الدرس في مثل هذه الظروف الصعبة وبعض المدارس لاحظنا استعداده السريع باتخاذ الخطوات الناجحة بإيصال المادة الدراسية.

هذا جانب وهناك جانب البيت والذي يتعمد بصورة كبيرة على الام والتي واجهتها انا شخصيا كعمل جو مدرسي يساعد الطالب على الشعور بالمدرسة وكذلك تركهم يتعلمون بوحدهم دون التجمهر قربهم، وان يستوعب الاهل قبل ابنهم طريقة الدراسة الجديدة، أحيانا نسمع ونشاهد تدخل من جانب الاسرة بالطريقة والمعلومة التي يعطيها المعلم وهذا يدل على ان العائلة العربية لم تستوعب تعلم أبنائها بهذه الشكل بعد. واضيف هناك اختلاف بين اسرة وأخرى ودولة وأخرى وحتى بين الدول العربية نفسها والغربية أيضا يوجد تفاوت.

2364 حوار 2إيجابيات التعليم عن بعد

وعن هذا الجانب كان هناك مداخلة للسيدة سوزان المناصرة وهي اردنية، تعمل مسؤولة مصادر التعلم (امينة مكتبة) في قطر حيث تحدثت عن تجربة التعليم عن بعد، فقالت ان فيها العديد من الإيجابيات منها زمانية وأخرى مكانية وأيضا مادية، وتعتقد ان التعلم عن بعد سوف يستمر حتى بعد زوال فيروس كورونا، لأنه كانت تستخدمه دول عديدة في البحوث والدراسات الاكاديمية وهو يوفر الوقت والمال ويعطي فرص للتطور وازدياد المعلومات. لكن مع تقدم الوسائل يجب تحديث المناهج لتكون بالمستوى هذا التفاعل عبر أدوات التكنلوجيا الحديثة.

الطالب والمدرسة

2364 حوار 3اما الأستاذ زياد القيسي وهو ناشط اجتماعي وتربوي ومهتم بشؤون الطفل واليتيم، فقال ان المشكلة تكمن في الازدواجية بالمكان والتي أصبحت واحدة من معاناة الطالب وبالأخص صغير السن ومن أثقل هموم عائلته داخل (مدرسة البيت) إذا جاز التعبير، وبنفس الوقت أمست تحدٍ كبير للكادر التعليمي الذي يتولى الاشراف على تدريسه. فالطالب وجد نفسه برغبة أو بدونها يدرس ويلعب ويمارس روتين حياته أغلب أيام الأسبوع بنفس المكان الذي يعيش فيه، لذلك وجد صعوبة في الفصل بين أجواء المدرسة العلمية والعملية بأوقاتها المحددة من جانب وبين جو البيت الأسري من جانب آخر، مع حصول تعديل في الأمر وهو تحول أخوته الصغار الى زملاء في الصف وبدون رغبةٍ من جميع الأطراف بكل تأكيد.

أما أفراد الأسرة وخاصةً الأم فالازدواجية التي تعاني منها في التعامل مع تلاميذها الجدد، تكمن في شدتها في معاملتهم ومراقبتهم وتوجيههم أثناء الحصص ومن ثم العودة الى رقتها المعهودة مع أول وجبة طعام تعدها لهم بعد انتهاء وقت الدراسة، وهذا ما يولد ضغط نفسي وصعوبة في مسك عجلة قيادة الطفل وتدويرها كما يجب لتسلك طريقًا آمنًا في كل حين، وأحيانًا قد تخرج الأمور عن السيطرة عندما يتعامل أحد أفراد الأسرة بطبيعته البشرية الفطرية بعيدًا عن ضبط مقاييس الأعصاب وخصوصًا الوالدين.

أما الازدواجية التي تحصل بالنسبة للكوادر التعليمية، فبالإضافة الى إعطائهم للدروس بطريقة غير تقليدية ( عن بعد ) فقد أصبحوا يقضون طيلة ساعات يومهم مع الطلبة سواء بشكل مباشر من خلال الدرس أو من خلال التحضيرات لهم بقية ساعات اليوم، مع تولد ضغوطات أخرى في العمل كمراقبتهم من قبل الأهل خلال الدروس عبر الكاميرا ومحاولة فرض شخصية المعلم إزاء تحركات الطلبة وهم في داخل بيوتهم وكذلك توزيع ساعات الحصص بين زملاء المهنة وتخصيص فترات الاستراحة والتنسيق مع الإدارة بهذا الخصوص، آخذين بنظر الاعتبار انهم أيضًا أولياء أمور لأولادهم الطلبة وبنفس أوقات الدروس وكان الله في عون الجميع .

في الختام

وكما ذكرنا في البداية، ان التعليم عن بعد ليس بالأمر الجديد فهو موجود وتستخدمه دول عديدة لكنا وجدنا هناك أهمية للخوض بموضوعه لأعمار الأطفال من 6 – 10 تقريبا كون المدرسة تشكل عندهم جزءا مهما من حياتهم العامة والخاصة، حيث يشعر التلاميذ أنها بيتهم الثاني الذي يتعلمون فيه ويقيمون الكثير من الصداقات ويكسبون العديد من المهارات، وهي تمنحهم التربية والتعليم بذات الوقت ويتعلمون فيها السلوكيات الأساسية وتنضج في عقولهم مفاهيم صحيحة عن الصداقة والمحبة والتعاون والعطاء والإخلاص والصدق.

 

رنا خالد

 

 

علي محمد اليوسف: مداخلة فلسفية تحليل نقدي

التفاصيل
كتب بواسطة: علي محمد اليوسف

علي محمد اليوسفتوطئة: يمكننا البدء بإدانة هيجل في إختلاقه فكرة المطلق العقلي الواقعي الذي يحتوي كل شيء في الوجود. فهو كان إختلف مع اسبينوزا من منطلق  أنه لا يؤمن بوحدة وجود تقود الى إيمان ديني بوجود خالق هو جوهر لكل موجود كما أراد اسبينوزا إثباته، والحقيقة أصبح مذهب وحدة الوجود تتوزّعه العديد من الإجتهادات التجاذبية بين الديني واللاديني، بين الروحي والنفسي، بين المتناهي واللامتناهي، بين الصوفية الدينية والفلسفة.

(1) المتناهي واللامتناهي

التفكير متناه في محدودية القدرة على معرفة وفهم أشياء من العالم وليس كل العالم. ويكون التفكير الخيالي خاملا حسب توصيف ديفيد هيوم كونه يستنفد نفسه قبل تمام إدراك مواضيعه المستمدة من عالم لامتناه. لا يتمكن التفكير الخيالي التموضع الكامل لادراكه اللامتناهي. عن هذه الحقيقة يعبّر ديكارت "ربما يوجد ما لانهاية له من الاشياء في العالم، وفي المباينة مع ذلك فليس عندي في الفاهمة أية فكرة عنه".

ليس بعيدا ولا غريبا تكرار المقولة الفلسفية أن ما يعرفه الانسان ليس أكثر مما يدركه فعلا.في محاولة المتناهي المحدود معرفة اللامتناهي المطلق محاولة عقيمة لا معنى لها، فالتفكير الخيالي لا يستطيع فهم أشياء لا تكون لها معرفة صورية حتى بالتعريف البسيط لها بالذاكرة... يصف ريكور الإرادة بأنها ذات سعة ومجال بلا نهاية.

ألارادة لها سعة ومجال تفكيري بلا نهاية صحيحة، لكن فاعلية الإرادة التخييلية إنما تكون في المتحقق المنجز لما تقصده وتبتغيه..ويقصد باللامتناهي المطلق فلسفيا هو الخالق غير المدرك بصفاته ولا ببعض ماهويته الإفتراضية الذاتية. هذا اللامتناهي الذي لا يمكن الإحاطة به. أما المتناهي فهو المدرك الذي يمكننا تحديده بالمقارنة مع متناهي آخر يشاركه المجانسة النوعية. ومن الصعب إستطاعتنا تحديد اللامتناهي لأننا نحتاج الى حده بشيء يجانسه النوع وهومحال. أي يتعذر تحديد اللامتناهي بشيء يمتلك قدرة المداخلة الجدلية مع المتناهي. هنا أود تثبيت نقطتين لماذا نستطيع إدراك المتناهي ولا نستطيع إدراك اللامتناهي،؟

إدراك المتناهي هو إدراك لشيء متعّين محدد بخواص المادة التي تدركها عقولنا (الطول، العرض، الارتفاع ، الزمن). وهو ما لا ينطبق على اللامتناهي الذي لا يمتلك مثل هذه الصفات التي يدركها العقل. والسبب الثاني أن كل محدود هو سلب بتعبير اسبينوزا وهيجل، أي كل محدود يفقد العديد من الصفات الايجابية التي يمتلكها لحساب تعينّه المادي السلبي. فاللامتناهي لا يخضع لتجريد عقلي يدركه بتحديد صفات له هو لا يستطيعها اولا ولا مدركة من قبل العقل ايضا.

أمام هذا المعنى أثار لا يبنتيز طرحا إشكاليا معتبرا " كل معنى محدّد، أيّا كان، وكل معنى لا يحتوي المتناهي هو معنى مجرد ناقص". كون الإدراك العقلي تعتريه المحدودية وتحكمه إدراكيا.

هذا التداخل الإشكالي الذي يقيمه لايبنتيز على منطق رياضي هو المتواليات العددية والمتواليات الهندسية التي لها بداية ولا تكون لها نهاية. فهي تكون بحكم اللامتناهي الذي تختلف مع كل متناه مدرك بالمجانسة النوعية. وهو حكم رياضي لا يمكننا تعميمه على مدركاتنا الاشياء وموجودات العالم الخارجي، فهذه تكون محدودة انطولوجيا متناهية وتحتويها لا متناهيات وجودية.

أما رأي كانط الذي يرى الناس كائنات متناهية يعيشون في عالم لا متناه يجب أن يكون هذا اللامتناهي محدودا بزمان  وإلا أصبح  وجودا يمكن الإحاطة بإدراكه ولو جزئيا. لو نحن حاكمنا عبارة كانط بفهم اسبينوزا الذي يرى أن الموجود بغض النظرعن كونه متناهيا أو لامتناهيا لا فرق فهو يدرك بدلالة الجوهر، ولا يدرك الجوهر بدلالة الوجود. بهذا المعنى تكون أطروحة كانط في إمكانية الإحاطة بمحدودية اللامتناهي بمحدودية الزمان الذي يحتويه خاطئة تماما كون الزمان مخلوقا أزليا يكون لامتناهيا لنا نحن البشر لكنه متناهيا مخلوقا من لامتناه لاندركه هو الله.جعل انشتاين الزمن بعدا رابعا من أبعاد المدرك الشيئي المكاني الموجود يعود لإدراك العقل الذي يفهم ويدرك ماهو مكاني بدلالة زمانه.

ونختم بعبارة ثانية لكانط يقول بها" ليس للعالم بداية ولا حدود بل هو لامتناه. والزمان الذي يحد العالم يتوجب أن يسبقه زمان له بداية،، وبداية الزمان هي فراغ كلي واذا لم يكن للعالم بداية ولا حدود فهو لامتناه. إن ما يلفت النظر أن كانط لا يحدد مقصوده الدقيق بالعالم هل هو الكون الميتافيزيقي أم العالم الانساني على الارض؟.

(2) فيختة والأنا

أراد فيختة تذويت ألأنا بموضعته في منحيين متلازمين في وضعه المتناهي مقابل الأنا اللامتناهي كتضاد غير جدلي من جهة وغير تكاملي متناه من جهة أخرى، والتساؤل هنا هو هل من المتاح جمع نوعي الأنا بعلاقة تخدم تصوراتنا الفلسفية أو حتى رؤيتنا في منحى معيّن أم لايتاح مثل هذا الإفتراض.؟ جمع مثل هذا التضاد بأي نوع من العلاقة غير متاح حتى على صعيد التجريد الفلسفي المنطقي.

حين يأخذ هيجل عبارة اسبينوز   (كل تحديد هو سلب)  هذا يعني أن المتناهي الذي يحمل صفات معينة حين نريد أن نحدّه قسرا كي ندركه ضمن بنية كليّة عينية فإننا نكون سلبنا من الانا معظم الصفات التي كانت تمتلكها وهي متحررة من التحديد السلبي الذي يعني المحافظة على بعض صفات هذا التحديد لشيء بما يخدمنا وليس بما يخدم تحديد الانا ضمن مدرك خصائصي معيّن تكون تابعا له. الأنا المتناهية هي الأنا التي تم تحديدها وبذلك فقدت الكثير من صفات تكتمل كينونتها بها.

الأنا هي تموضع ذاتي بالاشياء التي لها حدودا تقف عندها بفقدانها السيطرة على فرديتها التي فقدتها في تحديدنا المتناهي لها. كل تحديد سلب عبارة اسبينوزا ومن بعده هيجل هو التضحية المقصودة في تشتيت الصفات الإيجابية التي كان يمتلكها الشيء قبل التحديد. ولو نحن سحبنا هذا المقياس تعميمه على المادة كوجود مستقل جرى تحديده بعوامل ذاتية خاصة أو عوامل طبيعية موضوعية فهذا يدخلنا الى وجوب التفريق بين صفات الشيء ومحتواه المادي – هنا لا نقصد بالمحتوى الماهية أو الجوهر – أي علاقة الشكل والمحتوى ومن يمتلك تأثير الاسبقية في إنقياد الآخر لأحد طرفي الشكل أو المحتوى، التي تكون في كل الأحوال علاقة طردية وليست علاقة تناسب عكسية ،بمعنى ما يكتسبه الشيء من صفات شكلية مضافة له تنعكس طرديا على محتواه والعكس صحيح أيضا. تحديد السلب ليس نفيا كاملا لصفات الايجاب التي إفتقدها الشيء في سلبه التحديدي له وأفقده التحديد إياها ، يمكننا القول أن كل تحديد هو لامتناه على عكس ما أريد له في تحديده إمتلاكه لصفات دون أخرى. تحديد السلب لامتناه ادراكي يفهم ذاته بدلالة صفاته السلبية فقط، لا ينفي ما فقده من صفات بل يؤكد على صفات لامتناهيه ايجابية في عدم الادراك لها.

أما في حال تفكيرنا جعل الأنا المتناهية تأخذ موقف التضاد الجدلي مع اللامتناهي فيكون الأمر مستحيلا حتى على صعيد الإحتواء في العلاقة، فالمتناهي حين إكتسب صفة التحديد السلبي يكون أصبح فاقدا المجانسة النوعية التي تجعله متلازما ديالكتيكيا مع اللامتناهي الذي يمتلك مجانسة نوعية لا تجعله يحتوي الأنا المتناهية ولا حتى الدخول معها في تضاد مثمر ينتج عنه مركب ثالث لظاهرة جديدة مستحدثة أو كليّة بنيوية مغايرة لأصل قطبي الديالكتيك الذي هنا في مثالنا لم يحصل ولم يتحقق عنه شيئا كون الديالكتيك هو تضاد داخل المجانسة النوعية.فمثلا أنا الانسان في أي صورة أو شكل من الاشكال هي عليه لا يمكنها الدخول ديالكتيكيا مع أي شيء لا يحمل المجانسة النوعية معها.

(3) هيجل مطلق وحدة الوجود مع المايا

هيجل يؤمن بمذهب وحدة الوجود باختلاف عن كل من:

- مبدأ وحدة الوجود الفلسفية كما في رائدها اسبينوزا.

- مذهب وحدة الوجود كما في الصوفية والاديان التوحيدية.

- مذهب وحدة الوجود في المايا الهندية والزن والبوذية.

هيجل طرح وحدة الوجود على أساس العالمين الارضي والكوني هما مطلق في وحدة أصلية هي الفكرة المطلقة التي تقوم على الإدراك العقلي وليس على الحدس الميتافيزيقي الذي يرى في تحقق الايمان الديني بوجود الخالق الجوهر الكلي التام الشامل المطلوب من الدعوة لوحدة الوجود.. أراد هيجل الإقتراب كثيرا من فلسفة وحدة الوجود كما يفهمها اسبينوزا بفارق جوهري أن كلا الفيلسوفين يؤمنان بمطلق، هو في فلسفة هيجل مطلق كوني عقلاني يحتوي الواقع عينيا وليس ميتافيزيقيا كما يرغبه اسبينوزا، وهيجل لا يؤمن بوحدة الوجود من أجل البرهنة على وجود الخالق بل البرهنة على أن العقل يمكنه إدراك العالم كاملا وما لا يدركه العقل يكون النقص فيه وليس في المطلق الوجودي الذي يريد أن يحتويه. هيجل لا يرى في المطلق لانهائية لا يمكن إدراكها، فالمطلق الذي يحتوي الواقع جزءا منه يكون مدركا بموجوداته وليس بجواهره غير الموجودة كما يرغب اسبينوزا. هيجل لا يرى في العالم مدركا منفصلا قائما لوحده، ولا المطلق عالما لا يدرك بل كلاهما عالم واحد يدركه العقل.

الهنود الصوفية في المايا ينظرون الى مذهب وحدة الوجود بطريقة يراها هيجل فجّة حينما يعتبرون العالم من حولنا وهما غيرحقيقي زائل.، ومتناه لاتحتويه فكرة المطلق، وإذا نحن أعطينا انفسنا حق التوّسع في هذا المعنى، فالمطلق ليس عدما بمعنى مدلول بغير دلالة محتوياته. لذا إدراك عالمنا حسب المايا الهندية أنه وهم مستقل عن مطلق لا يحتويه بخلاف هيجل الذي يرى بالمطلق محتوى للطبيعي الارضي والكوني بإدراك عقلي متعيّن.الهنود لا يرون بالمطلق فراغا إفتراضيا لا يتحكم بالعالم الوهمي. لذا وجدنا هيجل ينكر على المايا الهندية فهمهم القاصر لمعنى وحدة الوجود. والسبب ليس في نكران هنود المايا للفكرة المطلقة التي يفسرها هيجل على أنها جزء من عالمنا الإدراكي الحقيقي... المطلق عند هيجل عقل بدلالة مدركاته وليس إفتراضا ميتافيزيقيا لا يمتلك حضوره.

هيجل يمارس النزعة المادّية بلبوس مثالي صرف لا ينكره على فلسفته مع كل من فلسفة اسبينوزا الروحانية الصوفية ، التي يمارسها بنفس المنطلق مع روحانيات هندية لا يرى لها معنى. فنجده يسوّق المطلق الذي يمتلك كل الامكانات والقابليات بحدس روحاني ليس أصدق من روحانية اسبينوزا والهنود على السواء في فهمهم وحدة الوجود.

عمد الهنود في تسويقهم عالمنا وهم لا يوجد غيره زائل غير محكوم بسلطة مطلق ولا سلطة خالق يهمه أمره. لقد أراد هيجل تحديد المطلق في إستيعابه إدراك الواقع الارضي، بنفس وقت أراده أن يكون مطلقا لامتناهيا في إدركه الكوني الذي يدركه العقل. كان يريد هيجل إثبات أن العالم من حولنا دون مطلق يحتويه غير موجود ولا قيمة له. وينكر على متصوفي المايا الهندية رغبتهم إيقاف عالمنا بالتضاد غير الجدلي مع المطلق لفقدان المجانسة النوعية بين المتناهي واللامتناهي. في نكرانهم أن يكون عالمنا ليس سوى وهم زائل لم يعطوا بهذا النفي معنى لوجود مطلق يدرك عالمنا ويحتويه وهذا بالضد تماما بما يرغب هيجل تحقيقه. المايا الهندية توقفوا في مداركهم الصوفية في وحدة الوجود أمام حقيقة أننا لا نمتلك غير عالمنا الوهمي الزائل الذي نعيشه ، في حين حاول هيجل جعل المطلق اللامتناهي مدركا واقعيا لا يساوي ولا يشبه عالمنا لا بالصفات ولا بالماهية المحتواة فيه بل فقط البرهنة أن عالمنا حقيقي ندركه ويدركه المطلق معنا الذي نحن جزءا منه.

حسب الدارسين لفلسفة هيجل يرون أنه ربما أراد فهم المطلق على أنه روح كامل باق منذ الازل لا بداية تسبقه ولا نهاية تدركه، ولا يعتمد الموجودات الطبيعية في البرهنة على وجوده الخاص به .

(4) بين هيجل وبيركلي

باركلي إمتداد أكثر تطرفا لافكار اسبينوزا بإختلاف فهمهما اللاهوت المسيحي، اسبينوزا لا يؤمن بالمعجزات الدينية، وكان مذهب وحدة الوجود هو وسيلة برهانية لاثبات وجود الخالق. باركلي كان يؤمن بوجود الله بتشدد كبير، ولم يكن بيركلي يتبنى صراحة إدراك الخالق خارج الفهم اللاهوتي المسيحي. بيركلي ينتمي الى الطائفة المؤلهة الانجليز الذين لا يؤمنون بالتثليث. المهم أن هيجل كان أكثر قربا من اسبينوزا، ويؤمن بوحدة الوجود ليس بالفهم الديني اللاهوتي أو الصوفي، ولم يشغل إهتمامه بفلسفة إثبات وجود الخالق، رغم المواجهة الفلسفية مع فيورباخ الذي جعله يأخذ الطبيعة وحدها مصدرا لاثبات وجود اله يخترعه الانسان من مخيلته ولا يدركه. هيجل أعلن بلا تحفظ أن وسيلتنا الوحيدة لفهم أنفسنا والعالم هو العقل فقط الذي يعقل ليس عالمنا والطبيعة وإنما به ندرك المطلق الكوني. المأخذ الماركسي على أفكار هيجل أنه مارس المادية بإبتذاليه تجريدية فكرية خارج معاناة الانسان.

 

علي محمد اليوسف /الموصل

 

صلاح حزام: العد التنازلي ومقولة: إعمل لدنياك كأنك تعيش ابداً

التفاصيل
كتب بواسطة: د. صلاح حزام

صلاح حزامهنالك مؤشر أحصائي حياتي يسمى: العمر المتوقع life expectancy

والمقصود به طول العمر المتوقع للرجل والمرأة كل على حدة، ولهما معاً، في بلد معين .

وهنالك جداول احصائية خاصة يتم استخدامها لحساب العمر المتوقع .

وهو مؤشر مهم على تطور الخدمات الصحية واورتفاع مستوى المعيشة في بلد معين في حالة ارتفاعه، والعكس في حالة انخفاضه ..

وفي كل الاحوال هنالك نهاية لحياة الانسان طال او قَصُر.

فاذا بلغ الانسان عمر ٦٥ سنة والعمر المتوقع للرجل في بلده هو ٧٠ سنة، فهذا يعني انه قد تبقّى له خمس سنين فقط فوق الارض !!!

(هنالك قول ممتع للاديب الكبير سيوران ورد في كتابه " مثالب الولادة" في الصفحة ١٤٧، يقول فيه: عقد الايجار الذي يربطنا بالحياة يوشك على النهاية).

وهذا شيء مُتعِب ويجعل الفترة الباقية فترة انتظار مؤلم . وهي كما تسمى فترة العدّ التنازلي!! او كما تسمى بالانكليزية : countdown

يعني يستيقظ الانسان في الصباح ويطرح يوماً جديداً مما تبقى له من فترة استمراره بالحياة ويقوم بمراجعة حساباته ليتأكد مما تبقى له من وقت.

انها تشبه عملية انتظار المحكوم بالاعدام وينتظر يوم التنفيذ !!

دينياً، يُقال ان الله سبحانه وتعالى قد أخفى موعد موت الانسان لكي يجنبه فترة العدّ التنازلي ..وبذلك انقذه من عذاب رهيب .

مع انه قد يموت طفلاً او شاباً لكنه يعيش كما لو انه خالد .

مقولة معروفة للامام علي ابن ابي طالب، تقول: إعمل لدنياك كأنك تعيش ابداً، وأعمل لآخرتك كأنك تموت غداً ..

فيها توازن جميل بين متطلبات الحياة والموت...

العامل المهم الذي ينقذ الانسان من دوامة العد التنازلي هو ان يكون لحياة الانسان معنىً وهدف، وهذا هو المقصود بالقول: إعمل لدنياكَ كأنك تعيش ابداً ..

حياة تافهة وبلا معنى ولا أهداف كبيرة ( تتجاوز حاجات ماتحت الحزام) هي حياة عقيمة ومملة ومُضجِرة .

ولكن السؤال المهم هو: هل يستطيع الانسان دائماً ان يجعل لحياته معنىً وأهداف كبيرة بغض النظر عن البيئة والظروف المحيطة به؟

اعتقد ان ذلك غير ممكن دائماً، لأن الانسان قد يقع ضحية ظروف قاهرة وجبّارة تسحقه لاسيما اذا كان من أصحاب الارادة الضعيفة، اذ قد يفضل الموت على الحياة وقد ينتحر .

نشرتُ موضوعاً قبل أشهر حول كتاب الدكتور فيكتور فرانكل المعنون : بحث الانسان عن المعنى:

Man’s search for meaning، والذي هو طبيب نفسي نمساوي وكان معتقلاً في معسكر اوشفيتز النازي في الحرب العالمية الثانية وقد قضى فيه ثلاث سنوات.

يتحدث الدكتور فرانكل عن مشاهداته الشخصية وتجاربه المباشرة مع حالات مختلفة من استعدادات البشر للصمود امام ظروف مدمِّرة كتلك التي عاشوها في المعتقل النازي الرهيب.

اكثرية المعتقلين فضّلوا الموت على الاستمرار في هذه الحياة (اللاحياة)، والقلة ومنهم الدكتور فرانكل نفسه تعلقوا بالأمل والمعنى لكي يتغلبوا على الظروف ويستمروا بالعيش.

اردت من ايراد ذلك المثال، التعامل الواقعي مع الموضوع والابتعاد عن المثالية والخرافة في التحليل.

فليس هناك ماهو اسوأ من تقديم تحليل غير واقعي يطالب الناس بأمور مستحيلة ..

الظروف لها تأثير كبير وبعض الناس لايوجد لديهم مبرر في ان يكون لديهم أمل.

السؤال المهم: هل ان جعل الحياة ذات معنى، هو مسؤولية شخصية يتحملها الفرد؟ ام ان هنالك مؤسسات يمكن ان تساعده في ذلك (العائلة او المجتمع او الدولة بمؤسساتها المختصة)؟

طبقاً لفلسفة الاقتصاد الحر الطبيعي التي جاء بها آدم سمث ولازال يتبناها بدرجات مختلفة العالم الرأسمالي، يعتبر الفرد هو المسؤول عن ذلك . وهنالك من يرى ان الدولة تتحمل مسؤولية معينة في جعل حياة مواطنيها ذات معنى .

يخشى منظرو الرأسمالية ذات النظام السوقي الحر ان ذلك السلوك من قبل الدولة يشجع الاتكالية ويقتل روح وغريزة البقاء لدى الأفراد.

ولكن ماذا تفعل الدولة عندما يجد الانسان نفسه في نفس ظروف اعتقال الدكتور فرانكل؟ لاشيء طبعاً.

ماذا لو كانت الدولة مسؤولة عن اشاعة الاحباط العام في المجتمع؟

تبقى مسؤولية الفرد اساساً، ثقافته وايمانه بقيم معينة ومدى ادراكه لحجم المشاكل التي يواجهها.

 

د. صلاح حزام

 

 

عادل بالْكَحلة: البيروني مؤسسًا للقطيعة الإبستيمولوجية في علوم الاجتماع

التفاصيل
كتب بواسطة: د. عادل بن خليفة بِالكَحْلة

عادل بن خليفة بالكحلةالشّرح النفسي للموضوعية العلمية البيرونية في الإنسانيات

مقدمـة: إنّ تاريخ العلوم هو تاريخ الصّراع الدائم بين العقبات الإبستمولوجية والقَطِيعات الإبستمولوجية. فانتصار العقل العلمي إنّما هو المرور من المعرفة الشائعة، الحسية المشتركة إلى المعرفة الموضوعية، ثم المرور إلى تصحيح الأخطاء في مسار بناء المعرفة العلمية.

إنّنا إذا تبنّينا الموقف البَشْلاريّ من أجل التعبير عن واقع علم الاجتماع، تبنِّيًا مُعَدَّلاً على خصوصية الموضوع الإنساني، يمكننا أن نختبر موضوعيًّا الإنجاز العلمي لأبي الريحان البيرونّي في تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة، الذي انتقل فيه من الموضوع الطبيعي إلى الموضوع الإنساني، معدّلا منهجه الرياضي المهيمن على موضوعه العلمي الأول.

فبأدوات بشلار ومفاهيمه، مع تعديلٍ نُبَرِرّه علميا، سنقارب موضوع إنسانيات البيرونيّ في تحقيقه الهندي، وعلاقته بالمعرفة الحسيّة المشتركة في الاجتماع، لنخلص إلى أنّه هو مؤسس صحيح الابستمولوجية في علم الاجتماع، والإنسانيات عموما، لا ابن خلدون. بل سنحاول أن نثبت أن البيروني، بما هو عالم اجتماع، كان أكثر تصدِّيًا لأخطاء علم الاجتماع من ابن خلدون عالم الاجتماع. وربّما يعود ذلك إلى أنّ خبرة ابن خلدون العلميّة لا تتجاوز «علم التاريخ» وعلم الأصول وعلم الكلام، دون أن يحدث قطيعة إبستمولوجية في كل واحد من تلك «العلوم»، بينما توسّعت خبرة البيروني، لتشمل المجالات الخلدونية الثلاثة فحسب، بل لتشمل أيضا الفلسفة والعلوم الطبيعية، بل ليحدث قطيعة إبستمولوجية أو بعضها، على الأقلّ ليثّبت نقديته وأصالته العلمية، في كل واحد منها، فهو الوحيد الذي استطاع أن يقف بِنِدِّيّةٍ أمام البناء الفلسفي السّينوي في حواراته المشهورة مع الشيخ الرئيس.

وهذا ما يسمح لنا بالمرور إلى البحث في أدوات جمع المعلومات عند البيرونيّ في تحقيقه الهندي، لنؤكد أن عقلانيته التطبيقية حققت قطيعة مع الإبستمولوجيا الرّحلية والأدبية والمِلِّيّة في التعامل مع الاجتماعي، بانتهاجه الملاحظة بالمعايشة المكانية والزمانية، والوسيط الأنثروبولوجي الأهمّ وهو اكتشاف لغة المبحوثين قبل جمع المعلومات.

ثم نقارب قَلْبَهُ العلاقة بين النظرية والمعاينة، فقد كانت حتى عملياته البحثية الأكثر أوّليّة، كالملاحظة، «حكايةً» كما يعبّر، أي تسجيلا، تتزايد أمانتها بقدر التزامها بافتراضات مسبقة أقل، وتكون أكثر عملية بقدر ما تكون «الإمّات»[1] النظرية والمفاهيم التي تتسلح بها واعية، منقودة ومنظمة.

سنحاول هنا تقصي تأسيس البيروني للعلوم الإنسانية من خلال الاستفادة من إبستيمولوجيا بشلار، واعتمادا على تحقيق ما للهند من مقولة أساسا، ثم نقارنه بالإنجاز الخلدوني.

الدراسة الإبستمولوجية وتطبيقها على الإنسانيات:

يرى بشْلار أنّ النظريات العلمية ليست إنجازا في مجال البحث العلمي بقدر ما هي «موقف إبستيمولوجي جديد يبرز القيم المعرفية الجديدة التي جاءت بها تلك النظريات»[2].

والقيم الإبستمولوجية ليست القيم العامّة للعلم، بل هي «مجموعة من القيم المتجددة مع تطوّر الفكر العلمي. ومن هذه الناحية، فإنّنا نقع في تناقض حين نتحدث عن قيمة العلم في مرحلة معيّنة من تطوّره. ونظن أنّنا نقول بذلك كلاما نهائيا حول هذه القيمة»[3].

إنّ مصدر القيم الإبستمولوجية هو النظريات العلمية، وتاريخ العلم يسير تبعا لضرورة مستقلة وينبغي أن نسعى بكيفية منظّمة لتحديد القيم الإبستمولوجية وترتيبها في السيرورة التاريخية[4] تلك السيرورة التي قد تعرف نكوصات وتراوحات، وقد تعرف مراكمات.

وهذه المهمّة، ينبغي أن لا تكون موقف الحكم، «بل ينبغي أن تكون في نفس اتجاه هذه المسيرة، وأن تعبّر عن قيمتها من حيث هي قيم للعقل الإنساني (...) وقيم نفسية لأنها بتجددها لا تطوّر تفكيرنا في الموضوعات فحسب، بل فكرنا نفسه»[5].

تتميّز القيمة الإبستيمولوجية بجدّتها، فالنظريات العلمية لا تتعادل، بل تتمايز، إن قليلا أو كثيرا. والمهمّة المطروحة علينا هي استيعابها وإبرازها، لا تبريرها أو تفنيدها.

المهمة الثالثة للدراسة الإبستمولوجية عند بَشْلار، هي الشرح النفسي[6]  للمعرفة الموضوعية، فهو يؤكّد وجود حياة نفسية وغير واعية تؤثر في الحياة النفسية الواعية. وعليه يفترض بشْلار وجود مكبوتات على الباحث الإبستمولوجي اكتشافها، فلا يكتفي باكتشاف موضوعية المعارف لكي يصل إلى تفسيرات الملاحظ العلمي العقلية المكبوتة. فالعمل العلمي عند بشْلار عمل عقليّ- نفسي، في الآن نفسه، ومن الضروري الحفر في الأرانيات[7] الخفية، غير الواعية، للعمل العلمي، لكي يكتمل لدينا تعيّنه. وما يتسبب في تعطيل التأسيس العلمي أو المراكمة العلمية أو نكوصها يسميّه بشْلار العقبة الإبستيمولوجية محاولا اكتشاف تعيناتها المختلفة.

ولكنّ بشلار يغفل عن الشروط التاريخية والمجتمعية للعمل العلمي ومن الممكن استيعاب شرحه النفسي ضمن تلك الشروط، لتكميل النموذج البَشْلاري في البحث الإبْستِيمُولوجي.

وأهم المفاهيم التي تتحكم في الدراسة الابْسِتيمُولوجية وفق بشْلار هي: العقبة الابْسِتيمُولوجية والقطيعة الابْسِتيمُولوجية والجدل.

1-1 مفهوم العقبة الابْسِتيمُولوجية:

يرى بشْلار أنّ العقبة الابْسِتيمُولوجية في صميم العملية المعرفية ذاتها، فهي ليست نتيجة لشروطها الخارجية ولا لحواس الملاحظ العلمي، بل هي ضمن الشروط النفسية للعملية المعرفية. فهو يرى ضرورة وضع مشكلة المعرفة العلمية في صيغة عقبات، «ففي فعل المعرفة ذاته تبرز تعطيلات واضطرابات بكيفية صميمية، وبنوع من ضرورة وظيفية»[8]، توقفنا علل الركود والنكوص.

ومن صور العقبة الابْسِتيمُولوجية حسب بشْلار، التجربة الأولى عندما يصدر بها الملاحظ العلمي موقفه النهائي من الموضوع، فالمعرفة العلمية مضادة للتجربة الأولى ومتجاوزة لها، إذ أن «المعرفة العامة تجعل المسافة قصيرة بين الواقع والفكر، أما المعرفة العلمية فإنّها تفصل بينهما بالرجوع المستمر إلى التركيب العقلي، أي بالمحاولة المستمرّة لإضفاء العقلانية على التجربة»[9].

ومن صورها أيضا، التعميم، فصحيح التعميم ينقلنا من شتات الوقائع إلى وحدة القوانين، ولكنّه قد يكون إسقاطا وهروبا للسهولة والمماثلات الزائفة المهملة للتفاصيل والفوارق الدقيقة[10].

ومن عقبات العمل العلمي، في نظر بشْلار، ايضا، ما يرتبط بالمعرفة العامة، أي التأسيس على العوامل المنفعية؛ ومن تلك العقبات يسوق أيضا الامتداد غير الموضوعي للمفاهيم والمصطلحات لتصبح معبرة عن ظاهر ليست هي التي وضعت من أجلها تلك المفاهيم والمصطلحات[11].

كما يسوق بشْلار العقبة الجوهرية التي تصدف بالتفكير عن الموضوعية للبحث في ماهو خفيّ باعتباره جوهريا[12]. وهي متكوّنة «من تجمّع الحدوس المبدّدة، بل المتعارضة»[13]، وعليه يكون الفكر ما قبل العلمي.

وهو لا يعتبر العقبات إلابْسِتيمُولوجية مجرّد جانب مختف في العملية المعرفية، بل يعتبر أنّ لها أرَانًا سلبيا يعوق تأسيس المعرفة الموضوعية أو توسّعها، فبشْلار يطالب بمراقبة العملية المعرفية في تقدمها وفي تعثرها[14].

1-2 مفهوم القطيعة الابْسِتيمُولوجية:

يعبّر هذا المفهوم عن «فترات الانتقال الكيفي من تطوّر العلوم»[15] ينتقل العلم بفضلها إلى نظريات جديدة توقف استمرار الفكر العلمي السابق. «وبقدر ما تحقّق هذه الفقرات الكيفية جدّة مطلقة في الفكر العلمي، فإنّها تحقّق قطيعة بين الفكر العلمي والمعرفة العامّة»[16].

ويتناول بشْلار قطيعتين: إحداهما بين المعرفة العامة والمعرفة العلمية، والأخرى بين النظريات العلامية المتعاصرة.

إن موضوع المعرفة العلمية ليس معطى استمراريا للمعرفة الحسّية. فالمعرفة العلمية تلاحظ ظواهرها بتوسط أدوات هذه المفاهيم المشكليات والافتراضات والآلات في حالة العلوم الطبيعية والتّقنية. كما أن اللغة العلمية ذات قطيعة مع اللغة العامّة، لأنّ دلالاتها مختلفة وأدق. ومن ناحية أخرى، يلاحظ بشْلار القطيعات الابستِمُولوجية داخل الفكر العلمي نفسه، وهي تعني انبثاق مفاهيم ونظريات ومقاربات أكثر شمولا، محتوية الفكر السابق أو متجاوزة له، أو رافضة بعض جوانبه، ضمن مراجعة لا تنتهي. فالقطيعة الإبْسِتيمُولوجية تعني تفتّحية الفكر العلمي أكثر فأكثر.

الجدل هو علاقة تكامل بين العقلاني والتجريبي، والقَبْلي والبعدي، والمحسوس والمجرّد والرياضي والتطبيقي. فهو موقف وسيط بين النظري والعملي، ليكون الموضوع العلمي ظاهرة وشيئا في ذاته، في الآن نفسه. وبذلك يقدم مفهوم الجدل موقفا أرَانيًّا من الفكر العلمي، وهو ليس داخليا للواقع أو الفكر، بل يستوعب التجارب الجديدة ذات القطيعة مع المقاربات السابقة.

العلوم الإنسانية بين العقبات والقطيعة الإبستيمولوجِيَّيْن:

لم يفكّر بشْلار في تاريخ العلوم الإنسانية، فلم يفكر إلا في تاريخ العلوم الرياضية والفيزيائية والكيميائية.

وقد استعار بورديو ومعاوِنوه المفاهيم البشْلارية من أجل فهم السيرورة الإبستيمولوجية لعلم الاجتماع.

وقد أثبتت المحاولةُ الإجرائية المقاربةَ البشْلارية في التعبير عن واقع علوم أخرى لم يفكر فيها بشْلار، ولكنّها كانت منطلقة من تبنٍّ كامل للموقف البشْلاري دون نقد له. فلم تتبنّ تصوّره لتاريخ العلوم فحسب، «بل تبنّت مع ذلك الموقف الفلسفي العقلاني المطبّق الذي يريد بشْلار أن يكون هو الموقف المعبّر عن المرحلة الراهنة من تاريخ العلوم»[17].

يرى مؤلفو مهنة عالم الاجتماع،ـ مثل بشْلار، أنّ التداخل بين المعرفة العلمية والمعرفة العامة هو المصدر الأساسي لعقبات علم الاجتماع الإبْستيمُولوجية، فيقولون: «إذا كان علم الاجتماع علما كبقية العلوم الأخرى يلاقي صعوبة خاصة في أن يكون عامّا كتلك العلوم، فإن ذلك يرجع أساسا إلى العلاقة الخاصة التي تقوم فيه بين التجربة العالمة والتجربة الساذجة للعالم المجتمعي، وإلى العلاقة الخاصة كذلك بين التعبيرات الساذجة والتعبيرات العالمة عن هذه التجارب»[18]. فالعقبة الأولى تتأتى من الألفة التي «قد تنشأ لدى عالم الاجتماع بالمحيط المجتمعي»[19]. وأما الثانية فقد تتأتّى «على مستوى التعبيرات عن نتائج دراسية»[20]. ففي علم الاجتماع، أكثر من أي علم آخر. لا يكون الفصل بين الرأي العام وبين القول العلمي سهلا، بينما لا يمكن اتصافه بالعلمية إذا لم يحقق هذا الفصل، إذ أن الرأي العام «خاطئ دائما لأنّه يفكّر بصورة سيئة بل لا يفكر أبدا»[21].

وهنا، لابدّ من تجاوز التجربة الأولى بعقلنتها من أجل فهم «أكثر تجريدا للواقع»[22]. ولكن ينبغي أن لا تقف اليقظة الإبستيمولوجية لعالم الاجتماع «عند نقده لمفاهيم علم الاجتماع التلقائي (...) لأنّ المفاهيم التي تنتجها المعرفة الاجتماعية التلقائية قد تتسرب إلى عالم الاجتماع عن طريق اللغة العامة للتعبير عنها باعتبارها مصطلحات علمية»[23].

وللمرور إلى مرحلة القطيعة، يقترح المؤلفون بعض التقنيات ومنها القياس الإحصائي،ـ الذي يسمح بالتخلّص من آثار الاتصال المباشر بالظاهرة، وعن التأثّر بالتصورات العامة الناتجة عن هذا الاتصال، فتصبح ملاحظة الظاهرة معقلنة[24].

ويقترح المؤلفون تقنية التعريف المؤقت، بأن يتخلّص الباحث عن تصورات المعرفة العامّة بالمفاهيم العلمية التي ترشد البحث. وقد أكّدوا هنا ضرورة النقد المنطقي والقاموسي للغة المستعملة.

ولكن ذلك في نظرهم غير كاف، فلا بدّ من قيام نظرية في المجتمعيّ، مقدمة نسقا مفاهيميا في قطيعة مع المعرفة.

فبوجود النظرية تصبح للملاحظة والتجارب دلالات حقيقية، إذ تقدم لها إطارها العلمي المنظم.

كانت محاولة بُوْردِيو وزملائه تجاوزا «لكل تفاؤل مفرط بصدد وضعية علم الاجتماع أو أيّ علم إنساني آخر (...) ذلك لأن العوائق الابتسيمولوجية التي تَعُوق قيام المعرفة العلمية لا ترتفع كلّها دفعة واحدة أو بصفة مطلقة. فالعوائق الإبستيمولوجية، كما يبين لنا ذلك بشْلار، ضرورة وظيفية لسير المعرفة العلمية، وحين تتجاوز المعرفة العلمية عوائقها في مرحلة معيّنة، فإنّها توجد بذاتها ولذاتها عوائق جديدة»[25].

وقد كانت تلك المحاولة شرحا نفسيًّا للتجربة العلمية في علم الاجتماع، للكشف عن المكبوتات العقلية فيها من مفاهيم شائعة ولغة عامة، مبيّنين الوسائل الممكنة للحدّ من أران تلك المكبوتات العقلية. وقد أكّدوا ضرورة تجاوز الوهم التفاؤلي للنزعة الاختيارية التي ترى علمية علم الاجتماع بمجرد اتّخاذ الملاحظة المنظمة بواسطة القياس الإحصائي أو التجريب. مثلا. فموضوع البحث مهما كان «لا يمكن أن يحدّد أو يبني إلا في ضوء مشكلة نظرية تسمح بإخضاع مظاهر الواقع لسؤال منظّم، فتدخل تلك المظاهر في علاقة بفضل السؤال المطروح عليها»[26]. ومن ثمة لابدّ من المرور، في نظر المؤلفين، إلى التطبيق.

العقبات الإبستيمولوجية التي على صاحب التحقيق تجاوزها لتأسيس «علم أحوال الأمم والطبقات»:

يُسمّى البيروني علمه الجديد «علم أخبار الأمم والطبقات»[27]، وأحيانا «علم أحوال الأمم»[28]، بما هو علم ذو موضوع يتناول الاجتماع الإنساني، وذو مَسَائل هي: الدين والناموس (= القانون)، وطقوس الحياة وطقوس الموت، والنٍّحْلة أو المُنْتَحَل (= «الثقافة» في الاصطلاح العربي الحديث)، والمَعاش (= «الاقتصاد» في الاصطلاح العربي الحديث)، والسياسة، والنِّكاح (= الزواج) والحِرف (= المِهن).

ويسمّي البيروني العقبات الإبستيمولوجية «الأحوال التي لها يتعذر استشفاف الأمور» [29] في الإنسانيات. وقد كان عليه أن يقرأ حساب تلك الأحوال العاذرة قبل بداية التحقيق: «يجب أن نتصوّر أمان مقصودنا الأحوال التي لها يتعذر استشفاف أمور الهند. فإما أن يمهل بمعرفتها الأمر، وإما أن يتمهّد له العذر»[30].

لقد اعتمد «العلم» بأخبار الأمم والطبقات كليّا وطويلا على «الخبر». وذلك الخبر، رِحْليّ، أو تِجَاري، أو قَصَّاصي، أو تجسّسي، أو غير ذلك. ولكنّ «الخبر عن الشيء الممكن الوجود، في العادة الجاريَة، يقابل الصدق والكذب على صورة واحدة»[31].

ويعد شكّ البيروني في الخبر عن أحوال الأمم، أي الإنسانيات غير العلمية السابقة، «لتفاوت الهمم»[32]، أي لتفاوت الأهداف السَّوْقِية[33] للمخبرين والناقلين؛ وبسبب «غلبة الهِراش»[34] أي الاشتداد والتحرّش بين الأمم. وكذلك لغلبة «النزاع على الأمم»[35]. فتكاد كلّ الأمم ذات حروب قد لا تنتهي تجاه أمم أخرى؛ وذلك ما يترك آثاره على الخبر، فيختلط به الصدق والكذب.

فقد يصدر الكذب عن الرحّالة أو التاجر أو القصّاص أو المتكلّم أو الفيلسوف في تناول بعض أحوال الأمم الأخرى لتعظيم جنسه: «فمن مخبر عن أم كذب [لأن تلك الأمم] تحته [= تحت جنسه]، أو يقصدها بإرادته [لأنه سيد في جنسه]، ومعلوم أن كلا هذين من دواعي الشهوة والغضب المذمومين»[36].

وقد لا تتناول تلك الإنسانيات أحوال الأمم وإنّما أحوال الطبقات في الأمّة نفسها، ولكن رغم ذلك يشوب خبرها الكذب أيضا: «ومن مخبر عن كذب في طبقة يحبهم لشكر أو ببعضهم لنكر، وهو مقارب للأوّل، فإنّ الباعث على فعله من دواعي المحبة والغلبة. ومن مخبر عنه متقرّبا إلى خير بدناءة الطبع، أو متّقيا لشرّ من فشل أو فزع»[37].

وقد يكون الكذب طبعا في المخبر: «كأنّه محمول عليه، غير متمكّن من غيره، وذلك من دواعي الشرارة وخبث مخابئ الطبيعة»[38].

وقد يكون نقل الكاذب جهلا، وذلك ما يترسّخ ويصبح شبيها في الأوهام بالحقّ إذا تناقلته الأجيال، وتناقله القصّاص عن القصّاص، والرحّالة عن الرحّالة، أو الرحّالة عن القصّاص، أو القصّاص عن الرحالة المتعمد الكذب: «ومن مخبر عنه جهلا، وهو المقلِّد للمخبرين، وإن كثيروا جملة، أو تواتروا فرقة بعد فرقة، فهو وهم وسائط في ما بين السّامع وبين المتعمّد الأوّل»[39].

وقد لاحظ البيرونيُّ الإزراءَ بمُنْتَحَلات الآخر حتى بين أفراد الأمّة الواحدة، كإزراء هذه الفرقة الإسلامية بتلك، وقد مدح أستاذه أبا نوح التّفليسي[40] لأنه يرفض الإزراء بأقوال المعتزلة رغم اختلافه عنهم، وكان يُصرّ على مجرّد «الحكاية». وقد عَلَّق الطالب على موقف الأستاذ بقوله أنّ الإزراء قد نجد بين «الحاكين» أنفسهم، فهي «طريقة قَلَّ ما يخلو منها من يقصد الحكاية عن المخالفين والخصوم. ثمّ إنّها تكون أظهر في ما كان عن المذاهب التي يجمعها دين واحد ونِحْلة، لاقترابها واختلاطها؛ وأخْفى في ما كان عن المِلَلِ المفترقة، وخاصة ما لا يتشارَك منها في أصل وفَرِعٍ، وذلك لبُعدها وخَفاء السبيل إلى تعرُّفها، والموجود عندنا من كتُب المقالات وما عُمِل في الآرَاء والدِيانات لا يشتمل إلا على مِثله»[41].

وهذا ما جعل الأخبار عن أحوال الأمم وغيرهم من النّاس «من الأسمار والأساطير، يستمع لها تعللا بها والتذاذًا لا تصديقا لها واعتقادًا»[42]. ولذلك كان أكثر ما هو مسطور في الكتب عن المُنْتَحلات الهندية «مَنْحُولٌ، وبعضها مُهَذَّبٌ على رأيهم ولا مشذّب»[43]. وجلّ المقالات عن الأديان الأخرى «لم يكن من جميع الأديان في شيء، بل منفردا بمُخْتَرَع له يدعو إليه»[44].

البيروني يتجاوز العقبات المعرفية ويضع قطيعات لتأسيس العلوم الإنسانية:

لقد مهّدت قطيعات البيروني على مستوى العلوم الطبيعية، لتهيئة إمكانية إنجازه قطيعات على مستوى معرفة الاجتماعيِّ. فهو جزء من الزمن المعرفي البويهي الذي تميّز بكثير من العقلانية.

كان أصحاب السلطة الدينية السلفية منذ عهد المتوكل يريدون طيلة 104 من السنوات محو الإنسان، ضحية للتسليم واللاعقل، بينما كان ثُقفاء عصر الحرّيات البُوَيْهِيّ «يُريدون تعريف الإنسان بما هو عَدْل وحق في العلاقات البشرية والطبيعية الواقعية أو جوهر الأشياء. كانوا يريدون تعليمه الدرس الواقعي المحسوس والقليل التعميم في ما يخص التجارب الفردية والجماعية. وكانوا يريدون تعريفه بالقواعد المستخلَصَة مِنْ قِبَل نتيجة منطقية أو بناءًا عليها»[45]، أو بواسطية «العِيان» (أي البحث الميداني) والمحاجّة والبرهان، بعد أن كان ممنوعًا منها.

كان القادة البويهيّون يَطْلُبُونَ مِن البيروني صنع آلة رَصد أشرف عليها التِّقانيّ الخَوْحَنْدِي فألف كتيّبه الأول: « حكاية آلة السُّدس الفخرية»[46]، وكانوا يطلبون من ابن بابوَيه المناظرة معهم (رُكن الدولة). وقد منحوا الأولوية «للاهتمام بالمشاكل الأخلاقية- السياسية»[47]، وأدى الفضول العلمي والحس النقدي لديهم إلى تنظيم جديد للمعرفة؛ وعِوض حَصْر «الحقوق»، كل الحقوق، في حقوق الله (المحاسي: الرعاية لحقوق الله)، كان التنصيص على حقوق الإنسان بما هي حُقُوق رئيسيّة لله نفسه، فطالما انتفض التوحيدي- مثلا – ضد « التفاوت الاجتماعي للرَّيْع بين الأقلية المترفة التي تسكن القصور وبين الطبقات الشعبية»[48]، وكان يريد «لوجود الإنسان أن يتحقق مِن خلال العدالة والحرّية والشَّفَافية (أي الصدق والصراحة)»[49] ليكون «مفعمًا بعشق الله»، الحريص على رِبْعة الإنسان مِنْ خِلال علاقة الغُربْة بالصداقة.

وقد طوّر البيروني والكُرْمي، في العهد البُويْهِي آلات المساحة، والأسطرلات. وأبدع البيروني جهازًا لتنفس الغوَّاصين وأدواتٍ للتعدين الباطني وتعدين الفولاذ وتحديد استقامة الحفر في المَنَاجم وإنتاج الفولاذ المنصهر[50].

انتصر البيروني للرياضيات والتجربة، ولم يكن يهمّه في ذلك أن يعارض دفاع رئيس علوم عصره، الشيخ الرئيس ابن سينا، عن الكسموس الإغريقي واللوغوس الأرسطي[51]. فما هي شروط الملاحظة وكيفية ممارستها عند البيروني؟

من أنواع الملاحظة العلمية يستعمل البيروني الملاحظة المباشرة والملاحظة بالمعايشة. ويسمّي البيروني الملاحظة المباشرة: «العيان». وهو يضعه في قطيعة مع «الخبر»، خبر الرحّالة والتّجار والقصّاص: «ليس الخبر كالعيان، لأن العيان هو إدراك عين الناظر عين المنظور إليه في زمان وجوده  وفي كل مكان حصوله»[52].

ولذلك انتقل البيروني بنفسه إلى بلاد الهند، وخاصة منها بلاد الهند الشمالية- الغربية، ويقال أنه عاش هناك 40 سنة[53]، وإن كنت أرفض هذا العدد، لكنْ مِنَ المسلّم به أنه عاش هناك باحثا مدة طويلة.

أما الملاحظة بالمعايشة فيسيمها البيروني «الوَصْلَة» وهي نقيض «القطيعة»[54]، إذ أنّ «القطيعة تخفي ما تبديه الوصلة»[55]. وهي لا تكون بمجرد إقامة الباحث بميدان المبحوث، بل يجب عليه في نظر البيروني أن يتمكن من لغة المبحوثين، ومن دينهم ونِحْلَتهم: «إني كنت أقف من منجّميهم مقام التلميذ من الأستاذ لعجمتي في ما بينهم، وقصوري عمّا هم فيه من مواضعاتهم. فلما اهتديت قليلا لها، أخذت أوقفهم على العلل، وأشير إلى شيء من البراهين، وألوّح لهم الطرق الحقيقية في الحسابات، فانثالوا عليّ متعجبين، وعلى الاستفادة متهافتين، يسألون عمّن شاهدته من الهند حتى أخذت عنه، وأنا أريهم مقدارهم وأترفّع عن جنبتهم مستنكفا، فكادوا ينسبونني إلى السحر. ولم يصفوني عند أكابرهم بلغتهم إلا بالبحر والماء يحمض حتى يفور الخلُّ»[56].

فالتمكن من لغة المبحوثين يمر بعدة مراحل، ولكن ينبغي أن يبدأ بالتواضع معهم، فإذا كانت السيطرة على لغتهم ينبغي أن يسود محاورتهم الترفع عن الجنبة والاستهزاء. وقد قرأ البيروني الكثير من الكتب البَرْهَمِيَّة باللغة السنسكريتية.

لقد نظر في الكتب البَرْهَمِية السنسكريتية مباشرة: «وكُنْتُ نقلت إلى العربية كتابين أحدهما في المبادئ وصفه الموجودات واسمه «سانك»، والآخر في تخليص النفس من رباط البدن ويعرف بـ« ياتنجل»، وفيهم أكثر الأصول التي عليها مدار اعتقادهم دون فروع شرائعهم»[57]. فالتحقيق لا يمكن أن نطالعه من خارج المختصّون في الدين البَرْهمي «لا يهذّبونه»[58]، أي لم يشرحوه كتابيّا، فلا بد من الرجوع إلى الكتاب الأصلي في لغته الأصلية.

من ناحية أخرى يعتمد في بحثه الاجتماعي ما يسميه «الحكاية»: «وإنّما هو كتاب حكاية، فأُورِد كلام الهند على وجهه»[59]. والحكاية هي ما تسميه الإثنوغرافيا والإثنولوجيا المعاصرتان الوصف الدقيق والمطابق للواقع.

وكل هذه التقنيات، إنما هي من أجل أن «يؤدي إلى الإحاطة بالمطلوب بمشيئة الله»[60].

من ناحيةٍ أخرى، تطلب الإثنولوجيا «المقارنة» وكذلك البيروني، إذ علاوة على الحكاية استخدم «المقاربة» (بالباء) كما اصطَلَح، فقارب مُنْتَحلات الهنود في «رموز نِحْلتهم ومَوْضِعَات ناموسهم»[61] مع مُنْتَحلات اليونانيين والمسلمين (وخاصة الصوفية منهم) والنصارى واليهود. وقد كان يصبح عمله في بعض «المقاربات» تمشّيًا أنثروبولوجيًّا بأتم معنى الكلمة، في مقاطع متشتتة بين الفصل والآخر: «إن اليونانيين وأيام الجاهلية قبل ظهور النصرانية كانوا على مثل ما عليه الهند من العقيدة، خاصُّهُمْ في النظر قريب من خاصِهّم، وعامُّهُمْ في عبادة الأصنان كَعامِّهِمْ (...) ولكن اليونانيين فازوا بالفلاسفة الذين كانوا في ناحيتهم حتى  نقّحوا لهم الأصول الخاصة دون العامة (...) يدل على ذلك سقراط لما خالف في عبادة الأوثان (..) ولم يك للهند أمثالهم ممن يهذبُ العلوم (...)»[62].

لغة التحقيق الهندي لغة علمية لا عاميّة:

استطاع البيروني من أول التحقيق إلى آخره أن يقطع مع اللغة العامّة. فلم تكن لغة التكرار، ولا لغة التعجب، ولا لغة السخرية، ولا لغة الاستهجان والتكفير، ولا لغة التهويل ولا التحقير. فلم يكن انتماؤه الإسلامي- الإمامي ليجعله في تعامله العلمي مع الآخر ليبعده عن الموضوعية.

5-1: المَفْهَمَة أو استنباط «المقولة»: المفهوم هو أحد الأدوات العِلمية للبناء العلمي، إنه ليس الظاهرة نفسها، بل هو تجريد، «فهو من ناحية يمثِّل نشاطا تطبيقيا، حسّاسًا، واتصالا بالعالم تحت شكل كائنات خصوصية»[63]. فهو يسمح بتجاوز المباشر والحسّيّ والظاهر، ويُدخلنا ضمن الفهْم وضمن درجة عالية من الموضوعية[64].

يمكننا أن نحصر اصطلاحيته المقوليّة أسَاسًا في:

النِّحْلة.

المِلّة.

الناموس (أي القانون).

النّفار والمباينة.

التقليد.

التهارُج.

ولغته تتحرّى الدّقة والإيجاز معا، فهو يرفض ما في اللغة العامة من مرواغة و وُجوه وفضفاضية أحيانا، ويبرّر ذلك بقوله بأن ذلك «لمن له دراية واجتهاد، ومحبٌّ  العلمَ (...) ومَنْ كان على غير هذه الصفة، فلستُ أبالي أَفهِمَ أم لم يفهم» [65].

5-2: عَنْونة الكتاب عَنْونَةً علميةً:

بداية القطيعة في عَنونة في تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة. فالعَنْونة أولى امتحانات العلمية. ولها معايير، أهمّها وجود «موضوع» و«مسألة». فالموضوع يكون مبنيّا قفي صورة مفهومٍ أو علاقة بين مفهومين أو ثلاثة على الأكثر، عادة، والمسألة تحدّد المكان ومعه الزمان أحيانًا، أو الطائفة المختارة للبحث، أو الجزئية (أو الجزئيات) من الموضوع الأوسع.

ومن معايير العنونة العلمية أن تكون ذات مفاهيم.

وينبغي أن تكون العنونة بعيدة عن الانحياز أو السخرية أو الرفض والموقف المسبق.

ولقد توفرت في عنونة البيروني لهذه الكتاب شروط العنونة العلمية:

لفظة «في» تحْمِلُ تواضعا علميّا، فهذا البحث ليس تحقيقا، وإنّما هو في التحقيق، أي قابل للتطوير. وهو ما يعني الانفتاح الإبستيمولوجي.

هو «تحقيق»: أي مبحث علمي، وليس تقريرا رِحْلِيًّا أـو تَجَسُّسيًّا، أو انحيازا للمبحوثين أو رفضا لهم.

وهو بما هو تحقيق، يجب أن يعتمد «المقولات»، أي المفاهيم. فهو بحثٌ في تطبيق المقولات على الاجتماع الهندي.

وهو بما هو «تحقيق»، ينبغي أن يكون «حكايةً» فلا يهمّ المحقق إن كانت تطبيقات الهنود في تلك المقولات «مقبولة في العقل أو مرذولة». وهي ما تُسمى اليوم «الموضوعية العلمية».

اعتماد الجدل العلمي لإعادة تأسيس علم أحوال الأمم والطبقات:

اعتمدت قطيعة البيروني المعرفيّة على قطيعة أستاذه أبي العبّاس الإيرانْشَهْرِيّ[66]: «ولقد أحسن في حكاية ما عليه اليهود والنصارى وما يتضمنّه التوراة والإنجيل، وبالغ في ذِكْر المانويّة، وما في كتبهم من خبر المِلل المنقرضة»[67]. فهو الوحيد الذي «قصد الحكاية المجردّة من غير ميل ولا مداهنة»[68]. ولكن البيروني ينتقد أستاذه الإيرانْشَهْرِيّ: «وحين بلغ فرقة الهند والشامانية صاف سهمه عن الهدف، وطاش في آخره إلى كتاب زرقان ونقل ما فيه إلى كتابه، ما لم ينقل منه، فكأنّه مسموع من عوامّ هاتين الطائفتين»[69]. فلمّا عرض عليه البيروني ما عرفه عنهم، كان موقفه موقف العلماء غيّر الإيرَانْشهْريّ مقاربتهُ: «ولما أعاد الأستاذ، أيّده الله، مطالعة الكتب، و وجد الأمر فيها على الصورة المتقدّمة، حرص على تحريرها عرفته من جهتهم ليكون نصرة لمن أراد مناقضتهم وذخيرة لمن رام مخالطتهم. وسأل ذلك ففعلتُهُ، غير باهت على الخصم، ولا متحرّج عن حكاية كلامه، وإن باين الحقّ واستُفْظِعَ سماعُهُ عند أهله، فهو اعتقاده، وهو أبصر به»[70]. وهنا يظهر المفكّر الإيرانْشَهرْيّ[71] مولّدًا للحقيقة العلمية، وإن لم يكن صانعًا لها، فهو من بيئة القطيعة البَيْرونيّة.

إنّ البحث الإثنوغرافي عند البيروني ينبغي أن يكون اعتمادًا على وعي المبحوث نفسه، سواء أدلى به شفويّا أو كتابيا. فالكتاب الإثنوغرافي ينبغي أن لا يكون «كتاب حجاج وجدل حتى أَسْتَعْمِلَ فيه بإبراء حجج الخصوم ومناقضة الزائغ منهم عن الحقّ، وإنّما هو كتاب حكاية، فأورد كلام الهند على وَجْهِهِ»[72].

لقد عاد البيروني إلى الإبرانْشَهْرِيّ في تناوله للشامانية وعوالم جبل ميرو[73]، ويبرّر هنا عدم رجوعه إلى المبحوثين بقوله: «ولأني لم أجد كتابًا للشامانية ولا أحدا منهم استشف من عِنْدِهِ ما هم عليه، فإنّي حكيت عنهم فبواسطة الإيرانْشَهْرِيّ، وإن كنت أظنّ أن حكايته غير محصّلة، أو مِنْ غَيْرِ مُحَصّل»[74]. وهكذا، فهو يعبّر عن أوْلوية «الحِكاية» المباشرة، بأن كلام عالم الاجتماع السابق، الإيرانْشَهْرِيّ، يبقى محلّ نظرٍ.

لقد استفاد البيروني من درس الإيرانْشَهْرِيّ[75] في الإنسانيات. فقد أسَّسَ قطيعتَهُ في الطبيعات اعْتمادًا على مجادلة ابن سينا، وأسّس قطيعته الإبستيمولوجية، اعتمادًا مجادلة الإيرانْشَهْريّ الإبستيمولوجية. ولكن من سوء الحظ أن درس البيروني لم يجد من يؤسّس من جديد عليه، فانقرضت العلوم الإنسانية من جديد بعد البيروني[76]، لكي تُعيد الظهور مع القطيعة الخلدونية في علم الاجتماع.

المنهج الرياضي والقانون العلمي في إنسانيات البيروني:

هاجس البيروني الأساسي هو «التحقيق» بـ«الحكاية». ولذلك شعر بالصعوبة الإبستيمولوجية والمنهجية في فصل «في أجناس الخلائق وأسمائهم»: «هذا باب يصعب تحصيله على التحقيق، لأنّنا نطالعه من خارج، وأولئك لا يهذبونه، ولاحتياجنا إليه في ما بعده، نقرّر منه جميع المسموع إلى وقت تحرير هذه الأحرف»[77]. فهو يَطْلب المطالعة من داخل المجتمع المبحوث لا من خارجه، لأن المطالعة الخارجية فيها الكثير من الإسقاط.

لقد وجد في العقل الرياضي مساعدًا على البحث الإثنوغرافي فهو بحثه على جعل تحقيقه تسلسلا، فهو يحتاج للفصل من البحث لما بعده من فصول «تُقرّر منه جميع المسموع».

وهو يبدأ، في استدلاله الإنسانياتي بالقانون أـي «السُّنّة» في لغته، ليمرّ إلى التحقيق، أي هو يبدأ بالعامّ لكي يمرّ إلى الخاصّ، تمامًا كالاستدلال الرياضي. ومن ذلك هذه الأمثلة:

«إنما اختلف اعتقاد الخاص والعام في كلّ أمّة بسبب أن طباع الخاصّة بنازع المعقول وبِقَصْدِ التحقيق في الأصول. وطباع العامّة يقف عند المحسوس ويقتنع بالفروع ولا يروم التدقيق، وخاصّة في ما افْتَنَّتْ فيه الآراء ولم يَتَّفِق عليه الأهواء» (بداية فصل: «ذكر اعتقادهم في الله سبحانه»)[78].

«كلّ أمر صدر عن مستهتر طبعا بالسياسة، مستحق بفضله وقوته للرئاسة، ثابت الرأي والعزيمة[79]، مُعان بدولة في الأخلاق بتركهم الخلاف بالأسلاف؛ فقد تأكَّد ذلك الأمرُ عند مأمور به (..) وبقي فيهم مُطاعا في الأعقاب. ثمّ إن استند ذلك إلى جانب من جوانب مِلّةٍ، فقد توافَى فيه التوأمان وكمُل الأمر باجتماع المُلْك والدين (..)»

«وقد كان الملوك القدامى المعنيون بضاعتهم يصرفون معظم اهتمامهم إلى تصنيف الناس طبقات ومراتب يحفظونها عن التمازج والتهارج، ويحظرون الاختلاط عليهم بسببها، ويلزمون كل طبقة ما إليها من عمل أو صناعة وحِرْفة، ولا يرفضون لأحد تجاوز رتبته ويعاقبون من لم يكف بطبقته» (بداية فصل «في ذكر الطبقات التي يسمونها ألوانا وما دونها»[80]).

«معلوم أن الطباع العامّي نازع إلى المحسوس نافر عن المعقول الذي لا يعقله إلا العالمون الموصوفون في كلّ زمان ومكان بالقلّة، ولسكونه إلى المثال عدل كثير من أهل الملل إلى التصوير في الكتب والهياكل، كاليهود والنصارى، ثم المنانية خاصّة» (بداية فصل «في مبدإ عبادة الأصنام وكيفيّة المنصوبات»)[81].

«يجب أن لا يلتفت إلى اختلاف الأسامي والمعاني التي أوردها. أما في الأسامي فسهل الإصلاح لاختلاف اللغات، وأما ما في المعاني فإما أن يحصل منه شيء يُرْغَب في فهمه وموضوعه، وإما أن يعرف فيه تناقض كلّ ما لا أصل له» (بداية فصل «في ذِكْر الديبات السبعة بالتفصيل من جهة البرانات»)[82].

«النكاح ما لا يخلو منه أمّة من الأمم، لأنّه مانع عن التهارج المستقبح في العقل وقاطع للأسباب التي تهيّج الغضب في الحيوان حتّى يُحْمَل على الفساد. ومن تأمّل تزواج الحيوانات واقتصارَ كل زوج منها بزوجة وانحسامَ أطماع غيره عنهما استَوْجَبَ النكاحَ؛ واحتوى السِّفاح آنفةً للقصور عن رتبة ماهو دونه من الحيوانات. ولكل أمّة فيه رسوم، وخاصّة من ادعى منهم شريعة وأوامر له إلهية» (بداية فصل: «في المَنَاكح والحيض وأحوال الأجِنَّة والنفاس»)[83].

وربّما عوّض البيروني المنطلق القانوني- النظري- التعميمي، بقضية مُقارنية يدلف بها الخصوصيّة الهندية.

وهو يستعيد المنهج الرياضي بالإنسانيات (أو «دراسة أحوال الأمم والطبقات» بتعبيره)، بإكثاره من الجداول التوضيحيّة، كجدول المذنبات المتوسطة في الجوّ[84] وجدول البروج[85]. وهو يستعمل الرسم الهندسي، كما فعل في تناول جبل ميرو[86].

ولكنّه ليس متعسّفا في استعمال الأشكال والوسائل الرياضيّة، بل يستعملها عندما تبدو وظيفتها: «ويتعذّر في ما قصدناه سلوك الطريق الهندسي في الإحالة على الماضي دون المستأنف، ولكنّه ربّما يجيء في بعض الأبواب ذكر مجهول، وتفسيره في الذي يتلوه»[87].

أما على مستوى المقاربة، فقد كانت مقاربة البيروني مقاربة رياضية لأحوال الأمم، في البناء النظري، وفي أكثر الاستقراء الدقيق والتفصيلي.

كيفية التعامل مع لغة المبحوثين ونقلها للغة الباحث:

يجتهِدُ البيروني في اكتناه مَنطوق المبحوثين، فينقله حرفيّا إلى اللغة العربية، فهو« ذاكِرٌ من الأسماء والمُوَاضَعات في لغتهم ما لابدّ من ذكره مرةً واحدة يوجِبُها التعريف»[88]، ساعيًا إلى أن يكون النقل إلى الحرف العربيّ دقيقًا: «فنستعمِلهُ بعد غاية التَّوْثِقَة مِنْه في الكَتْبَة»[89].

أما إن كان اللفظ مشتقا «يمكن تحويله في العربية إلى معناه لم أمِل عنه إلى غيره إلا أن يكون بالهندية أخفّ في الاستعمال فنستعمله»[90]. وإن كان مقتضبا شديد الاشتهار، يستعمله «بعد الإشارة إلى معناه»[91].

وكل هذا التحرّي من خصوصيات العمل الإثنوغرافي العلميّ الجيّد. فبِاللّغة أساسًا يمكن الوصول إلى المبحوث ونِحْلَته.

الإخفاق الخلدوني في محاولة تأسيس الإثنوغرافيا والأنثروبولوجيا:

لَمْ يعترف ابن خلدون بالتأسيس البيْروني للعلوم الإنسانية، ممّا جرَّ ذلك إلى إخفاقه في تأسيس إثنوغرافيا علمية فضلا عن الأنثروبولوجيا. ولم يعترف بتأسيس أبي زيد البَلْخي لعلم النفس العلمي في كتابه مصالح الأبدان والأنفس، فكانت نتائجه في معرفة أخلاق الأمم غير علمية، وفي معرفة تطوّر أخلاق المدينة محدودة.

خصّص ابن خلدون المقدّمة الثانية والمقدّمة الثالثة والمقدّمة الرّابعة والمقدّمة الخامسة للبحث الإثنوغرافي، أو في «أحوال الأمم» كما كتب البيروني.

فبعد أن قسم الأرض إلى أقاليم، انتهى إلى أنّ «الإقليم الرّابع أعدل العمران، والذي حافاته من الثالث والخامس أقرب إلى الاعتدال، والذي عليهما والثاني والسادس بعيدان عن الاعتدال، والأوّل والسابع أبعد بكثير»[92]. وانتهى من ثمّة إلى أن ذلك يستتبع أن «العلوم والصنائع والمباني والملابس والأقوات والفواكه، والحيوانات وجميع ما يتكوّن في هذه الأقاليم الثلاثة المتوسّطة مخصوصة بالاعتدال، وسكّانها من البشر أعدل أجساما وألوانا وأخلاقا وأديانا. حتى النبوءات، فإنّما توجد في الأكثر فيها، ولم نقف على خبر بعثه في الأقاليم الجنوبية ولا الشمالية. وذلك أن الأنبياء و الرّسل إنّما يختصّ بهم أكمل النوع في خلقهم وأخلاقهم، قال تعالى: ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ (آال عمران، الآية 110)، وذلك ليتم القبول بها يأتيهم به الأنبياء من عند الله»[93]. وهكذا يُرادف ابن خلدون بين الاعتدال المناخي والاعتدال الأخلاقي،  ولكنّه لم ينتبه إلى أنّ داخل الاعتدال المناخي تفاوتًا، فكيف يكون العرب وأهل الشام الأعدل في شعوب المنطقة المعتدلة وأصحاب النبوءة فيها، في حين أنّ مناخ الجزيرة العربية دونها اعتدالا وأقواتا؟! وإذا كانت كثرة النبوءة في شعب دليل تفوق عدالي- أخلاقي، فسيكون اليهود أعدل شعوب الأرض وأعظمها أخلاقا، وهو أمر ليس بالضرورة صحيحا، فقد تكون كثرة النبوءات دليل تدهور أخلاقي يتطلّب كثافة في النبوءات، وقد تكون قلّتها دليل عافية أخلاقيّة نسبيّة. وربّما هناك نبوءات كثيرة خارج منطقة الاعتدال لم يسمع بها ابن خلدون، وقد يكونُ من اعتبره حكيمًا هو في الحقيقة نبيٌّ رسولٌ (بوذا، بَرْهَمَا، كُنفشيوس، زرادشت، ماني...)...

ولقد كانت آية سورة آل عمران تتناول ما يجب أن يكون في الأمّة، فجعلها ابن خلدون تتناول حالة قارّة، وهو أمر غريب يصدر من عالم دين مِثْلَهُ، وهو ينمّ عن نزعة تعصّب عنصريّ ونزعة تبرير لكلّ تاريخ الأمّة الإسلاميّة، ليصبح كلّ ما قامت به من خير أو شرّ كلّه، بما فيه الاستبداد وقطع الرؤوس والسّبي والنخاسة والتّفاوت «الاقتصادي» والجنسي (وهي أمور لا تختصّ بأمّتنا وحدها). فحتى الرعيل الأوّل كانت له أخطاؤه: ترك النبيّ وحده في صلاة الجمعة (كما في سورة الجمعة، الآية 11)؛ التّظاهر على النبيّ (سورة التحريم الآية4)؛ عدم الالتزام بأوامر النبيّ بمعركة أحُد الدّفاعية بحثا عن الاغتنام؛ قَتْلُ أسامة رجلا نطق بالشهادة لما رأى السيف فوق رأسه...

وهو يعتبر أهل هذه الأقاليم المعتدلة «أكمل لوجود الاعتدال لهم، فنجدهم على غاية من التوسّط في مساكنهم وملابسهم وأقواتهم وصنائعهم، يتخذون البيوت المُجدة بالحجارة المنمّقة بالصناعة، ويتناغون في استجادة الآلات والمواعين، ويذهبون في ذلك إلى الغاية»[94].

وهذا كلام غير علمي، بل محمول بنزعة التعصّب العنصري. فبهذا السياق، ستكون العرب (باستثناء اليمن) أقلّ أمم الاعتدال المناخي اعتدالا أخلاقيّا، لا لشيء إلاّ أنّهم في الأغلب أهل خيام و لا أهْل بيوت حجارة، وأصل آلات ومواعين.

وهو يؤكّد أن لدى أهل الأقاليم المعتدلة «المعادن الطبيعيّة من الذهب والفضة والحديد والنحاس والرصاص والقصدير، ويتصرّفون في معاملاتهم بالنقدين العزيزين، ويبعدون عن الانحراف في عامة أحوالهم»[95]. وهو كلام غير علمي، لأننا نجد المعادن في كلّ الأقاليم، وربّما في الأقاليم وربّما في الأقاليم غير المعتدلة أغير. وليس كلّ شعوب الاعتدال المناخي تستعمل النقد، بل كان بعض العرب يستعملون المقايضة ولا يعني ذلك دونية أخلاقية أو نِحْليّة، وبعض المناطق غير «المعتدلة» مناخا سبقت في استعمال النّقد، ولا يعني ذلك تفوّقا أخلاقيّا في ذاته.

إنّه يرى أن أهل الأقاليم البعيدة «أبعد عن الاعتدال في جميع أحوالهم فبناؤهم بالطين والقصب، وأقواتهم من الذرة والعشب، وملابسهم من أوراق الشجر يخصفونها عليهم، أو الجلود، وأكثرهم عَرَايا من اللباس، وفواكه بلادهم غريبة التكوين مائلة إلى الانحراف، ومعاملاتهم بنفس الحجرين الشريفين من نحاس أو حديد أو جلود يقدّرونها للمعاملات. وأخلاقهم مع ذلك قريبة من خُلق الحيوانات العَجم، حتى ليُنْقَل عن الكثير من السودان أهل الإقليم الأوّل أنهم يسكنون الكهوب والغياض، ويأكلون العشب، وأنهم متوحشون غير مستأنسين يأكل بعضهم بعضا، ليعدهم عن الاعتدال يقْرب عرض أمزجتهم وأخلاقهم من عرض الحيوانات العُجم ويبعدون عن الإنسانية بمقدار ذلك. وكذلك أحوالهم في الديانة أيضا، فلا يعرفون نبوءة، ولا يدينون بشريعة؛ إلاّ من قرب من جوانب الاعتدال، وهو في الأقل النادر مثل الحبشة المجاورين لليمن (...) ومثل أهل مالي (...) المجاورين لأرض المغرب»[96]. وهو كلام غير علميّ، وليس مبنيّا على تقارير علمية أو مشاهدة، فحتّى العرب كان الكثير منهم يسكنون الخيام وبناؤهم الطين والقصب، وحَزَّ بعضُهُمْ رؤوسَ بعضٍ (دامت حرب داحس والغبراء قرابة قرن). ولقد كانت مملكة بينين ومملكة الزِّمْبابوي البعيدتين عن المناطق «المعتدلة ذواتي نقد وحضارة ومتفوقة على مُنْتَحل العرب قرونا طويلة. ولم تكن حضارة مالي مكتشفة القارة الأمريكية عالةً على حضارة بلاد المغرب، فلو كان ذلك، ما كانت بلاد المغرب التي عاصرت مَنْسا موسى ومَنسا سليمان تعيش الفوضى وأقلّ شأنا حضاريّا ومعاشيّا.

وإنَّ اعتبارَ ابنِ خلدون السّود وبيض الشمال الأقصى واسكندينافيا أقرب إلى «الحيوانات العُجم» وأبعد «عن الإنسانية» أمرٌ غريب من عالِم دينٍ مسلمٍ مثله يعلم من حِكْمَةِ نبيّه: «لا فرق بين عربي وأعجمي إلاّ بالتقوى»، ومِنْ قرآنه: ﴿وجَعَلناكم شُعُوبا وقَبَائل لِتَعَارَفوا﴾، وهل إنّ النبيّ لقمان[97] الأسود، الحبشي- اليمني، اقلّ شأنا من ابن خلدون الأبيض؟! ولقد استكثر العديدُ من «علماء» الدين ذوي النزعة التعصبية العنصرية على لقمان النبوّة، فكيف يكون في نظرهم إفريقيٌّ مُعَلِّما سماويًّا للعرب؟ فهم مثل ابن خلدون يُقصون القارة السوداء من إمكانيّة النبوّة والحكمة [﴿الكتاب والحكمة﴾ كما في القرآن الكريم]. ولقد استهزأ الكثير من المثقّفين بمحمد أبي الجُودِ بعامل لونه وأمّه النوبية.

يتبنى ابن خلدون التصنيف اليهودي للأجناس والأمم من خلال توراته واستتباعاته الإزرائية بمَنْ هم غير يهود، وخاصة السود[98]. فإزراء ابن خلدون بالسود يعود إلى «لعنة» نوح اليهودي على حام، الذي هو ليس أبا السود فقط بل أبا الكنعانيين/ الشاميين أيضا، لتجعل تلك اللعْنة كل حاميّ «عَبْد العبيد»[99]. وذلك التصنيف ما زال مستمرًّا لدى الكثير من أهل الأنثروبولوجيا المعاصرة في الغرب والعالم العربي («ساميون»/ «حاميّون»...)، وباقي العالم الذي لم تصنّفه تلك التوراة يُمْتَثلُ في فوضى تصنيفيّة أخرى... فقد تبنّى ابن خلدون روح ذلك التصنيف، وهو تحقير غير «السّاميّين» وغير المنتمين لجغرافيا النّبوّة «الساميّة» المزعومة التي قتلت المسيحانيّة والعرفانيّة ونَظَرَتْ للمِلّة العرقيّة انغلاقا وشعورا بالتفوّق. وليس في تقسيم البشر إلى منحدرين من أبناء ثلاثة لنوح إثباتٌ، خاصة أكثرية من كانوا على سفينته لم يكونوا من أبنائه.

خاتمــــة

لا يفوق نجاحُ التحقيق الهنديّ البيرونيّ نجاح إنجازه الآخر في العلوم الإنسانية، وهو العمل الإثنوغرافي ذو الملاحَظات الأنثروبولوجية الهامة: الآثار الباقية عن القرون الخالية، وهو عَمل مُقَارِن في ضَبْط مختلف النِّحل للزمن، «التواريخ التي يستعملها الأمم والاختلاف الراجع في الأصول التي في مبادئها، والفروع التي شُهورها وسِنُوّهَا، والأسباب الداعية لأهلها إلى ذلك»، مبتعدًا فيه عن «العادة المألوفة والتعَصب واتباع الهوى والتغالب بالرئاسة»[100].

لم تكن علاقة البيروني بالموضوع الاجتماعي الهنديّ متوترة، تشنجية، كما كان واقع ابن خلدون مع السلطة والمدينة والأعراب بالموضوع الاجتماعي المغربيّ، ممّا جعل الاستعداد للتخلّص من العقبة الإبستيمولوجية النفسية لدى البيروني أقوى وأوضح.

إنّ الشرح النفسي للمعرفة الاجتماعية لدى البيروني وابن خلدون والنّقد الابستيمولوجي لهما، يستوقفاننا على أطروحة تأسيس البيروني للعلوم الإنسانية في القرن الرابع هجريا، وسَبْقِهِ في ذلك الأطروحةَ الخلدونية، بل اكتشفنا أنّ عقبة الغرور العلمي لدى ابن خلدون جعلته لا يستفيد من اللحظة البيرونية، بل تجاهَلَهَا ولم يراكم عليها ليتجاوزها. وهذا ما حمّل اللحظة الخلدونية أخطاء ما كانت لتكون بدءا لو كان التأسيس الخلدوني فوق التأسيس البيروني. وتلك عقبة إبستيمولوجية مازلنا نراها في العلاقات العلمية الإقصائية بين الأطروحات العلمية العربية المعاصرة[101].

 

د. عادل بالْكَحلة

أستاذ تعليم عال، قسم علم الاجتماع،

كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية، تونس

..............................

[1] . «الإمّة» هي المركز التوليدي في مُنتحلِ أو فكْر معَيّن : (راجع: الفيروز أبادي، القاموس المحيط، عالَم الكتب، بيروت، د.ت، المجلد4، ص76.

[2] . وقيدي (محمد)، فلسفة المعرفة عند غسطون بشلار، مكتبة المعارف، الرباط، 1984، ص 53.

[3] . وقيدي (محمد)، م. س، ص 64.

[4] . Bachelard (G), L’activité ratrionaliste dans la physique contemporaine, P.U.F, Paris, 1965,p 45.

[5] . وقيدي (محمد)، فلسفة المعرفة عن غسطون بشلار، مكتبة المعارف، الرباط، 1984، ص 53.

[6] . «الشَّرْح» في الاصطلاح العربي القديم هو Analyse (fr) ، «Analyze (eng)» في لغات أوروبا الغربية (شرح كتاب النفس عند أرسطو لابن رشد مثلا...)

[7] . الأَرَان هو dynamique (fr), dynamic (eng)، في لغات أوروبا الغربية.

[8] . تصرّفنا في ترجمة محمد وقيدي برجوعنا إلى الأصل، م. س، ص 11.

Bachelard, La formation de l’esprit scientifique, vrin, Paris, 1972, P13.

[9] . وقيدي (محمد)، م. س، ص 111.

[10] . م. س، ص 115.

[11] . م. س، ص 118.

[12] . وقيدي (محمد)، م. س، ص 119.

[13] . م. س، ص 119.

[14] . ترجمة محمد وقيدي، بتصرف منّي، ص 119، نقلا عن بشْلار، م. س، ص 97.

[15] . م. س، ص 130.

[16] . وقيدي (محمد)، م. س، ص 130.

[17] . وقيدي (محمد)، العلوم الإنسانية والإيديولوجيا، منشورات عكاظ، الرباط، 1988، ص 166.

[18] . Bourdieu (P.) et autres, le métier du sociologue, éd. Mouton, Paris, 1984, P36.

[19] . وقيدي (محمد)، العلوم الإنسانية والإيديولوجيا، ص 169.

[20] . وقيدي (محمد)، العلوم الإنسانية والإيديولوجيا، ص 168.

[21] . م. س، ص 169.

[22] . م. س، ص 169 أيضا.

[23] . م. س، ص 170.

[24] . وقيدي (محمد)، العلوم الإنسانية والإيديولوجيا، ص 166 أيضا.

[25] .وقيدي (محمد)، م. س، ص 174.

[26] . Bourdieu (P.) et autres, le métier du sociologue, p14.

[27] . البيروني (أبو الريحان)، في تحقيق ما للهند مِن مقولة، مقبولةً في العقل أو مرذولةً، عالَم الكُتُب، بيروت،1983، ص17، مثلا.

[28] . «الأمّة» في الأصل اللغوي هي «الجماعة» عامَّة [الفيروز أبادي، القاموس المحيط، عالَم الكتب، بيروت، د.ت، المجلد 4، ص 76)]. وبهذا الاعتبار تكون «الطبقة» أمّة أيضا.

[29] . البيروني، م. س، ص 17.

[30] . البيروني، م. س، ص 17.

[31] . م. س، ص 13.

[32] . م. س، ص 13 أيضا.

[33] . «السَّوْق» (بفتح السين) هو الاستراتيجيا في لغات أوروبا.

[34] . م. س، ص 13 أيضا.

[35] . م. س، ص 13 أيضا.

[36] . م. س، ص 14.

[37] . م. س، ص 14.

[38] . م. س، ص 14 أيضا.

[39] . م. س، ص 14 أيضا.

[40] . تِفْليس هي عاصمة بلاد الكُرْج (تِبيليسي عاصمة جورجيا).

[41] . البيروني، م. س، ص 15.

[42] . البيروني، م. س، ص 15 أيضا.

[43] . البيروني، م. س، ص 15 أيضا.

[44] . البيروني، م. س، ص 15 أيضا.

[45] . أركون (محمد)، نزعة الأنسنة في الفكر العربي: جيل مِسْكوِيه والتوحيدي، دار الساقي، بيروت، 1997، ص 314.

[46] . نسْبَةً إلى فخر الدولة البويْهي.

[47] . أركون (محمد

)، م. س، ص 613.

[48] . م. س، ص 620.

[49] . م. س،

[50] . ....ذلك موضوع كتابه : الجماهر في معرفة الجواهر، مكتبة المتنبي، القاهرة، د.ت.

[51] . الخويلدي (زهير)، «تحدي البيروني العالم لابن سينا» ضمن: (http/www.dorool.com, P40960) وكذلك: نصر (سيد حسين)، العلوم الطبيعية عند المسلمين، دار الحوار، اللاذقية، 2003.

[52]. البيروني (أبو الريحان)، في تحقيق ما للهند من مقولة، مقبولة في العقل أو مرذولة، عالم الكتب، بيروت، 1983، ص 13.

[53] . بن مبارك (علي)، «منهج البيروني في دراسة الأديان»، مجلة ثقافتنا، طهران، المجلد 4، العدد 16، 2008، ص 23.

[54] . البيروني، م. س، ص 17.

[55] . م. س، ص 17.

[56] . البيروني (أبو الريحان)، في تحقيق ما للهند من مقولة، مقبولة في العقل أو مرذولة، ص 21.

[57] . م. س، ص 16.

[58] . م. س، ص 16.

[59] . م. س، ص 17.

[60] . البيروني (ابو الريحان)، في تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة، ص 63.

[61] . البيروني  م. س، ص 16.

[62] . البيروني م. س، ص 21.

[63] . Grawitz (M.), Méthodes des sciences sociales, Dalloz, Paris, 1996, P17.

[64]  . م. س.

[65] . من تمهيد «علي صفا» لطبعة عالم الكتب، لـ«في تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة»، ص 11.

[66] . على عكس ابن خلدون الذي لم يعترف بفضل الآخرين على قطيعته، فلم يرجع إلى البيروني، وهو المشهور، ولم يرجع إلى أبي زيد البلخي.

[67] . البيروني، م. س، ص 15.

[68] . البيروني، م. س، ص 15.

[69] . م. س، ص 15.

[70] . م. س، ص 15 أيضا.

[71] . إيرَانْشَهْر مدينة فارسية، انتُزِع إسْم «إيران» الحديثة منها.

[72] . م. س، ص 15 أيضا.

[73] . م. س، ص 247.

[74] . م. س، ص 183.

[75] . من سوء الحظ أن نسجّل «اختفاء ما ألّفه الإيرانْشَهْرِيّ واختفاء (كتابه)، كتاب الهند المقصود، لمدة تزيد عن ثمانية عقود» [ابن مبارك (علي) «منهج البيروني في دراسة الأديان»، مجلة ثقافتنا للدراسات والبحوث، طهران، المجلد 4، العدد 16، عام 2008].

[76] . ربّما نستشفي هنا أبا زيد البلحي ذا القطيعة المؤسسة لعلم النفس التجريبي.

[77] . البيروني، م. م، ص 23.

[78] .البيروني، م. س، ص 23 أيضا.

[79] . تُسمّى «العزيمة» في لغتنا العربية المعاصرة «القرار»!! (وذلك ممّا يعني أمّيتنا اللسانية).

[80] . م. س، ص 70.

[81] . م. س، ص 87.

[82] . م. س، ص 185.

[83] . م. س، ص 428.

[84] . البيروني، م. س، ص 502.

[85] . م. س، ص 453.

[86] . م. س، ص 181.

[87] . م. س، ص 22.

[88] . البيروني، م. س، ص 22.

[89] . البيروني، م. س، ص 22 أيضا.

[90] . م، س.

[91] . ابن خلدون، المقدّمة، دار الجيل، بيروت، 2005، ص 85.

[92] . م. س، ص 85.

[93] . م. س، ص 85.

[94] . بان خلدون، المقدّمة، م. س، ص 85.

[95] . ابن خلدون، المقدمة، م. س، ص 85.

[96] . م. س، ص 89.

[97] . مثال ذلك أننا مازلنا إلى اليوم نهمل درس «أبو القاسم حاج أحمد» في العالمية الإسلامية الثانية، فهما ونقدا فتجاوزا، رغم مرور العقود الطويلة على إنجازه العلمي الهامّ...

[98]  نجد التصنيف اليهودي للأجناس فس سِفر التكوين (9/18).

[99] . الكتابُ المقدَّس، كتاب الحياة، القاهرة، 1994، «سِفْر التكوين»، 9/20.

[100] . البيروني (أبو الريحان)، الآثار الباقية عن القرون الخالية، دار بِيبِلْيون، باريس، 2009، (المقدمة، ص3).

[101] . مثال ذلك أننا مازلنا إلى اليوم نهمل درس «أبو القاسم حاج أحمد» في العالمية الإسلامية الثانية، فهما ونقدا فتجاوزا، رغم مرور العقود الطويلة على إنجازه العلمي الهامّ...

 

 

الصفحة 1 من 168

  • 1
  • 2
  • 3
  • 4
  • ...
  • 6
  • 7
  • 8
  • 9
  • 10

hewar2(206)،(207)،(208)،(209)

84 mahmod mohamad ali200

اقرا ايضا

  • المثقف في حوار مفتوح مع ماجد الغرباوي (209): القداسة الذاتية والأخلاق
  • علي محمد اليوسف: فلسفة شوبنهاور وبؤس الارادة
  • علي رسول الربيعي: سؤال الى هابرماس
  • محمود محمد علي: محمد رسول الإرادة.. قراءة نقدية في كتاب الدكتور ميثم الجنابي (2)
  • ميثم الجنابي: انطون سعادة وأيديولوجية الفكرة القومية الاجتماعية (5)
  • كريم المظفر: روسيا لزيلينسكي.. انت كنت تدري فتلك مصيبة!
  • قاسم حسين صالح: 9 نيسان 2003 .. تحليل سيكوبولتك للسلطة والناس (2)
  • ابراهيم ابو عواد: تحويل التاريخ إلى ظاهرة ثقافية
  • حسن الياسري: القولُ الفصلُ في دور خبراء الفقه الإسلامي وفقهاء القانون (1)
  • محمد بنيعيش: المسار العلمي وسلبيات الاعتبارات الذاتية في المجال الجامعي

القائمة البريدية



العدد: 5332 المصادف: الاحد 11 - 04 - 2021م


العودة لأعلى

تابعونا على:

الحقوق محفوظة صحيفة المثقف 2006 - 2021 ©

تابعونا على: